ريموند فارين.. أكاديمي أميركي يعلم الطلبة العرب لغتهم

وضع كتابا في المقاربة الأدبية مع القرآن الكريم وآخر عن الشعر الجاهلي

غلاف ثروة من البادية  -  د. ريموند فارين  -  غلاف المقاربة الأدبية مع القرآن الكريم
غلاف ثروة من البادية - د. ريموند فارين - غلاف المقاربة الأدبية مع القرآن الكريم
TT

ريموند فارين.. أكاديمي أميركي يعلم الطلبة العرب لغتهم

غلاف ثروة من البادية  -  د. ريموند فارين  -  غلاف المقاربة الأدبية مع القرآن الكريم
غلاف ثروة من البادية - د. ريموند فارين - غلاف المقاربة الأدبية مع القرآن الكريم

لو استمعت إلى صوته فقط، بينما يقرأ من الشعر الجاهلي، من دون أن ترى ملامحه الغربية، أو سمعته وهو يتحدث عن الدلالات البلاغية في القرآن الكريم، لقلت بأن هذا الصوت لرجل عربي من النحاة الضالعين في علوم اللغة العربية. لكن حين تعرف أن صاحب الصوت، أكاديمي أميركي يدعى ريموند فارين، فسوف تدهش حتما، وينهض الفضول في داخلك، كي تعرف أكثر عن هذا الرجل الذي ألف كتابا بالإنجليزية عن القرآن هوStructure and Qur’anic Interpretation وكتابا آخر عن الشعر الجاهلي، بعنوان «ثروة من البادية.. الشعر العربي القديم». وهو يشغل اليوم، منصب رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة الأميركية، ويعلم الطلبة العرب، شعرهم القديم ولغتهم بقواعدها الصعبة.
فكيف بدأ اهتمام ريموند بالأدب العربي وما الذي جذبه إليه؟
بدأ التحول الأهم في حياة د. ريموند فارين، عندما انتقل من حياة ضابط البحرية الأميركية إلى علوم اللغة العربية التي شغف بها. وقد حدثني عن ذلك قائلا: «في الجامعة كان تخصصي الأدب الإنجليزي. وكما هو معروف، فإن التعليم العالي في أميركا باهظ الثمن. وكان حل هذه المعضلة بالنسبة لي، في الحصول على منحة دراسية من القوة البحرية التي دفعت تكاليف دراستي. وفي المقابل، كان علي أن أخدم بضع سنوات فيها بعد التخرج. وخلال الخدمة العسكرية، تم إرسالي إلى الأمم المتحدة كي أعمل مراقبا في الشرق الأوسط لمدة سنة. سكنت 4 أشهر في الإسماعيلية على قناة السويس، و8 أشهر في دمشق. وأثناء ذلك، بدأت أدرس اللغة العربية، كما بدأت أقرأ الأدب العربي المترجم إلى الإنجليزية. كانت أول تجربة لي مع الأدب العربي هي قراءة الثلاثية (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) للكاتب نجيب محفوظ. وشد ما أعجبت بها، إذ أحيت الروايات القاهرة في خيالي – أماكنها وشخصياتها – وجعلتني أحس بأنني عضو في أسرة مصرية أعيش أفراحها وأحزانها. وكان ذلك بداية اهتمامي بالأدب العربي».
