الحوثيون.. الطموحات «السياسية» أكبر من الإمكانات

العراقي طارق نجم عبد الله درس في صنعاء وأصبح لاحقا كبير مستشاري نوري المالكي

الحوثيون.. الطموحات «السياسية» أكبر من الإمكانات
TT

الحوثيون.. الطموحات «السياسية» أكبر من الإمكانات

الحوثيون.. الطموحات «السياسية» أكبر من الإمكانات

شهد اليمن هذا الأسبوع العديد من الحوادث التي ارتبطت بتوسع الحوثيين وإحكام قبضتهم على عدد من أهم المدن والمحافظات اليمنية. فمن هم الحوثيون، وإلى أي مدى يمكن مقارنة تطورهم السياسي بـ«حزب الله» اللبناني؟

نجحت يوم الجمعة الماضي مجموعة من القبائل المعارضة للمُتمردين «الحوثيين» في السيطرة على عدد من الدبابات والعربات المدرعة، إثر اشتباكات اندلعت مساء الخميس في شرق مدينة «مأرب» بينهم وبين قوات الجيش، وذلك بعد أن اشتبهوا في أن عناصر الجيش كانوا متوجهين للانضمام إلى جماعة الحوثيين الذين يحتشدون منذ أسابيع على تخوم «مأرب» شمال شرقي البلاد. حادثة أخرى وقعت الأسبوع الماضي، عندما فجر انتحاري نفسه في وسط مدينة «إب»، مما أدى إلى وقوع ما لا يقل عن 33 قتيلا ونحو 50 جريحا في انفجار استهدف مركزا ثقافيا للحوثيين.
تأتي هذه الحوادث المتزايدة في أعقاب توسع سيطرة الحوثيين، وهم مجموعة مسلحة «زيدية» اجتاحت العاصمة اليمنية صنعاء في وقت سابق من هذا العام ونجحت في إحكام قبضتها على أجزاء مختلفة من البلاد.
«يُعد الحوثيون من اتباع المذهب الزيدي في اليمن، وهم أقرب إلى السنة من الشيعة»، وفق الخبير اليمني الدكتور محمد جميح الذي تحدث إلى «الشرق الأوسط» من لندن.
واليمنيون هم بغالبيتهم الساحقة من المسلمين، وينتمون إما للمذهب السني أو الشيعي الزيدي. وعلى الرغم من أن المسلمين السنة يشكلون الأكثرية في البلاد، فقد تمكن الرئيس اليمني المخلوع علي عبد الله صالح، الذي يتحدر من أصل زيدي، من البقاء في سدة الحكم لأكثر من 30 عاما حتى الانقلاب عليه في عام 2011.
يشرح الدكتور جميح أن «الزيدية هي فرع من المذهب الشيعي، إنما تختلف عن التيار الشيعي الاثني عشري المعروف بعقيدة الإمامة والموجود بشكل رئيسي في إيران، فالزيديون يوافقون على الصحابة»، على حد قوله.
ومع ذلك، أدت الظروف السياسية الحديثة في اليمن إلى انقسامات في المجتمع الزيدي، ودفعت ببعض الحوثيين إلى التقرب من شيعة إيران أكثر منهم من الزيديين. «فالحوثيون يتبعون المذهب الزيدي ويرتبطون بإيران»، كما يقول الدكتور جميح. وعليه، تلاقت الطموحات السياسية لحسين الحوثي، زعيم حركة الحوثيين في اليمن، مع مصالح إيران في المنطقة، وبات حسين الحوثي أقرب إلى شيعة إيران، وبدَّل تحالفاته ومواقفه الدينية لتتماشى مع المصالح السياسية للدولة الفارسية.
ويضيف الدكتور جميح أنه «بعد حرب الخليج والاجتياح العراقي للكويت، غادر آلاف العراقيين واتجه منهم إلى اليمن مثل طارق نجم عبد الله (الذي درس في جامعة صنعاء وبات لاحقا كبير مستشاري رئيس الوزراء نوري المالكي)، الذي تعاون مع السفارة الإيرانية لتأسيس تنظيم (شباب المؤمنين)، أو كما بات يعرف لاحقا بـ(أنصار الله)».
