كل الكتّاب عميان يحتاجون إلى عيني امرأة تقرأ

«القارئ الأخير» لريكاردو بيجيليا

دوستويفسكي
دوستويفسكي
TT

كل الكتّاب عميان يحتاجون إلى عيني امرأة تقرأ

دوستويفسكي
دوستويفسكي

من عنوانه يبدو كتاب الأرجنتيني ريكاردو بيجيليا «القارئ الأخير» نصاً آخر حول القراءة التي باتت باباً جذاباً من التأليف، لكنه أوسع من ذلك. هو في الحقيقة عن الكتابة، عن ماهية الأدب، يتوقف فيه مطولاً أمام نصوص تولستوي، وجيمس جويس، وكافكا، وإدغار آلان بو، وسرفانتيس بالطبع. وضمن هذه الوقفات المطولة، يستشهد بكثير من النصوص الأخرى. وهو بالقدر نفسه كتاب عن قارئ الأدب في ظروفه المختلفة، وعن القارئ داخل الرواية.
صدر الكتاب هذا الشهر عن منشورات المتوسط، في ترجمة عن الإسبانية أنجزها الروائي المصري أحمد عبد اللطيف.
وفي واحدة من أعلى مطالع الكتب، يبدأ بيجيليا بحكاية عن مصور فوتوغرافي يحتفظ بنموذج مصغر لمدينة شيده بطريقته الخاصة لكي تبدو مدينته قريبة متعددة، بعيدة هائمة، تبدو فيها الميادين والشوارع والضاحية التي تتلاشى وتضيع في الحقول؛ المدينة الصغيرة هي بوينس آيرس معدلة ومصابة بالجنون، وخاضعة لرؤية بانيها.
يعيش الرجل من التصوير، أي من مهنة تمثيل واختزال للواقع، ويخرج من بيته نادراً، ويعمل دورياً على إعادة تشييد الجهة الجنوبية من مدينته بعد أن يطمسها الفيضان في كل خريف، وبهذا يتجاوز نموذجه علاقات «التمثيل» بين بوينس آيرس الواقعية ونموذجها المصغر، لتبدو المدينة الحقيقية هي المختبئة في بيته، وتبدو الأخرى مجرد سراب أو ذكرى!
يسمح المصور للراغبين برؤية مدينته الصغيرة، لكنه لا يسمح إلا بزائر وحيد في كل مرة، وهكذا خلق الرجل عالماً موازياً يتطابق مع مفهوم عزرا باوند عن الكتابة، ومفهوم كلود ليفي شتراوس عن الفن بصفته نموذجاً معقداً عن الواقع، يختلف عنه بأنه يعمل على نطاق صغير.
وبعد أن يضعنا بيجيليا أمام شرط العزلة الضروري لدخول نطاق القراءة الصغير، يسأل: ما القارئ؟ في صورة فوتوغرافية يجلس بورخيس مقرفصاً في دهليز، وفوق عينيه كتاب يحاول فك رموز حروفه. هو القارئ الأخير الذي واصل القراءة حتى فقد نور عينيه.
مدمن القراءة والقارئ المتيقظ دائماً يعدهما الكاتب تمثيلين متطرفين لما تعنيه قراءة نص، ويمثلان تجسيدات سردية لحضور القارئ المعقد في الأدب. هذا النوع يستحق أن نسميهم القراء الأنقياء، حيث لا تكون القراءة مجرد ممارسة لنشاط، بل أسلوب حياة. وبالتركيز على أشكال ولحظات التلقي، يحدد ريكاردو بيجيليا مشروعه بصفته كتابة عن القارئ، لا القراءة.

