اليابانية ناوومي كاواسي تفتح جراحاً خاصّة وقديمة

فيلمها الجديد حول صراع بين والدتين لطفل واحد

مشهد من «أمهات حقيقيات»
مشهد من «أمهات حقيقيات»
TT

اليابانية ناوومي كاواسي تفتح جراحاً خاصّة وقديمة

مشهد من «أمهات حقيقيات»
مشهد من «أمهات حقيقيات»

كان من المفترض لفيلم «أمهات حقيقيات» (True Mothers) أن يُعرض كواحد من الأفلام التي انتخبت لمسابقة الدورة الملغاة من مهرجان «كان» السينمائي. عندما لم يستطع المهرجان الفرنسي العتيد إنجاز الدورة الموعدة في الشهر الخامس من هذا العام، قام بتوزيع أفلامه تلك على مهرجانات ثلاث في الأساس: سان سابستيان ولوميير (مدينة ليون، فرنسا) وتورونتو. فيلم المخرجة ناوومي كاواس كان من نصيب المهرجان الكندي وبعده شهد عروضاً مختلفة بينها العروض الحالية الخاصة «بجمعية مراسلي هوليوود الأجانب».

مفتاح العودة
يفتح الفيلم على شاشة سوداء. صوت البحر. صوت امرأة تتأوّه من الألم، ثم صوت طفل وُلد للتو. يتلاشى السواد تدريجياً فنرى البحر أخضر اللون في البداية. نقرات على البيانو مسموعة. لقطة لطائر يجوب الفضاء. لقطة لامرأة تنظر إلى ذلك البحر الشاسع، ثم لقطة أخرى للبحر من زاوية شاملة. من الظلام إلى النور ومن الألم إلى الجمال والولادة، كما يقول أحد الممثلين في الفيلم «معجزة».
تدمج كاواسي كل ذلك بلقطاتها الطبيعية والأمومية. وهي كثيراً ما تعرّضت لموضوع الأمومة ووجدت في رواية ميزوكي تسوجيمورا «الصباح يأتي» (وهو عنوان الفيلم الأصلي بينما «أمهات حقيقيات» هو عنوانه التسويقي) مفتاح العودة إلى الموضوع الذي تحب طرحه أكثر من سواه.
لكن الرواية التي قامت بكتابة السيناريو عنها ليست هي ذاتها التي نشاهدها في أحداث الفيلم فالكاتب تسوجيمورا كاتب ألغاز وخيوط روائية غامضة، وهو ما تبتعد عن تناوله المخرجة كاواسي. الغموض الوحيد الذي يشعر به المشاهد هو ذاك المتأتي عن تقديم وتأخير أحداث الفيلم على نحو من يضع أحجار الدومينو في غير مواقعها ما يسبب ارتباك التتابع أكثر من مرّة.
المرأة التي نتعرّف عليها بعد المقدّمة هي ساتوكو (هيرومي ناغاساغو) ونراها تتابع بحرص وشغف محاولة طفلها الصبي تنظيف فمه بالمعجون بنفسه. تضحك له وتتحدث إليه وتساعده في لقطات قريبة (كلوز أب) تخصصها المخرجة عادة للمشاهد التي تنوي عبرها الإيحاء بالعاطفة. بعد قليل ستهرع إلى مدرسة الحضانة بعدما قيل لها إن ابنها دفع رفيقاً له مما تسبب في إصابة قدمه.
ننتقل في فصل ثانٍ إلى ما قبل كل ذلك: تكشف طبيبة عن أن الزوج لا يملك ما يكفي من المُنى للإنجاب. نفهم لاحقاً بأنه يحاول عبر عمليات تلقيح لا تنفع. تختار المخرجة مشهداً لهما بانتظار السفر إلى مدينة أخرى للعلاج لكي تمرر واحداً من أرق مشاهدها: هما جالسان على مقعد واحد. هو متأزم. هي صامتة. اللقطة جانبية. تنتقل إلى أمامية. تؤسس المخرجة حميمية اللحظة التي تشعر الزوجة بالأسى لما يمر به زوجها من أحاسيس عجز. تقترح عليه ألا يسافرا، بل يعودا للمدينة. لمطعم. لصالة سينما أو للبيت. تقول «لا حاجة لكي نواصل السعي». ينفجر الزوج بالبكاء وهو يقول «كنت أريد أن أطلب منك ذلك لكني لم أستطع».
هذا المشهد المؤلّف من توقيت صحيح ولقطات منضبطة وحوار موجز والكثير من الأداء الملائم من بين أفضل ما يوفره الفيلم. ولو سار الفيلم في هذا السياق لخدم حكايته، لكنه لا يفعل.
كاواسي لا تريد أن تسرد الحكاية بالترتيب الذي يتماشى مع كل هذه العواطف، بل تنتقل ما بين فصول الفيلم الزمنية لتوسيع إطار ما تسرده ليشمل، على سبيل المثال، انتقال وجهة السرد من الأم وحادثة المدرسة، إلى ما قبل وجود الطفل، ثم إلى اختيار الزوجين التبني و- فجأة - إلى تقديم شخصية الأم الحقيقية التي تتصل ذات يوم للابتزاز «إما إن تعيدا لي طفلي أو تدفعان».
بتقديم الأم الحقيقية (التي رغم محاولتها الابتزاز تعالجها المخرجة كامرأة مظلومة) تنتقل وجهة الحدث، ولفترة طويلة في زمن يتعدى الساعتين والعشر دقائق بقليل إلى حكاية تلك الأم الفعلية، وكيف أنجبت وهي في الخامسة عشرة من عمرها (ما يفسّر سبب تخليها عنه). كل هذا قبل العودة إلى الأم التي تبنّت الطفل في معاينة رقيقة (والرقة من خصائص كاواسي) لكليهما ومن له الحق بالاحتفاظ بالطفل.