ارتبط «تنظيم شباب المؤمنين» بحسين الحوثي، الذي كان عضوا في البرلمان اليمني قبل الحركة الانفصالية التي اندلعت في البلاد عام 1994. وحتى ذلك الوقت، كان حسين الحوثي عضوا في «حزب الحق»، الممثل الرئيسي للمذهب الزيدي في البلاد. إلا أنه أثناء الحركة الانفصالية، أعلن «حزب الحق» تأييده «للحزب الاشتراكي اليمني» في مواجهة «حزب المؤتمر الشعبي العام» بقيادة الرئيس علي عبد الله صالح الحاكم حينها. أدى هذا الأمر إلى فرار حسين الحوثي إلى سوريا وإيران حيث تشرب الفكر الإيراني. عندما عاد إلى اليمن في أواخر التسعينات انشق عن «حزب الحق» وأسس ما عرف بتنظيم «شباب المؤمنين». وعلى غرار «حزب الله»، استوحى الحزب الجديد عقائده من الثورة الإيرانية وأنشأ مخيمات لقن فيها الأطفال الفكر الثوري. كما عمد الحوثي وأتباعه، معتمدين أسلوب «حزب الله»، إلى جمع الزكاة وتأسيس الجمعيات الخيرية، وارتكزوا في آيديولوجيتهم على معاداة الولايات المتحدة وإسرائيل وأحيانا اليهود. وبين عامي 2004 و2010، أدى القبض على الحوثي إلى عديد من المواجهات بين الحكومة وأتباعه.
غير أن مطالبات الحوثيين لم تكن كلها سياسية. فحين أدت ثورة 1962 إلى إلغاء «الإمامة الشمالية»، وقعت المنطقة التي يسكنها الزيديون ضحية تهميش سياسي واقتصادي منهجي. فوفقا للبنك الدولي، يعد اليمن واحدا من أفقر البلدان في العالم العربي، وقد ارتفع معدل الفقر فيه إلى 54.5 في المائة في عام 2012، وهو من أكثر دول العالم تأثرا بانعدام الأمن الغذائي مع وجود 45 في المائة من السكان فيها يعانون انعدام الأمن الغذائي وشح الموارد المائية التي تتدنى عن المتوسط الإقليمي.
استفاد الحوثيون من التهميش الاجتماعي هذا لتوسيع حركتهم السياسية. والمسيرة التي توجهوا فيها إلى صنعاء هذا العام تزعمها مقاتلون استغلوا السخط الشعبي إزاء الفساد ورفع الدعم عن الوقود، والانقسامات داخل الجيش اليمني الذي سرعان ما اختفى عن ساحة المواجهات في اللحظة الحاسمة سامحا بتقدمهم داخل العاصمة صنعاء. فضلا عن ذلك، عارضت جماعة الحوثيين بشدة إحدى أبرز توصيات «مؤتمر الحوار الوطني» في فبراير (شباط) الهادفة إلى تحويل اليمن إلى دولة فيدرالية من ست مناطق، وهو ما من شأنه أن يربط محافظة صعدة، معقل الحوثيين، بالعاصمة صنعاء.
يقول الدكتور جميح إن الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح سهل من خلال علاقاته في الجيش تقدم الحوثيين إلى صنعاء.. «فقد أراد أن ينتقم (من الانقلاب ضده) وتحالف مع الحوثيين لكي يقاتلوا في صنعاء، وسمحت قيادة الجيش المقربة من صالح بتمدد للحوثيين؛ بالتالي، نستطيع أن نقول إن صالح اخترق الحوثيين كما سبق لهم أن اخترقوه».
ووفقا لتقرير صادر عن جيمس براندون، من مؤسسة «جيمس تاون»، نجحت حركة الحوثيين أيضا في تعزيز قوتها بشكل كبير «بعد أن تمكنت من الحصول على جزء من مطالبها من الحكومة ودمج بعض من قواتها مع الجيش الوطني. ففي 24 نوفمبر (تشرين الثاني)، صرح وزير الدفاع اليمني، محمود الصبيحي، بأن عملية الدمج ستجري على النحو المنصوص عليه في اتفاق الشراكة الوطنية والسلام التي وقعت في 21 سبتمبر (أيلول) بين الحوثيين والحكومة»، وفقا للتقرير.
