رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك
TT

رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

رفيف الظل: يهطلُ إلى سماءِ شيبِك

تتأجّجُ الظهيرة بالسماوات، إذ يهبطان معا ليكتشفا أن النباتَ يخلقُ الموسيقى، حتى قبل أن تجفّ النارُ، وقبل أن يكتبَ رمادُها نونَنا الأولى.
هاتِ أقداحك، لئلا يقال إننا قصّرنا عن شاهق الصيف وتأخرنا عن السهرة.. هاتها، فسوف يطيبُ للشمل أن يكتمل، والشكل أن يغمضَ عينيه وهو يهطل علينا لبنا وياسمينا.
هاتها، جاءتنا الولاداتُ بالغنى والتنوع وسوف نحتفي كما يليق بهذه النعمة.
احتفِ بها، نخبُها مطرٌ يهطلُ من بين أصابعها، صعودا إلى سماءِ شيبكِ، آه يا شيبة عمرك الذي يصرخ كل صباح بأنه يلدُ العالم. هذه المولودة الصغيرة كأنها قضمة أخرى في تفاحة الخلق، وأنتَ يا آدم العطشان.. لا نهرَ يروي انسلالك من نسب الجنات ولا شجرَ يواريكَ سوى المطر.
هو العطف، حطّ في كفّ وبقية الخلائق في كف. هو المخلوق يكمل ما تبقى من ناقص التكوين، سهما في مهجة الموت، حرفا في استدارة الأعمار. كأن حياتي كلها لُفّتْ في قماط. كأن هذا البكاءَ البريء شحنة نداءٍ أو دعاء.
قومي يا ماسة الحديد، وليكن عرسا رغم فوضانا في المشاع. قومي من ميسمٍ ناطقٍ.
ووزعي نثرا ما تبقى من رمق الحب. هكذا سنُولدُ في احتمال أن نبقى شهداء على توالي المد في رمل السؤال، وسوف يقول الميتون: كلنا في ذهاب، لكنها تأتي قنصلا للمحتمين بحائط المعنى، كأنها أولُ الذكريات في مستقبل وثني، صنم يهاجر في برزخ ويطل في أنوار، تعبده الأمنيات وترزح تحت قوافيه السواقي. هل بقي ما يقالُ غير الصمت؟ هل حلّ في الأرض النبأ؟
الأطفالُ هم النبأ الأعظم، كلّ فلذة رسالة من السماء تأتي، وإلى السماء تأخذنا. لكأننا الخيطُ الرهيف في ريشة الجناح الذي يصعدُ بهم وبنا.
يتضاعفُ درسُ العطف فيصير حنانا، وسرعان ما يتبدى حبا. تُرى هل نقدر على جعل الطفولة حصننا ضدهم، هؤلاء الذين يشحذون آلاتهم في عظام أحلامنا؟ لماذا كلما طلبنا قصعة الماء جاءنا رماد؟ لماذا كلما طلبنا شمسا جاءنا شواظ؟
ثمة سبب جديد يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش، بأملِ أن نقوى على جعلها رحيمة بالأطفال.
خذ مني هذه الريشة. ضعها في المريض من جسدك، فتبرأُ ويستخفّكَ الهواء. خذ الريشة مني وأعطني رحمة الريح. كلّ كلام يقصر عن البصر تخونه البصيرة، ويستعصي عليه النص. تولّهُ يا حافرَ الرمل، هذا مسيرُكَ يثمرُ زهرة البر، وهذه نطفة البحر تسرد ما تولّهتَ عليه في الممشى. هذا القلبُ كنتُ أريده مصفاة للولاء.
لكنهم ثقبوه، وكانت أحلامُهم سَرَحانَ جُهّال وكلماتهم نعيبَ برقٍ مشاكس.
خذِ اللحظة وافلقها، ولنكنْ متوازيين كي يصلَ القطارُ سليما.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.