إلى هنا يبدو الحديث بيننا منسجما مع فكرة المستشرقين الذين اهتموا بالأدب العربي، لكن أن يختار رجل غربي أصعب ما في الأدب العربي، وهو الشعر الجاهلي الذي يحمل مفردات تشقّ حتى على العرب في العصر الحديث، فتلك مفارقة مدهشة، يعلق عليها د. ريموند فارين قائلا، بأنه بعد إنهائه الخدمة العسكرية، عاد إلى مصر وتحديدا إلى القاهرة، قاصدا الجامعة الأميركية فيها، من أجل دراسة لغوية مكثفة، تمهيدا لالتحاق ببرنامج دكتوراه في الأدب العربي. وكان يفكر آنذاك، في التركيز على الأدب المعاصر. لكنه حين انتقل إلى جامعة كاليفورنيا في بيركلي، بعد سنتين من الإقامة في القاهرة، وجد أغلبية زملائه في البرنامج، يركزون على الأدب الحديث. وراح يبحث عن مجال أكثر ندرة وتميزا، فدرس الأدب القديم، باعتباره «أقل ازدحاما»، على حد تعبيره. ومما زاد من ذلك الميل ما درسه من أشعار المتنبي التي يقول عنها، بكلمة واحدة، إنها: «عجيبة». ومن الأدب الأندلسي الذي وصفه بـ«الجميل» أيضا. وبمرور الوقت، أدرك فارين أن الأدب العربي القديم – من عصر ما قبل الإسلام حتى العصر الأندلسي – يحتوي على كنوز لا تحصى، وكذلك أنه غير مدروس أو غير مقدر في أميركا كما ينبغي مقارنة بالأدب الحديث. وهكذا اختار التخصص فيه.
لكن السؤال الأصعب، هو: هل يقتنع الطلبة العرب بأن يدرسهم ثقافتهم رجل غربي؟ وكيف يجد ردود أفعالهم؟
يقول د. فارين: «في بداية كل فصل دراسي ربما يظهر شيء من الاستغراب على وجوه البعض، نظرا للموقف (أذكر، أن أحدا سألني مرة في السوق بعد أن أخبرته بعملي: «هل نفد الأساتذة العرب حتى نحتاج إلى أجنبي يدرّسنا الأدب ؟!»). لكن بعد أن ندخل في المادة وننخرط فيها، لا يعود طلابي مهتمين كثيرا بهويتي».
لم يتوقف د. ريموند فارين عند هذا الحد. فبعد كتابه عن الشعر الجاهلي، خاض في أدبيات القرآن الكريم، وكتابه الذي أصدره بهذا الخصوص عبارة عن مقاربة أدبية للقرآن الكريم. وضرب لي مثلا بما قاله الكاتب أحمد حسن الزيات: «إن القرآن من جهة الأدب غاية الجمال»، وأضاف: أعتقد أنه كلما أجرينا على النص القرآني دراسة أدبية دقيقة، ظهر الإعجاز بوضوح أكثر. وطريقة التحليل في الكتاب مستمدة من علم المناسبة. وهو علم شريف، برز فيه الرازي والبقاعي والسيوطي وغيرهم من العلماء. ويتناول هذا العلم، موضوع ترتيب الآيات والسور ومناسبتها بعضها ببعض، وفي النهاية يبحث عن الحكمة (مثلا، محاولة الإجابة على أسئلة من هذا النوع: لماذا تلي سورة البقرة فاتحة الكتاب؟ ولماذا تأتي سورة آل عمران بعد سورة البقرة؟ ولماذا ينتهي الكتاب بالمعوّذتين؟).
وعن كتابه الجديد، يقول ريموند فارين: إنه «دراسة للاتساق والانسجام في النص القرآني على مستوى الآية والسورة والقرآن ككل. ومثال بسيط على نظم القرآن ما نجده من نسق تام في سورة البقرة، إذ يرد قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، وتحديد المسجد الحرام كقبلة للمسلمين في تمام وسط السورة. بعبارة أخرى، إن فكرة الوسطية ترد في المنتصف، كما أن مركزية المسجد الحرام تتم الإشارة إليها في المنتصف، وتبدو الحكمة أو المناسبة لهذا الترتيب بينة وجلية.
ويسعى من خلال الكتاب، إلى إلقاء بعض الضوء أيضا، على نظم القرآن الكريم، وأن يشير إلى: «الشبكة العظيمة من الصلات بين الشكل والمضمون».



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.