قارئ القارئ
أصل القارئ المنعزل هو بورخيس الذي سيعود إليه الكاتب دائماً، وهذا طبيعي، فذلك هو الرجل الذي وحَّد بين فعلي القراءة والكتابة، حيث يقوم مشروعه على قصص كانت موجودة من قبل، تدخل إلى بورخيس القارئ بشكل وتخرج من بورخيس الكاتب بتضعيفات لعبة المرايا التي يلعبها جيداً.
القارئ بورخيس والقارئ الذي اخترعه يقيمان في النص انطلاقاً من الفضاء الذي يفتحه بين الكلمة والحياة. بورخيس هو القارئ الأكثر إبداعاً منذ دون كيخوتة، وهو القارئ الأكثر تراجيدية، ليس كقارئ كافكا الذي يجلس في غرفة تطل على جسور براغ في ظلام الليل، لكنه قارئ في تيه مكتبة، يقرأ سلسلة من الكتب، وليس كتاباً معزولاً، قارئ مبعثر في اقتفاء الأثر داخل نص. وثمة شيء مفقود أو مستبعد يقطع انسجام النص، وفي ذلك الغامض تكمن الفنتازيا، ويجد القارئ نفسه في مواجهة التكاثر واللانهائية. من هذا التوليد الذي يقوم به القارئ، نشأ رفض بورخيس للاعتقاد بانغلاق فرصة الكتابة أمام الأجيال: «اليقين بأن كل شيء قد كُتب يلغينا، ويحولنا إلى أشباح»، لهذا كان حريق المكتبة في نصوصه هاجساً براحة مستحيلة.

كافكا والناسخة
في يومياته، يصف كافكا الآنسة فيليس باور التي التقى بها في بيت صديقه ماكس برود عندما ذهب ليُسلمه مخطوط كتابه الأول عام 1912: «بدت لي خادمة. لم أشعر بأدنى حد من الفضول لأعرف من هي، لكني في الحال تفاهمت معها». يبدأ في مراسلتها. هكذا يحافظ على عزلته، ويستحضر المرأة إلى تلك العزلة بالصفة التي يريدها هو: المرأة القارئة. يختبرها بقراءة الخطابات أولاً، بعد ذلك تصبح قارئة للمخطوطات. القارئة الخادمة التي يجب أن تظل مقيدة إلى كتابته. وهكذا تصبح المرأة الصورة العاطفية التي تسمح بتوحيد الكتابة مع الحياة.
وفي ليلة اللقاء الأولى، يتلقى كافكا هدية أخرى عندما يكتشف أن الآنسة ناسخة، فتتحول من صورة المرأة التي تقرأ إلى صورة المرأة التي تنسخ النصوص على الآلة الكاتبة التي شاعت في ذلك الوقت، ولا يستطيع أن يستعملها بنفسه، لأن ضرباتها تقطع خط إلهامه؛ المرأة صارت آلة نسخ.
ثمة صور للمرأة بصفتها آلة نسخ قبل كافكا. آنا غريغوري سنيتكينا، ناسخة الاختزال التي التقى بها دوستويفسكي في أكتوبر (تشرين الأول) 1866 ليملي عليها رواية المقامر، وبعد شهر طلب يدها ثم تزوجها في فبراير (شباط) من العام التالي. وفيرا نابوكوف، المرأة التي تمشي بمسدس لتحمي زوجها، وتساعده في دروسه، وهي قبل كل شيء ناسخة نصوصه. ثمة علاقة شبيهة تربط بورخيس بالنساء، قارئات وناسخات، ومن ملاحظة أن بورخيس كان أعمى، ينتهي بيجيليا إلى الخلاصة: كل الكُتّاب عميان، تعوزهم نظرة شخص آخر، نظرة امرأة عاشقة تقرأ.

القراءة والجريمة
أحدث تمثيل لصورة القارئ هو المتحري السري، ليس بصفته الرمزية قارئ بصمات، بل لأن هذا النوع الأدبي ولد في مكتبة. المشهد الأول في رواية إدغار آلان بو «جرائم شارع مورج - 1841» التي أسست لرواية الجريمة يجري في مكتبة بشارع مونمارتر، حيث يتعرف الراوي مصادفة على أوجست دوبين، كلاهما يبحث عن كتاب نادر رفيع، لا نعرف ما هو مثلما لا نعرف الكتاب الذي كان هاملت يقرأه حين زاره شبح أبيه.
دوبين رجل أدب مهووس بالكتب، معزول اجتماعياً. وهذا شرط يميز رجل التحري عن البشر العاديين، شخص لا يقيم علاقات مع المجتمع، وليست لديه أسرة، وهذه صورة كافكا المنعزل. هي صورة العازب في فضاء استقلال متطرف، شرط لامتلاك رجل التحري القدرة على القراءة والتحليل. ويتابع بيجيليا حضور الأدب والقراءة في الرواية البوليسية لدى كثير من الكتاب بعد بو.

