«يوتيوبر» طبخ عربية تمنحها إيطاليا سحر «التكنيك»

معجنات وحلويات أدخلتها إلى عالم «ألف ليلة وليلة»

«يوتيوبر» طبخ عربية تمنحها إيطاليا سحر «التكنيك»
TT

«يوتيوبر» طبخ عربية تمنحها إيطاليا سحر «التكنيك»

«يوتيوبر» طبخ عربية تمنحها إيطاليا سحر «التكنيك»

«ما بال صابرين توقفت عن نشر وصفات جديدة لمخبوزاتها وحلوياتها»، تساؤل يشوبه القلق راود الكثير من متابعي الطاهية الفلسطينية ممن انهالت رسائلهم على بريدها؛ أرادوا أن يطمئنوا على حالها، متمنين ألا يكون قد أصابها مكروه؛ وذلك بعد أن تفشى فيروس كورونا في أرجاء إيطاليا.
هذا المؤشر لقوة العلاقة معهم أسعدها كثيراً؛ فخرجت عليهم بفيديو تخبرهم أن ظروف الحجر الصحي تقيد حركتها ونشاطها.
تقول «يوتيوبر الطبخ»، إن السادة المتابعين لهم حق عليها بأن تطلعهم بين وقتٍ وآخر على جانب من حياتها الشخصية، كأن تصطحبهم كاميرتها إلى مشوار من يومياتها يبدأ بساعة باكرة تستقلّ فيه دراجتها متجهة إلى العمل.
- صابرين طه تعيش في إيطاليا منذ 16 عاماً؛ وتتعاون مع شركاتٍ غذائية للترويج لمنتجاتها بواسطة تحضير وصفات على طريقتها الخاصة.
- قَدمت إلى بلادٍ بعيدة لدراسة الطهي في معهد إيطالي- ألماني لأربع سنوات؛ واجتهدت كثيراً لتصل إلى مرحلة امتلاك متجرٍ للمعجنات استمرت فيه لأربعة أعوام ونصف العام، لكن أمومتها شكّلت ضغطاً هائلاً في تقسيم وقتها بين إدارة متجر يتطلب ساعات طويلة وبين احتياج أطفالها لها، حيث لا سند لديها إلا زوجها بحكم أن عائلتها لا تعيش بالقرب منها.
- قبل بضعة أشهر اضطرت آسفة إلى اتخاذ قرار بإغلاقه والتفرغ لقناتها على «يوتيوب» ساعية إلى «التركيز على التكنيك»؛ فمن وجهة نظرها أن في الطبخ تكنيكاً دقيقاً؛ تتحقق به الوصفة المثالية؛ ومهما كان المرء هاوياً متمرساً فإنه لن يكتسبه إلا في معاهد الطبخ.
- ومما يلفت الانتباه أن عدداً من «أصحاب القنوات» باتوا يأخذون من وصفاتها، حيث تعمد إلى تنفيذها بطرقٍ مُبسطة تشرحها بصوتها الرخيم.
> عن تأثير نشأتها
سألناها عن سر التنوع في شخصيتها الطهوية؛ فقالت، إنها تشكلّت جرّاء تنقل عائلتها بين الكثير من دول العالم نظراً لطبيعة عمل والدها؛ مما تسنى لها التعرف على تقاليد البلدان في الطبخ؛ إذ تنحدر أصولها من مدينة الناصرة فيما أمها تونسية الجنسية، وهذا وحده أكسبها غِنى؛ بالجمع بين عراقة مطبخ المغرب العربي والمطبخ الشامي بخيرات أرضه- خاصة زيت الزيتون الفلسطيني- وكلاهما لا تتسع لجمالهما السطور، بحسب تعبيرها، ثم بقدومها إلى أوروبا للدراسة تعلمت المطابخ الغربية، لتزخر حصيلتها أكثر.
ابتسامتها تسبق حديثها عندما تقول «في مطبخ بيتي تتوفر البهارات العربية والغربية والمغربية على حدٍ سواء، لأدمج بين الوصفات بما يروق لي؛ كأن أحضّر لازانيا وأدخل فيها (منزّلة الباذنجان).
البنت الوحيدة بين إخوانها الذكور، كانت أحلى أيامها تلك التي شاركت فيها أمها الطبخ وراحت بفضولٍ ومرح تحاول معرفة ما يدور داخل «الطنجرة» فتلسعها وربما تحرق أصابعها، لكن هذه الصغيرة لا تتوب! والذكرى الأجمل التفاف العائلة حول «الطبلية» للفّ ورق العنب ونسج الأحاديث الدافئة فيما بينهم، إذن لا عجب أن الطعام من وجهة نظرها معجونٌ بالذكريات، بدليل «ورق العنب» الذي بقي محطّ مشاعرها الفياضة.
