لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

تساؤلات عن رد فعل اليمين على فوزه بالرئاسة... ودروس حقبة موراليس

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا
TT

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

لويس آرسيه يعيد اليسار إلى الحكم في بوليفيا

مرّت الانتخابات الرئاسية التي أجريت يوم الأحد الماضي في بوليفيا من دون أحداث استثنائية تُذكر. وكانت نسبة المشاركة العالية فيها والنبرة المعتدلة التي تميّزت بها تصريحات المرشح اليساري الفائز لويس آرسيه، مفارقة سارّة في هذا البلد الذي كان منذ سنة على شفا حرب أهلية بعد انزلاقه نحو أزمة مؤسسية خطيرة.
لقد جاء الفوز الحاسم الذي حققه مرشّح «الحركة إلى الاشتراكية» بمثابة تفويض واضح من البوليفيين للعودة إلى مسار الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي الذي كان السمة الرئيسية في ميراث الرئيس اليساري الأسبق إيفو موراليس، الذي تنحّى تحت ضغط المؤسسة العسكرية والأمنية بدعم من الإدارة الأميركية، والذي يواجه اليوم في منفاه بالأرجنتين مجموعة من التهم بالإرهاب في أعقاب الأحداث التي نشبت بفعل خروجه من السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والمحاولات التي بذلتها السلطة لمحاصرته ومنعه من العودة إلى المشهد السياسي.

الانتخابات البوليفية أسفرت أيضاً عن فوز «الحركة إلى الاشتراكية» بالغالبية المطلقة في مجلسي الشيوخ والنوّاب، ما يمنحها شرعيّة وطيدة لإعادة بناء الجسور في مجتمع مزّقته أحداث الأشهر الأخيرة من العام الماضي، وقوّضت ثقة المواطنين بمؤسسات الدولة.
ومن المؤشرات الأخرى الدالّة على أن صفحة جديدة نحو الاستقرار قد فُتحت في هذا البلد المضطرب أن الرئيسة الحالية اليمينية جانين آنييز لم تنتظر صدور النتائج النهائية للانتخابات كي تعلن اعترافها بفوز آرسيه، وتدعو المواطنين إلى الهدوء والوحدة. وهذا أمر يمهّد لانتقال سلس لمقاليد السلطة، في انتظار موقف المؤسسات الأمنية والعسكرية التي (حتى كتابة هذه السطور) لم تصدر عنها أي تصريحات بشأن نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز المرشّح المدعوم من الرئيس الذي كانت وراء إسقاطه. كذلك فإن التصريحات الأولى التي صدرت عن آرسيه حملت دعوته إلى طي صفحة الماضي وتعهده بتنفيذ برنامجه مع استخلاص العبر من الأخطاء التي ارتُكبت في السابق. وفي هذا مؤشّر واضحٌ إلى مراجعة ذاتية خلافاً لأسلوب موراليس عندما كان في السلطة.

انقسام سياسي واجتماعي
يتسلّم لويس آرسيه مهامه، منتصف الشهر المقبل، في بلد يعاني من انقسام سياسي واجتماعي حاد، بمواجهة معارضة شديدة من الطبقة الوسطى الميسورة التي صوَّتت لخصومه، وتحت ضغوط متنامية من ناخبيه في الأوساط الشعبية الفقيرة التي تفاقمت أوضاعها المعيشية بشكل خطير بسبب جائحة «كوفيد - 19». يُضاف إلى ذلك أن ثمّة ملفّات سياسية معقّدة تنتظر ولايته، مثل العلاقة مع إيفو موراليس، الذي يريد العودة إلى بوليفيا، ووضع القياديين السبعة في حزبه الذين ما زالوا محجوزين في مقرّ إقامة السفير المكسيكي في لا باز، ومئات الملاحقات القانونية الجارية في حق موراليس وعدد من معاونيه السابقين.
سبق للرئيس البوليفي الجديد آرسيه، وهو اختصاصي في الاقتصاد السياسي، أن كان من أقرب معاوني موراليس منذ تأسيس حزب «الحركة إلى الاشتراكية» عام 2006؛ إذ تولّى حقيبتي الاقتصاد والمال عدة مرّات في الحكومات التي تعاقبت حتى عام 2019. مع انقطاع لفترة سنتين عن النشاط السياسي للمعالجة من سرطان في الكلى. ولقد شهدت بوليفيا في تلك الفترة أعلى معدّل للنمو اقتصادي بين بلدان أميركا اللاتينية كانت تتراوح حول 5 في المائة سنوياً، مستفيدة من ارتفاع أسعار المواد، الأمر الذي ساعد على خفض معدّلات الفقر المدقع في البلاد من 38 في المائة إلى 18 في المائة خلال أقل من عشر سنوات. وشكّلت هذه الإنجازات التي حققها آرسيه إبّان تولّيه حقيبة الاقتصاد القاعدة الأساسية لبرنامجه الانتخابي حيث كان يردّد: «كنّا على الطريق الصحيح، لكن الانقلاب أخرجنا عنه. لا بد من استعادة وجهة التنمية».

