يترقّب الدبلوماسيون العاملون والموظفون الدوليون في الأمم المتحدة برويّة وهدوء منذ أسابيع أي نتائج ستصدر بعد الثلاثاء الانتخابي الأميركي، منطلقين من أن الرئيس الجمهوري دونالد ترمب يتخذ مقاربة متناقضة تماماً مع تلك التي يمكن أن يعتمدها منافسه الديمقراطي نائب الرئيس السابق جو بايدن، في حال انتخابه، حيال التعامل مع المنظمة التي تشكل العمود الفقري في النظام الدولي الذي قادت الولايات المتحدة عملية تأسيسه بعد الحرب العالمية الثانية.
يرى الخبراء الدوليون أن «بصمة ترمب» ستطبع لأجيال مقبلة العلاقة بين الأمم المتحدة والدولة المضيفة لمقرها الرئيسي، أي الولايات المتحدة، أيّاً كان الفائز في انتخابات 3 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.
فمنذ بدء عهد ترمب عام 2016. عكست المندوبة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي والحالية كيلي كرافت سياسات الرئيس الذي غيّر بصورة دراماتيكية طريقة تعامل واشنطن مع الدبلوماسية متعددة الأطراف. ومثّل الخطاب القصير الذي ألقاه ترمب خلال الاجتماعات الافتراضية رفيعة المستوى للدورة السنوية الـ75 للجمعية العامة في سبتمبر (أيلول) الماضي، أحدث دليل على موقف إدارته من الجهود المشتركة في التعامل مع القضايا الدولية، مفضلاً إعادة رفع شعار «أميركا أولاً» على هذا المنبر. ولم تكترث كيلي كرافت كثيراً في الآونة الأخيرة لرفض كل أعضاء مجلس الأمن الـ14 الآخرين مسايرة الولايات المتحدة في قضية إعادة فرض العقوبات الدولية تلقائياً (سناب باك) على إيران بسبب الانتهاكات المتواصلة من النظام الإيراني لموجبات القرار 2231 وخطة العمل المشتركة الشاملة، أي الاتفاق النووي، مع الدول الكبرى. ويختلف هذا بصورة حادة عن الفشل المتكرر في اتخاذ موقف موحد في مجلس الأمن من الحرب الطاحنة في سوريا بسبب استخدام روسيا (مع الصين أحياناً) حق النقض، الفيتو، تكراراً ضد مشروعات قرارات وزعتها الولايات المتحدة مع حلفائها الرئيسيين، مثل بريطانيا وفرنسا.
نموذج نيكي هايلي
نجحت نيكي هايلي خلال فترة عملها مندوبة أميركا لدى الأمم المتحدة في الحصول على إجماع لفرض سلسلة عقوبات لا سابق لها على كوريا الشمالية، بسبب مواصلة بيونغ يانغ التجارب النووية وتطوير الصواريخ الباليستية. وقادت هايلي حملة ضد ما اعتبرته إدارة ترمب «تحيزاً ضد إسرائيل» في الأمم المتحدة، فأيدت وقف التمويل الأميركي لوكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم في الشرق الأدنى «الأونروا»، ومنظمات دولية أخرى. كما عبرت عن سعادتها بقرار نقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل من تل أبيب إلى القدس. وهددت مراراً وتكراراً بوضع قائمة بالدول والهيئات التي لا تدعم الولايات المتحدة، غير آبهة بإغضاب الحلفاء المقربين لواشنطن. وركزت على تقليص حصة الولايات المتحدة من الميزانية العامة للمنظمة الدولية، بما في ذلك ميزانية عمليات حفظ السلام، الأمر الذي يعتقد البعض أنه سمح للصين بتوسيع نفوذها في هذا المنتدى العالمي.
وبينما يعترف الخبراء بأن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين، وضعت هذا المنتدى الدولي أمام طريق مسدودة بسبب استخدامها حق النقض (الفيتو)، جادل رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركي ريتشارد هاس أن الأمم المتحدة «صارت بلا جدوى»، معبراً عن اعتقاده أن الولايات المتحدة «يجب أن تسعى إلى تعاون متعدد الأطراف في تحالفات أخرى مثل مجموعة السبع للدول الصناعية الكبرى».
انقلاب جديد!
أما إذا فاز جو بايدن بالرئاسة، فسيتردد صدى ذلك عالمياً، لأنه يسجل «انقلاباً» جديداً في السياسات الأميركية بعد التغيير الجذري الذي أحدثه ترمب خلال السنوات الأربع الماضية في علاقة بلاده مع الدبلوماسية متعددة الأطراف والمنظمة الدولية. لا شك أنه سيتنصل من مبدأ «أميركا أولاً» الذي حمل ترمب إلى البيت الأبيض عام 2016. وستكون لذلك تداعيات كبيرة على التعاون العالمي في قضايا كثيرة، من تغير المناخ والصحة العامة، ومن الانتشار النووي إلى التجارة وحقوق الإنسان، فضلاً عن علاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين. وستشكل عودة الولايات المتحدة إلى العمل متعدد الأطراف في مكافحة تغير المناخ، على النحو المنصوص عليه في اتفاق باريس، إلى إعادة وضع واشنطن كلاعب رئيسي في مؤتمر الأمم المتحدة حول تغير المناخ المقرر العام المقبل في غلاسكو، والذي جرى تأجيله هذا العام بسبب الوباء. وكذلك يمكن أن يعيد بايدن ريادة الولايات المتحدة في منظمة الصحة العالمية من خلال التراجع عن قرار ترمب بالانسحاب منها بسبب طريقة تعاملها مع جائحة «كوفيد 19». ولا يستبعد أن يعيد بايدن الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، مع اتخاذ سياسة حازمة في التعامل مع التهديدات الإيرانية لأمن المنطقة والعالم بسبب دعمها المتواصل للجماعات المسلحة، مثل الحوثيين في اليمن و«حزب الله» في لبنان، بالإضافة إلى تطوير برامجها للصواريخ الباليستية.
وفي التجارة العالمية، يتوقع أن يكون بايدن أقل دراماتيكية من ترمب. فطوال السنوات الأربع الماضية، رفض ترمب نظام التجارة العالمي، ومنها اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادي، فضلاً عن أنه خاض حروباً تجارية مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي. كما قللت إدارته من أهمية آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية. ويتوقع أن يعمل بايدن لتشكيل جبهة موحدة ضد الممارسات التجارية غير العادلة من الصين.
ويبقى السؤال المطروح هو؛ هل سيحدث هذا التغيير أي فرق عملي، كما يرغب الليبراليون؟ فهؤلاء يدركون حقيقة أن «بصمة ترمب» ستظل قوة سياسية فاعلة في علاقة واشنطن بالأمم المتحدة.