عندما سافرت صابرين طه إلى إيطاليا في عمر باكر «مرحلة الثانوية»؛ انعقد لسانها ذهولاً ما أن دخلت بوابة الأحلام التي فُتحت لها في أحد معاهد الفندقة العالمية... وكأن حكايات «ألف ليلة وليلة» صارت ملء يدها، ففي المعهد تعرفت على مختلف المطابخ العالمية و«البارات»، وتقصد بها فنون تحضير القهوة؛ كان عالماً شاسعاً، هناك أقسام لتعليم الحلويات؛ وأخرى للمخبوزات والمعجنات؛ واللحوم، ولإعداد الشاي والمشروبات أيضاً؛ تبعاً لكلامها.
- وعن فضل إيطاليا في صقل وتطوير موهبتها، تخبرني أنه لولا انتقالها للإقامة فيها لما أخذت من كل بستان وردة، وتقصد بذلك تشربّها أبجديات المطبخ الإيطالي والألماني والفرنسي، مردفة بالقول «المعاهد هنا مجهزة من الألف إلى الياء، والصرح الذي تعلمتُ فيه يتكفل بنفقات الدراسة لكل الطلبة بلا استثناء، وإلا كنت تكبدت مبالغ طائلة لو درست في دولة أخرى حتى أتشبّع بهذا القدر من الخبرة».
- في بلاد الغربة بمفردها؛ عاركت صعوبات اللغة والتأقلم مع مجتمع جديد ونجحت؛ ثم أسسّت أسرة جميلة ومستقبلاً واعداً؛ تصارحني صابرين بما أسرّته في داخلها منذ اللحظة الأولى من وصولها؛ أنها ستكون يوماً في مصاف خبراءٍ صنعوا نجومية الطعام لدولتهم.
- أجول بنظري في قناتها بين خبز النمر العجيب وخبز فلورنسا الذهبي ودانتيل الشوكولاتة؛ ثم أسألها «أي المطابخ تأسرك أيتها السيدة؟»... تقول على الفور «المطبخ الفرنسي (بياخد العقل) بذوقه الفني الرفيع في تقديم الحلويات بطرقٍ لا تخطر على البال، أما المطبخ الإيطالي أمتنّ له بتعدد أنواع معجناته، ناهيك عن الباستا والصلصات، وكذلك المطبخ الياباني المدهش بأسلوبه في تقديم الأطباق البسيطة بحرفية تُرفع لها القبعّات».
> أسرار النجاح
في الحديث الشائق؛ تناولت «الشرق الأوسط» مع صابرين الكثير من المَحاور، نوردها على النحو التالي:
- «لطفاً لا تنسي: المعجنات طفلٌ يحب الدلال»... يا لها من نصيحة مخلصة تفوّه بها أحد الطهاة أثناء دراستها، فالمُنتج الفني البديع من المخبوزات أو الحلويات يتطلب وقتاً وصبراً وعناية أكثر من الجهد نفسه، وكم يبدو «الدلال» متباهياً في وصفاتها.
- العمل في الميدان يختلف كلياً عن الدراسة الأكاديمية أو حتى الطهي في البيت؛ إنه يضع الإنسان في قلب الخبرة؛ ليصبح قادراً على العمل تحت الضغط وحسه في المسؤولية أعلى ومراعياً للدقة الفائقة؛ لأن الطلبيات لا تحتمل التأخير عن موعدها... خلاصة تلمح بها صابرين إلى الهواة ليتذكروا أن عاماً من الحياة العملية يساوي ثلاثة من الدراسة.
- امتلاك متجرٍ خاص للحلويات في شمال إيطاليا؛ لم يحدث بين يوم وليلة، فقد امتثلت للقانون الذي يقضي بضرورة توفر الخبرة بما لا يقل عن عامين في الفنادق أو المطاعم؛ حتى تجيد التعامل مع الأطعمة وطرق حفظها وتخزينها.
- بعد تجربة طويلة؛ تبيّن لها أن المكونات البسيطة الجيدة من طحينٍ وسكر وشوكولاتة وبكينج باودر وخلافه كفيلة بإخراج منتج رائع، بل يمكن إنتاج أكثر من 300 نوع من المعجنات؛ مما يعني أن طاولة فارغة بوسعنا أن نجعلها «سفرة عامرة و«الجود في الموجود»؛ نهجٌ أثبت حقاً نجاعته في قناتها على «يوتيوب».
