قصور مصر التاريخية... أيقونة العصر الذهبي لفنون العمارة

تعرضت ثروة مصر من القصور التاريخية للكثير من الفقد المأساوي بسبب الصراعات السياسية والإهمال المتعمد على مر القرون. ورغم ذلك فالقليل الذي نجا منها لا يزال يثير الدهشة بسبب طرزه المعمارية الباهرة وبراعة التصميم، كما أنه يشكل أيقونة لفنون العمارة بوصفها شاهد عيان على عصور كاملة من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عاشتها البلاد.
في كتابها «قصور مصر» الصادر حديثاً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تشير الباحثة سهير عبد الحميد إلى أن كثيراً من تلك القصور طُمست معالمها حين تحولت إلى مدارس أو مقرات لهيئات ووزارات، ولم ينجُ من «المذبحة» إلا تلك القصور التي شاء القدر أن تتحول إلى متاحف مثل قصر الأمير عمرو إبراهيم «متحف الخزف» وقصر الأمير محمد علي «متحف المنيل» أو مجمع الفنون الإسلامية.
- العودة إلى الجذور
تعود المؤلفة إلى جذور العمارة في مصر عبر مراحل تاريخية مختلفة في محاولة لرصد الأسس الفنية التي قامت عليها نهضة القصور في البلاد، حيث تشير إلى أنه كان بالقاهرة قبيل تولي محمد علي الحكم عُدد من القصور التي عني المسلمون بتشييدها كما في كل بقاع العالم الإسلامي. وفي عمارتها امتزجت الفلسفة العقائدية بمعايير المعالجة البيئية، فجاء صحن البيت المكشوف ساحة يتصل خلالها أهل الدار بالسماء، ثم نافورة تتوسطه لتلطيف درجة حرارة البيت، بينما جاءت المشربية لتمنع أعين المتلصصين من المارة وفي اللحظة ذاتها تسمح بدخول أشعة الشمس هادئة فلا تُقلق سخونتها من في البيت.
وتذكر المؤلفة أن القصور كانت حتى القرن الرابع عشر تتركز في القاهرة الفاطمية حيث شيّد المماليك منذ ذلك التاريخ قصورهم ودورهم خارجها، وتحديداً حول بِرك القاهرة، فتصبح «بركة الفيل» مقصد الصفوة من الأمراء، و«بركة الأزبكية» قبلة البرجوازية القاهرية. وكانت من أهم الدور التي شُيدت منذ الفتح الإسلامي في مصر دار عمرو بن العاص بمدينة الفسطاط وكانت فسيحة جداً، كما أطلق عليها اسم «القصر الذهبي» وأصبحت داراً للإمارة حتى دمّرها الحريق الذي سببه مروان الثاني في أثناء هروبه، إذ أنشأ صالح بن علي بعد 750 متراً قصراً جديداً في مدينة العسكر إلى الشمال من مدينة الفسطاط بالقرب من جبل يشكر، واستمرت الدار الجديدة مقراً للحكم حتى أنشأ أحمد بن طولون قصر الميدان، وكان لهذا القصر تسعة أبواب وبه ميدان للعب الصوالجة كما في قصر الخليفة المستعصم في سامراء بالعراق.
وتروي أنه عندما احتل العثمانيون مصر سنة 1517 ميلادية ساروا حذو المماليك فأقام «رضوان كتخدا» قصراً كبيراً على الحافة الشرقية لبركة الأزبكية وقد تحول قصر كتخدا إلى مقر لقيادة الحملة الفرنسية على مصر والشام وفي حديقته قُتل القائد الفرنسي كليبر.
لم تنفصل عمارة القصور عن ثقافة العصر، وتباينت نظرة المصريين إليها ما بين التفاؤل والتشاؤم، فقصر الأمير المملوكي «طاز» الذي لا يزال موجوداً في حالة جيدة حتى الآن بعد إعادة ترميمه، تصفه الباحثة بأنه من روائع العمارة المملوكية، بينما تصف قصر الأمير بشتاك بـ«القصر الملعون»، فقد بُني على أنقاض مسجد، مشيرةً إلى أن تاريخ القصر يعود إلى 1334م وأُقيم على رقعة من أرض القصر الكبير الفاطمي. وكان القصر للأمير بدر الدين بكتاش الفخري المعروف بالأمير سلاح. بعد وفاته اشترى بشتاك القصر من ورثته وهدم داراً كانت تُعرف بدار قطوان الساقي، كما هدم أحد عشر مسجداً وأربعة معابد كانت من آثار الخلفاء الفاطميين يسكنها جماعة من الفقراء، وأدخل كل ذلك في البناء إلا مسجداً منها كان لعمه ويُعرف اليوم بمسجد «الفجل».
- أعجوبة العصر
أما عن قصر محمد علي باشا، والي مصر، والذي اختار له منطقة شبرا، فقد كانت تلك المنطقة، كما توضح المؤلفة، تظهر في الخريطة التي وضعها علماء الحملة الفرنسية أرضاً زراعية بها كثير من البساتين وبعض المساكن المتناثرة وأشجار الجميز بجزيرة بدران، في حين أنها حالياً حي مترامي الأطراف يضجّ بالزحام والضوضاء والمباني الخرسانية. قرر محمد علي منذ البداية أن يكون قصره المهيب بعيداً عن مؤامرات المماليك، أعدائه السياسيين، وعن سكان قاهرة المعز وحي بولاق أبو العلا حتى لا تثيرهم مظاهر البذخ والثراء في قصر الوالي.