أسباب تواصل
هو موضوع آخر، إذن، من مواضيع الأمومة والطفولة والألم الناتج عن الحب. سبق لها أن تناولت ذلك في «سوزاكو» (أول أفلامها) كما في «غابة الصباح»، الذي كان فاز بالجائزة الكبرى للجنة تحكيم «كان» سنة 2007. وسبب اهتمامها راجع إلى أن طفولتها ذاتها لم تكن خالية من الألم. والدها ترك البيت ولم يعد منذ كانت صغيرة، وما لبثت أن انتقلت إلى عناية جدّتها وعاشت في رعايتها قبل سنوات رشدها. ما يبعث على الإعجاب هو أن التجربة العاطفية الصعبة التي مرّت بها لم تُترجم إلى غضب وكره حيال العالم (كما حال بعض المخرجين الآخرين)، بل تميّزت بالألفة والنعومة والتماثل بين الحدث الماثل وبين رموز الطبيعة مثل الماء والشجر والسماء والطيور.
وُلدت سنة 1969 وأحبّت السينما باكراً وأمّتها كدراسة ثم كاحتراف في عام 1997. في بعض تعليقاتها تكرر الإشارة إلى أنها رفيقة سينمائية لمخرجين كلاسيكيين كبار سبقوها بجيل أو جيلين مثل أكيرا كوروساوا وناغيزا أوشيما. لكن هذا قولها الذي ربما استخدمته في البداية كدعاية لها. لا تؤكده مجموعة أفلامها إلا من حيث عملها على إيجاد الرابط ما بين الموضوع المحلّي والأسلوب الغربي لمعالجة.
بالتالي، لا يوجد تواصل فعلي بين أساليب من سبقها (أضيف ميتزوغوشي وياسوجيرو أوزو) التعبيرية إلا على مستوى ذلك الاهتمام بالانتماء إلى العالمية بتوظيف لغة فنية ليست بالضرورة يابانية. وحتى في هذا النطاق، هناك الكثير مما يُمكن طرحه للنقاش.
لا تتوقف كاواسي عن العمل، لجانب أفلامها الطويلة، لديها عدة أفلام قصيرة وأفلام أخرى تقوم بإنتاجها لمخرجين مختلفين. لكن المهرجان الذي حاز على العروض الأولى لمعظم أفلامها التي حققتها خلال السنوات الثلاث والعشرين الأخيرة هو مهرجان «كان» التي خرجت منه بأكثر من جائزة على مدى 20 سنة (1997 - 2017) خصّته فيها بتسعة أفلام. «أمهات حقيقيات» كاد أن يكون الفيلم العاشر.
نجاحها هو استثمار ذكي لما تقوم به وعززته دوماً بأعمال تبدو في سياقها أقرب إلى فيلم واحد من فصول مختلفة نظراً لتشابه مواقع تصويرها (عموماً وليس دائماً) ولجوئها لتصوير الطبيعة بين كل مشهد وآخر ولمعالجتها مسائل العلاقات العاطفية بنعومة ورقّة لدرجة أن المرء الباحث عن الأزمة في تلك العلاقات سيكتشف إنها ليست بين الأشخاص، بل بينهم (على اختلافهم) وبين الظروف والطروحات التي يعيشونها.
«أمهات حقيقيات» ليس بقوّة أعمالها الأخرى. هادئ كسواه باستثناء ما يقع عندما تنتقل عنوة من زاوية سرد لزاوية سرد أخرى مكاناً وزماناً ما يخلق تركيبة غير مريحة إلا في حدود.

بالأرقام
> عدد أفلامها الروائية الطويلة: 14
> عدد أفلامها التسجيلية الطويلة: 8
> عدد أفلامها القصيرة: 8
> عدد ما كتبته من سيناريوهات: 13
> الأفلام التي قامت بإنتاجها: 13
> عدد الجوائز التي حصلت عليها: 24 (بينها ثلاثة من مهرجان كان).



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).