- في ضوء انتشار قنوات الطبخ العربية، والتي - بحسب رأيها - «كثير منها أرقام ليس إلا»، فإن القناة التي تستحق التقدير؛ تنشر وصفات مضمونة النتائج؛ إلا أن هناك ما هو أهم؛ تواصل الحديث بقولها «لنركز على التكنيك والمعلومات الصحيحة؛ ومن المهم التحذير بشأن الخطوة التي قد تتسبب بفشل الوصفة تماماً؛ في حين أنه من الممكن بخطوة واحدة صحيحة أن نضمن نجاحها، وبالتالي يتوجب أن ننّبه بخصوصها».
كل ما سبق توجزه بسرد أسرار نجاح الوصفة للمتابعين عبر شرحٍ وافٍ وجذاب، لا سيما فيما يتعلق بوضع المكون الأساسي في الوقت الصحيح، مع التنويه لبعض التفاصيل التي قد لا يدرك البعض أثرها «مثل إضافة الحليب البودرة إلى المعجنات لأجل عجينة لينة، وإضافة السكر لإعطاء الخميرة مفعولاً ولوناً مميزاً للعجائن».
> لا مكان لندب الحظ
يحلو للشابة المقبلة على الحياة أن تغنّي أثناء الطهي؛ فالمطبخ بالنسبة لها كنادي يوغا تسترخي فيه وتُهدّئ من عصبيتها، وفي «المختبر» كما تسميه لا مجال لندب الحظ عند فشل وصفة ما؛ ومن دون الصبر وضبط النفس في الأوقات الحرجة يفسد كل شيء... تقول صابرين لـ«الشرق الأوسط».
تشاركنا في موقف حدث معها أثناء عملها في فندق قبل سنوات؛ كانت منهمكة مع الفريق في تحضير كعكة بطوابق عدة لعرس، وبعد جهد جهيد وفي لحظة الاستعداد لإدخال القالب إلى القاعة ليتزامن مع موسيقى دخول العروسين، انقلبت الكعكة رأساً على عقب؛ وعلى مرأى من الناس، تحكي لنا «كنا في وضع لا نحسد عليه؛ بالكاد أخذت نفساً عميقاً وكتمت غضبي؛ لا خيار أمامنا إلا إصلاح ما حدث... مجدداً جهزنا قالباً من طابق واحد أثناء ساعات الفرح وقدمناه هدية للعروسين».
ومن إحدى مهارات الطاهية الصاعدة؛ العثور على طرق عدة للتعامل مع منتج فاشل بابتكار طبقٍ جديد وشهي منه وبأقصى سرعة.
ربات البيوت غالباً ستصغينّ لنصيحتها «طالما أن نعمة الله موجودة بين يديّنا فلماذا لا نُعمل العقل؟! لا أبالغ... ستتدفق أكثر من مائة فكرة تتشعب عن مجرد كيك إسفنجي غير ناجح مثلاً بدلاً من إلقائه في القمامة، وأبسطها (حشوات الشوكولاتة)» أو حلا الكاسات)».
وتذكر أنه بفتات الخبز يمكن مفاجأة عائلتك بأنواع عدة من التيراميسو، وفي الفنادق؛ الفائض من كيك الأعراس يتم حفّه من الأطراف، ومن ثم تجميع الزوائد المتراكمة لإنتاج حلويات للبيع، مثل كرات التمر أو اللوتس، وكذلك الحال في معجنات الكرواسون قد تخفق معنا العجينة المورقة، وعندئذٍ يكون من الجيد أن تخطر لنا «أم علي» أو بودنج الخبز بالزبدة».
أما علم «الشوكولاتة» المتجدد، فلا تكتفي عاشقة مثل صابرين منه، وحتى ترتوي أكثر التحقت مدة عام بدورة تدريبية بمصنع متخصص في سويسرا... تستفيض بقولها «هي وعجينة السكر تحسنّان مزاجي بعد أن أرى مكونات أولية قد تحولت بأناملي إلى لوحة ناطقة»؛ في حين أن حبها وسعادتها يكبران مع الداكنة منها بحسب حديثها.
وبالعودة إلى القناة؛ فإن صاحبتها عادة تولي تعليقات المتابعين اهتماما وتتعاطف إن لزم الأمر، مضيفة «ذات مرة أرسلت لي أم تحدثني عن طفلها المصاب بـ(حساسية الجلوتين)، ورغبته في أن أنشر وصفات حلوى لا تسبب الحساسية حتى يحظى بتناولها كأخوته، لبّى قلبي طلبه وبدأت في تخصيص وصفات للأطفال الذين لديهم مشاكل صحية ولمرضى السكري».
رأسها يبدو مليئاً بالطموحات؛ وأياً كان ما حققته أو ستحققه؛ فإنها لا تبخل على نفسها التي «تنافسها وحسب» بنجمة متألقة كلما حققت هدفا لتشجعها بأعلى صوت «برافّو صابرين»، فتقدير الذات والتصالح معها «قانونها الفعال».