استمر بناء القصر 13 عاماً، حيث بُني على مراحل مختلفة واستمر طوال حكم محمد علي وخلفائه، حيث أُضيف إليه حوض الفسقية ثم سراي الجبلاية. وفيه كانت تقام أهم الحفلات في عصره كما كان يستقبل الأمراء والضيوف وقناصل الدول الأجنبية حتى وفاته. ورغم حداثته في تاريخ القصور الملكية في مصر فإنه كان أعجوبة زمانه، حيث أُدخل فيه نظام الإضاءة بغاز «الاستصباح» الذي عرفته أوروبا قبل ذلك بسنوات قليلة. وكلف محمد علي المهندس الإنجليزي أجالوري بعمل التجهيزات اللازمة لاستخدام هذا الغاز وتكلف آنداك «ألفي جنيه وخمسمائة قرش» بخلاف ما احتواه القصر من تحف ونجف من الكريستال والبرونز وأثاث فاخر ما زال بعضه موجوداً، مثل طقم الصالون الفرنسي المذهّب الذي ما زال رقمه وموديله في سجلات الشركة الأم، وكذلك ستائر القصر والأباليك والصور والتابلوهات الخاصة بمحمد علي وزوجاته ومائدة البلياردو التي أهداها له ملك فرنسا.
ومع كل هذا الجمال والثراء الفاحش الذي امتاز به هذا القصر ما جعله أشبه بالقصور الأسطورية فإن البعض رآه منحوساً، ففي بهوه استقبل محمد علي جثة ولده الأمير طوسون ومنه خرجت الجنازة الحزينة إلى مدافن الأسرة العلوية. وبسببه ضاع الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، أشهر مؤرخي مصر المعاصرة، عندما دعاه محمد علي لزيارته فركب حماره وفي الطريق اُغتيل ودُفن دون أن يُعرف مكان قبره. البعض أشار إلى قطّاع الطرق والبعض الآخر إلى أعوان محمد علي، فقد عُرف بصراحته وآرائه المعلنة وكان عدواً لدوداً للوالي. وفي هذا القصر قضى محمد علي أسوأ أيامه؛ فعلاقته بابنه إبراهيم اتسمت بالشك والحذر من الجانبين خصوصاً بعدما ثقل على محمد علي داء الدوسنتاريا فكوّن إبراهيم باشا مجلساً للشورى من العلماء مما ساعد على توسيع الهوة بينهما.
- قصر المانسترلي
تذكر المؤلفة أن عراقة جزيرة الروضة الموجود بها دفعت المؤرخ الشهير جلال الدين السيوطي، إلى أن يُفرد لها مؤلفاً سماه «كوكب الروضة»، يسهب في وصف جمال حدائقه. وجاء حسن باشا المانسترلي نائباً للحاكم في عهد الخديو عباس حلمي الأول، ثم وزير داخليته ليستأثر لنفسه بالكثير من الأراضي ومنها سراياه المهيبة التي لم يتبقَّ منها سوى السلاملك الذي نعرفه اليوم بقصر المانسترلي. عمل المجلس الأعلى للآثار وصندوق التنمية الثقافية على العناية به وإصلاحه وطلائه واستكمال رخام الأرضيات، كما أنشئ جسر خشبي ذو طابع جميل يربط بين ضفتي النيل ما بين الجزيرة، حيث القصر وطريق الكورنيش، وتم تأثيثه بقطع منقولة من قصر الأمير محمد علي بالمنيل تتناسب والطراز التركي للقصر، وهو يستخدم حالياً كمقر للمركز الدولي للموسيقى يجاوره الجامع الذي أنشأه المانسترلي ودُفن به بعد وفاته 1859.
- قصر الزعفران
إنه هدية الخديو إسماعيل للوالدة باشا، حيث أرداه أن يأتي في التصميم على غرار قصر فرساي الذي أقام به إسماعيل في أثناء فترة تعليمه بفرنسا، ثم أهداه لوالدته لكي تستمتع رئتاها بهواء الحي البكر. وفي حديقة القصر التي تمتد على مساحة مائة فدان زُرع نبات الزعفران لتستنشق خوشيار هانم عطره الذكي. لا يزال قصر الزعفران يحتفظ بأناقته المعهودة في ستائره التي نُسجت بدقة وطُرزت بعناية ألوانها، ولا تزال زاهية والعمال يحرصون على تنظيفها وإعادتها لشبابيك القصر الكبيرة التي تتناسب مع ارتفاعات السقف التي تصل إلى 6 أمتار ليكون الفراغ وسيلة طبيعية للتكييف. ويبدو القصر كأنه قد بُني بالأمس بطرازه المزيج بين القوطي والباروك الذي يميز قصور القرن الـ19 وحديقته الشتوية التي خُصصت لفصل الشتاء والزجاج البلوري المعشّق بألوان زاهية فوق السلم النحاسي الذي يعكس ألوان السماء الساطعة فضلاً عن الثريات الفخمة والزخارف المنمنمة والمدفأة الخشبية واللوحات الزيتية التي تطل من هنا وهناك.