ظل عهد موراليس
كان عهد موراليس، الذي ما زال يرخي ظلّه على المشهد السياسي والاجتماعي في بوليفيا، قد تميّز بإنجازات مهمة على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، إلا أنه شهد في مرحلته الأخيرة سلسلة من الأزمات التي نشأ معظمها عن إصرار موراليس على البقاء في السلطة وتعديله قواعد اللعبة الدستورية الراسخة منذ عقود. هذا أدّى إلى ارتفاع منسوب التوتّر الاجتماعي الذي بلغ ذروته مع انتخابات العام الماضي. إذ أثارت تلك الانتخابات جدلاً واسعاً وعقبتها اتهامات لموراليس بتزوير نتائجها. وشهدت البلاد في أعقاب ذلك موجة من الاضطرابات والاحتجاجات انتهت باستقالة موراليس تحت الضغوط التي تعرّض لها من الجيش والمؤسسات الأمنية. ومن ثم، جرى تنصيب رئيسة مؤقتة للجمهورية تميّزت ولايتها بسلسلة من الملاحقات القانونية المثيرة للجدل ضد حزب موراليس الذي ينتمي إليه الرئيس الجديد.
يأتي هذا الفوز الواضح الذي حققه آرسيه كمرشّح لحزب موراليس من الجولة الأولى، بمثابة دحض لنظريّة تزوير الانتخابات السابقة التي كانت قد تبنّتها «منظمة البلدان الأميركية»، وأدَّت إلى خروج موراليس من البلاد. يُذكر أن موراليس، الذي ينتمي إلى شعب الآيمارا، ثاني أكبر الشعوب الأصلية في بوليفيا، بعد الكيتشوا، كان قد ترشّح لولاية رئاسية رابعة، العام الماضي، رغم اتساع دائرة معارضيه، حتى في الأوساط الشعبية التي كانت تؤيده، وبعدما كان قد خسر الاستفتاء الشعبي الذي دعا إليه لتعديل الدستور الذي يضع حدّاً لعدد الولايات الرئاسية.
لقد تجاهلت المحكمة الانتخابية العليا يومها نتيجة ذلك الاستفتاء، ووافقت على ترشيح موراليس، ما أدى إلى احتجاجات شديدة في الأوساط اليمينية، انضمّت إليها لاحقاً القيادات العسكرية والأمنية، وانتهت بتنحّي موراليس ومغادرته البلاد، حيث لجأ أولاً إلى المكسيك، ثم إلى الأرجنتين حيث يقيم حاليّاً.

غالبية مطلقة مريحة
حصل آرسيه على ما يزيد على 53 في المائة من الأصوات مقابل 30 في المائة لمنافسه الأساسي كارلوس ميسا منذ الجولة الأولى من التصويت، في حين حصل مرشح اليمين المتطرف لويس فرناندو كاماتشو على 14 في المائة فقط. ويرافق آرسيه في هذا الفوز الذي تجاوز كل التوقعات، كنائب للرئيس، «الرجل الثاني» في الحزب بعد موراليس، وهو ديفيد تشوكيوانكا الذي ينتمي (مثل موراليس) إلى مجموعات الشعوب الأصلية التي تشكّل غالبية المواطنين في بوليفيا، والذي يشغل حاليّاً حقيبة التربية في حكومة آنييز. كذلك سيتولّى تشوكيوانكا منصب رئيس الجمعية التشريعية (البرلمان) حيث يتمتع حزب «الحركة إلى الاشتراكية» الآن بالغالبية المطلقة.
ومن جهته، قال ميسا، الذي كان أيضاً المنافس الرئيسي لموراليس في انتخابات العام الماضي: «النتيجة قاطعة، ولا يسعنا سوى الاعتراف بأن الانتخابات أسفرت عن فوز واضح لمنافسنا».
من ناحية ثانية، لا شك في أن هذه الانتخابات، بما تميّزت به من هدوء وإجماع على الاعتراف بشرعيتها في مثل هذه المرحلة المضطربة، تشكّل جرعة أمل كبيرة بالنسبة للبوليفيين الذين شهدوا كيف كانت بلادهم تندفع نحو المواجهة الاجتماعية أواخر العام الماضي. ولا شك أيضاً في أن عودة حزب موراليس إلى الحكم تعيد تشكيل التوازنات السياسية في أميركا اللاتينية، رغم أن الحجم الديموغرافي والاقتصادي لبوليفيا (مقارنة بجيرانها الكبار) لا يكفي لإحداث تغيير بالغ في الموازين الإقليمية. ولكن الفوز الذي حققّه لويس آرسيه في الانتخابات الرئاسية البوليفية يوم الأحد الماضي يحمل بُعداً رمزياً من حيث إعادة رسم التحالفات والتقاط المشاريع اليسارية أنفاسها في الفضاء الأميركي اللاتيني.
هذا البُعد الرمزي للفوز الذي تحقق من غير الرئيس البوليفي الأسبق الموجود في الأرجنتين، لم يغب عن التصريحات الأولى التي أدلى بها موراليس بعد صدور النتائج؛ إذ أشار إلى مشهد جديد للتحالفات الإقليمية تظهر فيه شخصيات تتناقض أحياناً في مسارها السياسي، لكن يجمعها قاسم واحد مشترك هو الوقوف بوجه «المحور المحافظ» في أميركا الجنوبية الذي يتزعّمه اليوم جايير بولسونارو في البرازيل وإيفان دوكيه في كولومبيا.
وتوجّه موراليس في تصريحاته الأولى إلى رؤساء الأرجنتين والمكسيك وكوبا وفنزويلا (يساريين) ليشكرهم على الدعم الذي قدّموه له في الأزمة التي أدت إلى تنحّيه وخروجه من البلاد. يُذكر أن المكسيك هي التي سعت إلى إخراجه من بوليفيا بعدما حمته في سفارتها ونقلته إلى عاصمتها، حيث مكث لفترة قبل أن ينتقل إلى الأرجنتين. وفي الأخيرة، لم يتردد رئيسها ألبرتو فرنانديز في وصف ما حصل في بوليفيا بأنه «انقلاب على الشرعية».