مقالات ذات صلة

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

مذاقات البهارات في مصر كانت تستخدم في الماضي للتحنيط والعلاج (شاترستوك)

هل تأثرت توابل المصريين بالجاليات الأجنبية؟

«رشّة ملح وفلفل»، معادلة مصرية تعود إلى الجدات، تختصر ببساطة علاقة المطبخ المصري بالتوابل، والذي لم يكن يكترث كثيراً بتعدد النكهات.

إيمان مبروك (القاهرة)
مذاقات مبنى «آر إتش» من تصميم المهندس المعماري البريطاني السير جون سوان (الشرق الأوسط)

«آر إتش» عنوان يمزج بين الأكل والأثاث في حضن الريف الإنجليزي

سحر الريف الإنجليزي لا يقاوم، وذلك بشهادة كل من زار القرى الجميلة في إنجلترا. قد لا تكون بريطانيا شهيرة بمطبخها ولكنها غنية بالمطاعم العالمية فيها

جوسلين إيليا (لندن)
مذاقات طبق الكشري المصري (شاترستوك)

مبارزة «سوشيالية» على لقب أفضل طبق كشري في مصر

يبدو أن انتشار وشهرة محلات الكشري المصرية، وافتتاح فروع لها في دول عربية، زادا حدة التنافس بينها على لقب «أفضل طبق كشري».