القراءة باب الموت
القراءة في أوقات الخطر. القراءة المتطرفة، خارج المكان، في ظروف الخسارة، ظروف الموت، أو أياً كان التهديد بالتدمير. القراءة تعارض عالماً كريهاً، مثل مخلفات حياة أخرى وذكرياتها. وهناك صورة فريدة لجيفارا في بوليفيا كان يقرأ فوق شجرة، وسط تجربة الفرقة المحاربة المطاردة. وقد ظل جيفارا حتى موته وفياً لما قرأه، وربما كانت حياته ذاتها إعادةً وتكراراً لنموذج تعلق به من القراءة. يكتب تشي في مشاهد من الحرب الثورية: «سريعاً ما فكّرتُ في أفضل طريقة أموت بها في تلك اللحظة، وقد بدا أن كل شيء قد ضاع. تذكرتُ قصة قديمة لـجاك لندن، حيث يستعد البطل المتكئ إلى جذع شجرة لإنهاء حياته بكرامة، عندما عرف أنه محكوم عليه بالإعدام مجمداً في المناطق المثلجة بـألاسكا».
يعثر جيفارا في القراءة على النموذج المناسب لموته، وقد مات بكرامة مثل شخصية في قصة منسية بتاريخ الكتابة، مثلما عثر دون كيخوته في روايات الفروسية عن نموذج الحياة التي يريد أن يعيشها؛ إنها الثقافة التي تقولب التجربة.
ويتوقف بيجيليا أمام المشهد الشهير لآنا كارنينا وهي تقرأ كتاباً في القطار. ثمة رغبة من الرواية في تثبيت صورة المرأة بصفتها مستهلكاً لفن السرد. كان تولستوي مثل أدباء عصره منبهراً بالقطار، لكن هناك معنى أبعد للقراءة في القطار؛ معنى الرحلة داخل رحلة. في أي ظرف آخر، يتوغل القارئ، ويكتشف التوازي بين رحلته ورحلة البطل في العمل الذي يقرأ.
وترسم رواية تولستوي صورة لقارئة تفك شفرة حياتها من خلال الروايات الخيالية، هكذا يتجلى التوتر بين التجربة الحياتية المملة وتجربة القراءة العظيمة. وحينئذ تظهر البوفارية (نسبة إلى مدام بوفاري) الحلم بحياة الرواية بصفتها طموحاً لما نفتقده في الحياة الواقعية. أنا وبوفاري محاولتان للهروب من الحياة إلى الرواية قادتهما إلى الموت، وثمة تجارب تفعل العكس. ينقلب الخيالي إلى واقعي.

القراءة الأصعب
ينتهي بيجليو بتأمل متأنٍ طويلٍ لـعوليس، رواية جيمس جويس؛ النص الروائي الأصعب. ويعنون الفصل بـ«كيف صُنعت عوليس»، في نوع من التحية للروسي فيكتور سيكلوفسكي، صاحب دراسة «كيف صُنعت دون كيخوته»، مثنياً على تفرد طريقة الروس في قراءة الأدب، حيث يبحثون عن المعنى من خلال الشكل والبناء. ويقتبس كذلك عن نابوكوف قوله «القارئ الجيد، القارئ المثير للإعجاب، لا يتماهى مع شخصيات الكتاب، إنما مع الكاتب الذي ركب الكتاب». هذه الطريقة الروسية لامتلاك النصوص يراها ملائمة للاقتراب من رواية جويس الذي قال رداً عن سؤال حول عنوان روايته، والعلاقة مع نص هوميروس عن عوليس الأصلي، فقال إنه النظام الذي أعمل به. هكذا، علينا أن نبحث عن الأوديسة في البنية المختبئة والممحوة في عوليس جويس.
وحتى نهاية الكتاب، يؤرقنا العنوان: لماذا القارئ الأخير؟ لا يضع بيجيليا نقطة الختام قبل أن يريحنا، مستنداً إلى مقولة فيتغنشتاين: «في طريق الفلسفة، يربح من يستطيع الركض بتأنٍ، أو ذاك الذي يصل الأخير إلى هدفه». والقارئ الأخير يستجيب ضمنياً لهذا البرنامج.