البعد السياسي الإقليمي
كذلك، ثمة من يتوقع أن يؤدي فوز آرسيه إلى دفع القوى المعارضة في بلدان مثل فنزويلا وكوبا إلى إعادة النظر في حساباتها بعدما كانت تنظر إلى سقوط موراليس في بوليفيا كـ«خريطة طريق» للتغيير السياسي التي تجد راهناً صعوبة فائقة في الوصول إليه. ويجدر التذكير في هذا السياق بالتصريحات التي أدلى بها الزعيم الفنزويلي المعارض خوان غوايدو مخاطباً الرئيسة البوليفية المؤقتة بعد إطاحة موراليس عندما قال إن «الفنزويليين يستلهمون مساركم في الإصرار على دستورية انتقال السلطة نحو التغيير. هذه ليست بنسمة، بل هي إعصار ديمقراطي من أجل تحرير فنزويلا ونيكاراغوا وكوبا». وكان الرئيس الفنزويلي اليساري نيكولاس مادورو، الذي تضيق عزلته إقليمياً ودولياً، قد استغلّ فوز آرسيه في بوليفيا ليوجه رسالة إلى معارضيه قائلاً: «يجمعنا مع بوليفيا نضال تاريخي لم يصل بعد إلى خواتيمه».
هذا، ومن الشخصيات التي حرص موراليس على شكرها في تصريحاته الأولى بعد فور مرشح حزبه، رئيس الوزراء الإسباني الأسبق خوسيه لويس زاباتيرو والرئيس البرازيلي الأسبق لويس إيغناسيو لولا والرئيسان السابقان لكولومبيا إرنستو سامبير، والإكوادور رافايل كورّيا، الذين كانوا قد انتقدوا بشدّة موقف منظمة البلدان الأميركية من الأزمة البوليفية في العام الماضي.
لا يخفى على آرسيه أنه وصل إلى الرئاسة في ظل موراليس الواسع الذي ما زال يتمتع بشعبية كبيرة في بوليفيا، لكنه يدرك أيضا أن هذا الفوز الحاسم الذي حققه وتجاوز بنسبة 11%، النتيجة التي حصل عليها موراليس في انتخابات العام الماضي، هو تفويض واضح لمن يعتبره الجميع «صانع المعجزة الاقتصادية البوليفية» لإخراج البلاد من نفق الأزمة الدستورية ومن جائحة «كوفيد - 19» التي تهدد بالقضاء على المنجزات التي حققتها البلاد في السنوات العشر الماضية.
وفي أول تصريحاته لوسائل الإعلام قال آرسيه: «الفقراء هم العنوان الرئيسي لبرنامجنا الإنمائي، وسنواصل العمل من أجل تحسين أوضاعهم»، كاشفاً أن الرئيس الأسبق إيفو موراليس لن يتولّى أي مهام رسمية في الحكومة الجديدة، ومؤكداً أن زعامته ليست موضع جدل أو تشكيك في صفوف الحزب.
وكان موراليس قد صرّح مراراً بأنه في حال فوز حزبه في الانتخابات سيعود في اليوم التالي إلى البلاد، لكن رئيسة مجلس الشيوخ إيفا كوبا، التي تنتمي إلى الحزب نفسه، قالت: «ليس هذا هو الوقت المناسب لعودة موراليس. أمامنا مهمات كثيرة معقّدة تنتظرنا، ولديه قضايا عديدة عليه أن يجد حلّاً لها».

لويس آرسيه... في سطور
- وُلد في لا باز، لعائلة من الطبقة الوسطى، يوم 28 سبتمبر (أيلول) 1963
- خبير اقتصادي، تلقى تعليمه في جامعة سان آندريس في لاباز، ثم حصل على الماجستير في الاقتصاد السياسي من جامعة ووريك في بريطانيا
- متزوج وأب لثلاثة أولاد
- عضو «الحركة إلى الاشتراكية»
- عمل في البنك المركزي البوليفي، قبل أن يتولى مناصب وزير المال ووزير الاقتصاد بين 2006 و2019



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.