محمد الكفراوي (القاهرة )
مذاقات مطعم "مافرو" المطل على البحر والبقايا البركانية (الشرق الاوسط)

«مافرو»... رسالة حب إلى جمال المناظر الطبيعية البركانية في سانتوريني

توجد في جزيرة سانتوريني اليونانية عناوين لا تُحصى ولا تُعدّ من المطاعم اليونانية، ولكن هناك مطعم لا يشبه غيره

جوسلين إيليا (سانتوريني- اليونان)
مذاقات حليب جوز الهند بلآلئ التابيوكا من شيف ميدو برسوم (الشرق الأوسط)

نصائح الطهاة لاستخدام مشتقات جوز الهند في الطهي

حين تقرّر استخدام جوز الهند في الطهي، فإنك ستجده في أشكال مختلفة؛ إما طازجاً، مجفّفاً، أو حليباً، أو كريمة، وثمرة كاملة أو مبشورة.

نادية عبد الحليم (القاهرة )

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
TT

«Badguèr» يُرفق الأطباق بأنشطة ثقافية تُحيي التقاليد

أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)
أيدي الأرمنيات تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه (صور أربي منكاساريان)

تُكثِر المهندسة المعمارية، أربي منكاساريان، سرد حكايات الماضي لسبب قد لا يفهمه مَن يظنّ أنه يقصد مطعمها «Badguèr» في منطقة برج حمّود، مدينة الأرمن في لبنان، لمجرّد تناوُل الطعام. الآتي، سيسمع. لا بدّ أن يلمح في عينَي الأرمنيات المنكبّات على إعداد الأطباق، بريقاً على شكل مرايا تعكس الصور. جميعهنّ لا يعددن الأكل لملء البطون، بل لإحياء الإرث والتباهي به. الأكل تذكيرٌ بأنّ النجاة تشكّل تمريناً على الحبّ، وإن عذَّبت أحمال الذاكرة وأثقلت المسار.

أبعد من مجرّد تناوُل طعام (صور أربي منكاساريان)

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة. مبناه من طبقتين: الأرضية تفترشها الطاولات والكراسي، وفي أرجائها يُلمح انهماك النساء الأرمنيات من أجل تحضير القوائم اللذيذة. وفي الطبقة الأولى، مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين لعرض ما يُنجزون. تقول أربي منكاساريان لـ«الشرق الأوسط» إنّ المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ. فما تبتكره الأنامل من أحذية، وحقائب، ومجوهرات، وسائر الحِرف التي يشتهر بها الأرمن ويُجيدونها، مردُّه شغف التميُّز والإبقاء على الإحساس بجدوى الحياة. تلك الحياة المسلوبة من أسلافهم، فقرّروا مَنْحها بعظمة الحبّ على هزيمة الموت.

من اليمين... أربي منكاساريان وضيوف المطعم (حسابها الشخصي)

كبُرت أربي منكاساريان وهي تسمع الحكايات وتمتلئ بها. وبين القصة والأخرى، تحدُث استراحة مع الرقص والموسيقى. فالمكان حيث نشأت وأقامت ألِفَ النغمات وأحبَّها وجعلها بعض عاداته. «تهجَّر الأرمن، وتهجَّر معهم تاريخهم وثقافتهم. منذ الطفولة وأنا أتأمّل هذه المعادلة. سمعتُ ورأيتُ، ونشأتُ على وَقْع السرد. حفظتُ الحكايات وسجَّلتها ذاكرتي. رسّختُها لرفضي النسيان».

وُلد المطعم عام 2010 من دون تخطيط مسبق، ليصبح جامع الناس على الأكل الأرمني. اشترت منكاساريان عقاراً صدَفَ أنه عُرض للبيع، أملاً في إيجاد مساحة لهو لوالدها التسعيني المولع بلعب الطاولة واللَّمة مع الأصدقاء. ثم وجد المكان نفسه يتحوّل إلى مساحة حكواتية. كل طبق يُخبر قصة. وكل يد تجبل الإرث الغذائي بشغف السعي إلى صونه والتعريف به. تقول المؤسِّسة إنّ الوافدين إليها بغالبيتهم أرمن، لكنّ ذلك لا يمنع الآخرين من تذوُّق ما هو أبعد من طعم. إنها مشاركة التجربة والنبش في الذاكرة. «حتى غير الأرمن تلفحهم رائحة التراث، ويكرّرون الزيارة. يجدون في المكان حكاية أجيال تجترح الإرادة من الاضطهاد والإصرار من الإبادة. ما تُقدّمه مُعدَّات الطعام ليس شكله وطعمه فحسب، بل الأهم روح أرمينيا».