«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو
TT

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

«عشبة ومطر»... سيرة سنوات المحو

في روايتها «عشبة ومطر» دار «العين» للنشر بالقاهرة - تختار الكاتبة الإماراتية وداد خليفة الثقافة العربية سؤالاً مركزياً حائراً بين واقع مشوّش ومستقبل مجهول، حيث تبدو اللغة والتاريخ وكأنهما ينازعان أنفاسهما الأخيرة للصمود داخل قِلاعها العربية نفسها.

وتعتمد الروائية على تقنية الأصوات المتعددة لتعميق صراعات أبطالها مع عالمهم الخارجي، حيث تتشارك كل من بطلة الرواية «عشبة» وابنها «مطر» في نزعة تراثية جمالية يتفاعلان من خلالها مع دوائرهما التي يبدو أنها تتنصّل من تلك النزعة في مقابل الانسحاق في مدّ «الثقافة العالمية» المُعلبّة، ولغة التواصل «الرقمية»، فتبدو بطلة الرواية التي تنتمي إلى دولة الإمارات وكأنها تُنازِع منذ أول مشاهد الرواية من أجل التواصل مع محيطها الأسري بأجياله المتعاقبة، حيث تُقاوم النزعة «السائدة» في ذلك المجتمع العربي الذي بات أفراده يتحدثون الإنجليزية داخل بيوتهم، ولا سيما أجيال الأحفاد وسط «لوثة من التعالي»، «فهؤلاء الأبناء لا يعرفون من العربية سوى أسمائهم التي يلفظونها بشكل ركيك»، في حين تبدو محاولات «عشبة» استدراك تلك التحوّلات التي طرأت على المجتمع الإماراتي أقرب لمحاربة طواحين الهواء، فتأتيها الردود من محيطها العائلي مُثبِطة؛ على شاكلة: «لا تكبّري المواضيع!».

صناديق مفتوحة

يتسلل هذا الصوت النقدي عبر شِعاب الرواية، فتبدو «عشبة» مهمومة بتوثيق العلاقة مع الماضي بذاكرته الجمعية التي تتقاطع مع سيرتها الشخصية منذ تخرجها في معهد المعلمات بإمارة الشارقة وحتى تقاعدها، لتعيد تذكّر تفاعل جيلها مع كبريات التغيّرات السياسية سواء المحلية، وعلى رأسها المخاض الطويل لاتحاد الإمارات العربية المتحدة، وحتى سياقات الحروب والنكبات العربية منذ حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وصولاً لمجازر «صبرا وشاتيلا» الدامية في لبنان 1982 والنزف الفلسطيني المُستمر، في محطات تجترها البطلة بعودتها إلى قصاصات الأخبار التي ظلّت تجمعها وتحتفظ بها من مجلات وصحف عربية لتؤرشفها وتُراكمها عبر السنوات داخل صناديق، ليصبح فعل تقليبها في هذا الأرشيف بمثابة مواجهة شاقّة مع الماضي، بينما تبدو الصناديق والقصاصات الورقية مُعادلاً للحفظ الإلكتروني والملفات الرقمية التي قد تتفوق في آلياتها وبياناتها، وإن كانت تفتقر إلى حميمية الذكرى، وملمس المُتعلقات الشخصية التي تنكأ لديها جراح الفقد مع كل صندوق تقوم بفتحه: «أعدت غطاء الصندوق الذي يحتاج مني إلى جرأة أكبر لنبشه، ففي الصندوق ثوب فلسطيني طرَّزته أمٌ ثكلى من بئر السبع... أم صديقتي سميرة أخت الشهيد، ودفتر قصائد نازقة دوّنته صديقتي مها من غزة... صورٌ لزميلاتي بالعمل من جنين ونابلس ورام الله... رسائل من صديقتي ابتسام المقدسية... ومن حيفا مفارش مطرزة من صديقة العائلة أم رمزي».

