لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

تساؤلات عن رد فعل اليمين على فوزه بالرئاسة... ودروس حقبة موراليس

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا
TT

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

مرّت الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم الأحد الماضي في بوليفيا من دون أحداث استثنائية تُذكر. وكانت نسبة المشاركة العالية فيها والنبرة المعتدلة التي تميّزت بها تصريحات المرشح اليساري الفائز لويس آرسيه، مفارقة سارّة في هذا البلد الذي كان منذ سنة على شفا حرب أهلية بعد انزلاقه نحو أزمة مؤسسية خطيرة.
لقد جاء الفوز الحاسم الذي حققه مرشّح «الحركة إلى الاشتراكية» بمثابة تفويض واضح من البوليفيين للعودة إلى مسار الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي الذي كان السمة الرئيسية في ميراث الرئيس اليساري الأسبق إيفو موراليس، الذي تنحّى تحت ضغط المؤسسة العسكرية والأمنية بدعم من الإدارة الأميركية، والذي يواجه اليوم في منفاه بالأرجنتين مجموعة من التهم بالإرهاب في أعقاب الأحداث التي نشبت بفعل خروجه من السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والمحاولات التي بذلتها السلطة لمحاصرته ومنعه من العودة إلى المشهد السياسي.

الانتخابات البوليفية أسفرت أيضاً عن فوز «الحركة إلى الاشتراكية» بالغالبية المطلقة في مجلسي الشيوخ والنوّاب، ما يمنحها شرعيّة وطيدة لإعادة بناء الجسور في مجتمع مزّقته أحداث الأشهر الأخيرة من العام الماضي، وقوّضت ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
ومن المؤشرات الأخرى الدالّة على أن صفحة جديدة نحو الاستقرار قد فُتحت في هذا البلد المضطرب أن الرئيسة الحالية اليمينية جانين آنييز لم تنتظر صدور النتائج النهائية للانتخابات كي تعلن اعترافها بفوز آرسيه، وتدعو المواطنين إلى الهدوء والوحدة. وهذا أمر يمهّد لانتقال سلس لمقاليد السلطة، في انتظار موقف المؤسسات الأمنية والعسكرية التي (حتى كتابة هذه السطور) لم تصدر عنها أي تصريحات بشأن نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز المرشّح المدعوم من الرئيس الذي كانت وراء إسقاطه. كذلك فإن التصريحات الأولى التي صدرت عن آرسيه حملت دعوته إلى طي صفحة الماضي وتعهده بتنفيذ برنامجه مع استخلاص العبر من الأخطاء التي ارتُكبت في السابق. وفي هذا مؤشّر واضحٌ إلى مراجعة ذاتية خلافاً لأسلوب موراليس عندما كان في السلطة.

انقسام سياسي واجتماعي
يتسلّم لويس آرسيه مهامه، منتصف الشهر المقبل، في بلد يعاني من انقسام سياسي واجتماعي حاد، بمواجهة معارضة شديدة من الطبقة الوسطى الميسورة التي صوَّتت لخصومه، وتحت ضغوط متنامية من ناخبيه في الأوساط الشعبية الفقيرة التي تفاقمت أوضاعها المعيشية بشكل خطير بسبب جائحة «كوفيد - 19». يُضاف إلى ذلك أن ثمّة ملفّات سياسية معقّدة تنتظر ولايته، مثل العلاقة مع إيفو موراليس، الذي يريد العودة إلى بوليفيا، ووضع القياديين السبعة في حزبه الذين ما زالوا محجوزين في مقرّ إقامة السفير المكسيكي في لا باز، ومئات الملاحقات القانونية الجارية في حق موراليس وعدد من معاونيه السابقين.
سبق للرئيس البوليفي الجديد آرسيه، وهو اختصاصي في الاقتصاد السياسي، أن كان من أقرب معاوني موراليس منذ تأسيس حزب «الحركة إلى الاشتراكية» عام 2006؛ إذ تولّى حقيبتي الاقتصاد والمال عدة مرّات في الحكومات التي تعاقبت حتى عام 2019. مع انقطاع لفترة سنتين عن النشاط السياسي للمعالجة من سرطان في الكلى. ولقد شهدت بوليفيا في تلك الفترة أعلى معدّل للنمو اقتصادي بين بلدان أميركا اللاتينية كانت تتراوح حول 5 في المائة سنوياً، مستفيدة من ارتفاع أسعار المواد، الأمر الذي ساعد على خفض معدّلات الفقر المدقع في البلاد من 38 في المائة إلى 18 في المائة خلال أقل من عشر سنوات. وشكّلت هذه الإنجازات التي حققها آرسيه إبّان تولّيه حقيبة الاقتصاد القاعدة الأساسية لبرنامجه الانتخابي حيث كان يردّد: «كنّا على الطريق الصحيح، لكن الانقلاب أخرجنا عنه. لا بد من استعادة وجهة التنمية».