يتجاوز المطعم التذوُّق إلى مُراكمة التجربة (صور أربي منكاساريان)

تروي تاريخ أسلافها، وتُبحر في التفاصيل. عن الأم المثقفة والجدّات مُتكبّدات المرارة. وعن الأحياء والناجين رغم قسوة ما حصل. الذاكرة مُحمَّلة بما قد يزن جبلاً. بمَن أُرغموا على ترك الأحبّة في منتصف الطريق نحو النجاة، ووجدوا أنّ الالتفات إلى الخلف مُكلف، وقد يدفعون ثمنه حيواتهم، فأكملوا السير. تتحدّث وتتحدّث وتتحدّث. تبدو كمَن يُقلّب صفحات كتاب. وكمَن يسرح أمام فيلم يُخبر الحكاية من البداية.

الأطباق بمثابة حكواتي ينتظر مَن يجتمع حوله ليحدُث البوح. «المائدة أرمنية، وعلى الإرث أن يبقى حياً». خلاصة حكايات أربي منكاساريان تصبح على هذا النحو: «خسرنا الأرواح والفرص والأرض. بعض أفراد العائلة لم يتعرّفوا إلى بعضهم الآخر. فرّقتهم السنوات. طعم المرارة الإنسانية جرّاء الحروب والانفصال والموت، يعلَقُ في الحناجر. حين تتعاظم الخسائر ينمو الحبّ. مَن رحلوا علّمونا الحبّ الكبير».

الطعام لإحياء الإرث والتباهي به (صور أربي منكاساريان)

هذه فلسفة «Badguèr» (يعني باللغة الأرمنية «صورة»)، وروحه المتداخلة بروائح البهار والوصفة الخاصة. «كما أحبّونا ورحلوا، نريد للحبّ أن يبقى. جعلونا نحبّ الأرض والموسيقى والفن والثقافة. لذا انقسم المكان إلى مساحة لحفظ الإرث الغذائي، وأخرى لحفظ الإرث الثقافي والحِرفي. جميع مَن أعمل معهم لديهم حكاية. أمي وعائلتها، وأبي وعائلته، وأنا».

مساحة ثقافية تشكّل متنفّساً لحرفيين وفنانين (صور أربي منكاساريان)

راقبت الأرمن وهم يحوّلون العادي إلى ابتكار. والدها رسام، عمل في سكة الحديد قبل التقاعُد. ووالدتها مولعة بالفنون. «من المهارات التي نشأتُ عليها، أردتُ جزءاً من المكان أن يتحوّل إلى فضاء للإبداع». مع الأكل، تُقام حفلات موسيقية وأنشطة ثقافية واجتماعية: «بالموسيقى نُحيي الحبّ العظيم. وبكل حقيبة أو قطعة مجوهرات أو حذاء يُصنَع. حفظُ الإرث الأرمني الغذائي والحِرفي هو ما يُبقي المطعم حياً طوال هذه السنوات».

المشهد بأسره يمثّل الحاجة إلى نشر الحبّ (صور أربي منكاساريان)

تنظر في عيون الآتين من أجل ذلك البريق الذي أمضت العمر تبحث عنه وتتوق إلى إيجاده وسط كل ما فُقِد: «أسمّيها الحرارة، وأراقب الوجوه من أجل أن أحظى بها. خليط ثقافتي الأرمنية وعلاقتي الفريدة بلبنان يمنحان الحبّ في داخلي قيمته. أحتكُّ بالإنسان لأتبادل معه مكنوناتي. الأرواح التي خسرناها علّمتنا أن نستعيدها في كل طبق، ومقطوعة تُعزَف، وصوت يغنّي، ويد حِرفيّ أرمنيّ تحوّل المادة إلى مهارة».