بالتوازي مع تنقّل السرد من حكايات صندوق إلى آخر، يتصاعد الصراع الدرامي لبطل الرواية «مطر» الخبير في تقييم التُحف، الذي يقوده شغفه بمجال «الأنتيك» والآثار القديمة لتتبع مساراتها في مزادات أوروبية تقترب به من عالم عصابات مافيا القطع الأثرية، كما تقوده إلى الاقتراب من حكايات أصحاب القطع الأثرية التي تُباع بالملايين في صالات الأثرياء، كحكاية «مرآة دمشقية» ظلّ صاحبها يتتبعها حتى وصلت لقاعة مزادات «كريستيز» حاملاً معه ذكرى حكاية جدته وأسرته وتشريدهم، وتصنيعهم تلك المرآة بأُبهتها الزخرفية والفنية في غضون ظروف تاريخية استثنائية خلال فترة سيطرة الحكم العثماني في دمشق.

نهب ممنهج

تبدو الرواية التي تقع في 350 صفحة، وكأنها تمنح حضوراً سردياً للقطع الأثرية المفقودة، والمنهوبة، بصفتها شواهد تاريخية تتعقب «تُجار الممتلكات الثقافية»، ودور المزادات، وأمناء المتاحف، وسط متاهات تزوير الوثائق الخاصة بالقِطع وشهادات المنشأ، وتهريب القطع من بلادها، ولا سيما بعد الربيع العربي والحروب الأهلية التي أعقبته، لتفتح ساحات السرقة الممنهجة للآثار في المواقع الأثرية العربية، كما في تونس ومصر وسوريا والعراق، في حين تبدو قصص القطع المفقودة أُحجيات تتبعها الرواية وتحيكها بخيوط نوستالجية تمدّها الكاتبة على امتداد السرد.

تعتني لغة الرواية بالوصف الدقيق للتفاصيل الجمالية التي تبدو في صراع متواتر مع تيار محو أعنف، كقطع السجاد الأصيل وأنواله التقليدية، والزخارف الغرناطية العتيقة على الأسطح، في مقابل ثقافة «الماركات» الاستهلاكية التي تُميّع الذوق العام، والحروف اللاتينية التي تُناظر الحروف العربية وتُغيّبها في لغة الحياة اليومية.

وقد حازت رواية «عشبة ومطر» أخيراً جائزة «العويس للإبداع»، ومن أجواء الرواية نقرأ:

«كنتُ قصيراً، أقفز كي تلمس أطراف أصابعي مطرقة الباب، وبعد أن كبرت قليلاً، وأصبحت أمسكها بيدي، استوقفني شكلها الذي صُنع على هيئة يد بشرية، ثم أدركت أن هناك مطرقتين فوق بعضهما، تعجبت، وسألت أمي عن السبب فقالت: (كانت لدروازتنا مطرقة واحدة، لكن والدك أبهرته فنون بغداد، فجلب منها مطرقتين، مثبتاً المطرقة الأكبر في الأعلى للرجال والمطرقة الأصغر أسفل منها للنساء، ليختصر بذلك السؤال عن هُوية الطارق، فكنا نُميّز الطارق رجلاً أم امرأة من صوت المطرقة)... بِتُ أنصت للطَرق، كنت أعرف طرقات أمي الثلاث، وتعرف أمي طرقاتي المتسارعة، كان هناك طَرقٌ مُبشر، وطرقٌ يخلع القلب، طرق هامس مُدلل، وطرق يُشبه كركرة الأطفال».