ويشير جميح إلى أنهم «باتوا يشكلون اليوم دولة داخل دولة. فإيران تمكنت من إنتاج (حزب لله)، كما تمكنت من إنشاء (أنصار الله)، غير أن الحوثيين نجحوا في التهام الدولة أسرع من (حزب الله)، والدليل على ذلك أن أي قرار يصدره الرئيس اليمني الجديد عبد ربه منصور هادي يعود ويتراجع عنه إذا رفضه الحوثيون. كما أن الوضع اليمني يوازي وضع لبنان حتى لو بقي الحوثيون أضعف من (حزب الله)، ومن الصعب أن يحكموا البلاد. ولا شك أن السلطة الهشة في البلاد تسمح لهم بالتمدد مستغلين هيكلية السلطة الواهنة للسيطرة على الأطراف»، وفق جميح.
وفي السياق نفسه، يسلط تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي الضوء على العلاقة بين الحوثيين و«حزب الله»، حيث يشير الباحث فارع المسلمي إلى أن «الحوثيين يحاولون الاستفادة من تجارب (حزب الله)، فتبثّ قناة (المسيرة) اليمنية من الضاحية في بيروت بدعم فني من الحزب. ومؤخرا، تعمّقت علاقات الطرفين، توازيا مع تكرار اتّهامات الدولة اليمنيّة لإيران بدعم الحوثيين، ووضع أميركا لقائمة عقوبات جديدة ضدّ لبنانيّين في أغسطس (آب) 2013 قالت إنهم صرفوا أموالا للحوثيين في اليمن. ولا ينكر الحوثيون عادة هذا الرّابط القوي مع (حزب الله)، ويعزّز ذلك من الاعتقاد بوجود قواسم بين الطرفين كوقوفهما في التّحالف الإقليمي نفسه (طهران) على الصعيد السياسي. كما أنهما في الوقت نفسه لهما ميليشيات مسلحة تساند موقفهما السياسي وتفرضه حينما يلزم الأمر، إلا أن الميليشيات بالنسبة إلى الحوثيين هي الأداة الأبرز هذا إن لم تكن الحصرية - لا الاستثنائيّة - كما هي بالنّسبة إلى (حزب الله)».
وعلى صعيد متصل، أشار تقرير صدر مؤخرا عن «رويترز» إلى تحالف بين الحوثيين وإيران وحزب الله. وذكرت وكالة الأنباء أن الجيش الإيراني قدم الدعم المالي للحوثيين قبل وبعد سيطرتهم على صنعاء في 21 سبتمبر (أيلول)، كما قدمت إيران للحوثيين أموالا نقدية تم توجيهها عبر «حزب الله»، وعمد الحزب اللبناني إلى تدريب المقاتلين الحوثيين. ووفقا لـ«رويترز»، يتولى «بضع مئات» من عناصر الحرس الثوري الإيراني تدريب المقاتلين الحوثيين في اليمن.
مع ذلك، لا يعتقد جميح أن نجاحات الحوثيين هي واضحة المعالم بعد. «فالرئيس علي عبد الله صالح لا يزال قويا، وإذا قرر يوما تشجيع الحرب ضد الحوثيين فستتبعه القبائل. كما أن الحوثيين لم يتوسعوا لأنهم أقوياء بل لأن خصومهم كانوا منشغلين بالاقتتال الداخلي في ما بينهم، فقد استغلوا الصراع بين هادي وصالح، والصراع بين الجنوب والشمال، وبين (الإخوان) و(المؤتمر الشعبي)، وبين القبائل ليُحكموا قبضتهم، أضف إلى ذلك تقليص الدعم السعودي للقبائل»، وفق جميح.
* باحثة زائرة في مركز رفيق الحريري لدراسات الشرق الأوسط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.