ظل عهد موراليس
كان عهد موراليس، الذي ما زال يرخي ظلّه على المشهد السياسي والاجتماعي في بوليفيا، قد تميّز بإنجازات مهمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه شهد في مرحلته الأخيرة سلسلة من الأزمات التي نشأ معظمها عن إصرار موراليس على البقاء في السلطة وتعديله قواعد اللعبة الدستورية الراسخة منذ عقود. هذا أدّى إلى ارتفاع منسوب التوتّر الاجتماعي الذي بلغ ذروته مع انتخابات العام الماضي. إذ أثارت تلك الانتخابات جدلاً واسعاً وعقبتها اتهامات لموراليس بتزوير نتائجها. وشهدت البلاد في أعقاب ذلك موجة من الاضطرابات والاحتجاجات انتهت باستقالة موراليس تحت الضغوط التي تعرّض لها من الجيش والمؤسسات الأمنية. ومن ثم، جرى تنصيب رئيسة مؤقتة للجمهورية تميّزت ولايتها بسلسلة من الملاحقات القانونية المثيرة للجدل ضد حزب موراليس الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد.
يأتي هذا الفوز الواضح الذي حققه آرسيه كمرشّح لحزب موراليس من الجولة الأولى، بمثابة دحض لنظريّة تزوير الانتخابات السابقة التي كانت قد تبنّتها «منظمة البلدان الأميركية»، وأدَّت إلى خروج موراليس من البلاد. يُذكر أن موراليس، الذي ينتمي إلى شعب الآيمارا، ثاني أكبر الشعوب الأصلية في بوليفيا، بعد الكيتشوا، كان قد ترشّح لولاية رئاسية رابعة، العام الماضي، رغم اتساع دائرة معارضيه، حتى في الأوساط الشعبية التي كانت تؤيده، وبعدما كان قد خسر الاستفتاء الشعبي الذي دعا إليه لتعديل الدستور الذي يضع حدّاً لعدد الولايات الرئاسية.
لقد تجاهلت المحكمة الانتخابية العليا يومها نتيجة ذلك الاستفتاء، ووافقت على ترشيح موراليس، ما أدى إلى احتجاجات شديدة في الأوساط اليمينية، انضمّت إليها لاحقاً القيادات العسكرية والأمنية، وانتهت بتنحّي موراليس ومغادرته البلاد، حيث لجأ أولاً إلى المكسيك، ثم إلى الأرجنتين حيث يقيم حاليّاً.

غالبية مطلقة مريحة
حصل آرسيه على ما يزيد على 53 في المائة من الأصوات مقابل 30 في المائة لمنافسه الأساسي كارلوس ميسا منذ الجولة الأولى من التصويت، في حين حصل مرشح اليمين المتطرف لويس فرناندو كاماتشو على 14 في المائة فقط. ويرافق آرسيه في هذا الفوز الذي تجاوز كل التوقعات، كنائب للرئيس، «الرجل الثاني» في الحزب بعد موراليس، وهو ديفيد تشوكيوانكا الذي ينتمي (مثل موراليس) إلى مجموعات الشعوب الأصلية التي تشكّل غالبية المواطنين في بوليفيا، والذي يشغل حاليّاً حقيبة التربية في حكومة آنييز. كذلك سيتولّى تشوكيوانكا منصب رئيس الجمعية التشريعية (البرلمان) حيث يتمتع حزب «الحركة إلى الاشتراكية» الآن بالغالبية المطلقة.
ومن جهته، قال ميسا، الذي كان أيضاً المنافس الرئيسي لموراليس في انتخابات العام الماضي: «النتيجة قاطعة، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأن الانتخابات أسفرت عن فوز واضح لمنافسنا».
من ناحية ثانية، لا شك في أن هذه الانتخابات، بما تميّزت به من هدوء وإجماع على الاعتراف بشرعيتها في مثل هذه المرحلة المضطربة، تشكّل جرعة أمل كبيرة بالنسبة للبوليفيين الذين شهدوا كيف كانت بلادهم تندفع نحو المواجهة الاجتماعية أواخر العام الماضي. ولا شك أيضاً في أن عودة حزب موراليس إلى الحكم تعيد تشكيل التوازنات السياسية في أميركا اللاتينية، رغم أن الحجم الديموغرافي والاقتصادي لبوليفيا (مقارنة بجيرانها الكبار) لا يكفي لإحداث تغيير بالغ في الموازين الإقليمية. ولكن الفوز الذي حققّه لويس آرسيه في الانتخابات الرئاسية البوليفية يوم الأحد الماضي يحمل بُعداً رمزياً من حيث إعادة رسم التحالفات والتقاط المشاريع اليسارية أنفاسها في الفضاء الأميركي اللاتيني.
هذا البُعد الرمزي للفوز الذي تحقق من غير الرئيس البوليفي الأسبق الموجود في الأرجنتين، لم يغب عن التصريحات الأولى التي أدلى بها موراليس بعد صدور النتائج؛ إذ أشار إلى مشهد جديد للتحالفات الإقليمية تظهر فيه شخصيات تتناقض أحياناً في مسارها السياسي، لكن يجمعها قاسم واحد مشترك هو الوقوف بوجه «المحور المحافظ» في أميركا الجنوبية الذي يتزعّمه اليوم جايير بولسونارو في البرازيل وإيفان دوكيه في كولومبيا.
وتوجّه موراليس في تصريحاته الأولى إلى رؤساء الأرجنتين والمكسيك وكوبا وفنزويلا (يساريين) ليشكرهم على الدعم الذي قدّموه له في الأزمة التي أدت إلى تنحّيه وخروجه من البلاد. يُذكر أن المكسيك هي التي سعت إلى إخراجه من بوليفيا بعدما حمته في سفارتها ونقلته إلى عاصمتها، حيث مكث لفترة قبل أن ينتقل إلى الأرجنتين. وفي الأخيرة، لم يتردد رئيسها ألبرتو فرنانديز في وصف ما حصل في بوليفيا بأنه «انقلاب على الشرعية».

البعد السياسي الإقليمي
كذلك، ثمة من يتوقع أن يؤدي فوز آرسيه إلى دفع القوى المعارضة في بلدان مثل فنزويلا وكوبا إلى إعادة النظر في حساباتها بعدما كانت تنظر إلى سقوط موراليس في بوليفيا كـ«خريطة طريق» للتغيير السياسي التي تجد راهناً صعوبة فائقة في الوصول إليه. ويجدر التذكير في هذا السياق بالتصريحات التي أدلى بها الزعيم الفنزويلي المعارض خوان غوايدو مخاطباً الرئيسة البوليفية المؤقتة بعد إطاحة موراليس عندما قال إن «الفنزويليين يستلهمون مساركم في الإصرار على دستورية انتقال السلطة نحو التغيير. هذه ليست بنسمة، بل هي إعصار ديمقراطي من أجل تحرير فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا». وكان الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو، الذي تضيق عزلته إقليمياً ودولياً، قد استغلّ فوز آرسيه في بوليفيا ليوجه رسالة إلى معارضيه قائلاً: «يجمعنا مع بوليفيا نضال تاريخي لم يصل بعد إلى خواتيمه».
هذا، ومن الشخصيات التي حرص موراليس على شكرها في تصريحاته الأولى بعد فور مرشح حزبه، رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه لويس زاباتيرو والرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيغناسيو لولا والرئيسان السابقان لكولومبيا إرنستو سامبير، والإكوادور رافايل كورّيا، الذين كانوا قد انتقدوا بشدّة موقف منظمة البلدان الأميركية من الأزمة البوليفية في العام الماضي.
لا يخفى على آرسيه أنه وصل إلى الرئاسة في ظل موراليس الواسع الذي ما زال يتمتع بشعبية كبيرة في بوليفيا، لكنه يدرك أيضا أن هذا الفوز الحاسم الذي حققه وتجاوز بنسبة 11%، النتيجة التي حصل عليها موراليس في انتخابات العام الماضي، هو تفويض واضح لمن يعتبره الجميع «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية» لإخراج البلاد من نفق الأزمة الدستورية ومن جائحة «كوفيد - 19» التي تهدد بالقضاء على المنجزات التي حققتها البلاد في السنوات العشر الماضية.
وفي أول تصريحاته لوسائل الإعلام قال آرسيه: «الفقراء هم العنوان الرئيسي لبرنامجنا الإنمائي، وسنواصل العمل من أجل تحسين أوضاعهم»، كاشفاً أن الرئيس الأسبق إيفو موراليس لن يتولّى أي مهام رسمية في الحكومة الجديدة، ومؤكداً أن زعامته ليست موضع جدل أو تشكيك في صفوف الحزب.
وكان موراليس قد صرّح مراراً بأنه في حال فوز حزبه في الانتخابات سيعود في اليوم التالي إلى البلاد، لكن رئيسة مجلس الشيوخ إيفا كوبا، التي تنتمي إلى الحزب نفسه، قالت: «ليس هذا هو الوقت المناسب لعودة موراليس. أمامنا مهمات كثيرة معقّدة تنتظرنا، ولديه قضايا عديدة عليه أن يجد حلّاً لها».

لويس آرسيه... في سطور
- وُلد في لا باز، لعائلة من الطبقة الوسطى، يوم 28 سبتمبر (أيلول) 1963
- خبير اقتصادي، تلقى تعليمه في جامعة سان آندريس في لاباز، ثم حصل على الماجستير في الاقتصاد السياسي من جامعة ووريك في بريطانيا
- متزوج وأب لثلاثة أولاد
- عضو «الحركة إلى الاشتراكية»
- عمل في البنك المركزي البوليفي، قبل أن يتولى مناصب وزير المال ووزير الاقتصاد بين 2006 و2019



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.