إغلاق مسجد قرب باريس في إطار حملة السلطات على المتشددين

يواجه الرئيس الفرنسي وحكومته هجمة عنيفة يشنها عليهما حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي، واليمين المتطرف ممثلاً بحزب «التجمع الوطني» الذي تقوده المرشحة الرئاسية السابقة مارين لوبن، على خلفية ذبح المدرس الفرنسي وفصل رأسه عن جسده عصر الجمعة الماضي على يدي لاجئ روسي شاب (18 عاماً) من أصل شيشاني في مدينة كونفلان سانت هونورين الواقعة شمال باريس. وفي الوقت عينه، أطلقت السلطات حملة أمنية واسعة تستهدف حل الجمعيات التي تعدها ذات توجهات راديكالية إسلاموية، مقرونة بعملية طرد واسعة لأشخاص أجانب ترى فيهم الأجهزة تهديداً للأمن. وبالتوازي، تعمل السلطات على «تنظيف» شبكات التواصل الاجتماعي من كل ما تعده خطاباً يحض على العنف أو على الكراهية أو قريباً من الآيديولوجيا الإسلاموية. ويندرج ذلك كله في إطار ما دعا إليه الرئيس ماكرون يوم الأحد الماضي، حيث طالب الحكومة والسلطات بـ«نتائج ملموسة» وبـ«رد قوي» يجب أن يكون أهلاً لـ«نقل الخوف من معسكر إلى آخر».
وعلى صعيد آخر، تتواصل التحقيقات والتحريات التي تقوم بها الأجهزة المكلفة بالتحقيق لمعرفة مسار الشيشاني عبد الله أبوزيدفيتش أنذوروف، والبحث عن شركاء له أو عن من قدم له مساعدة لوجيستية أو حثه على ارتكاب جريمته التي صدمت الفرنسيين. وجرت أمس مراسم تكريم ذكرى المدرس صامويل باتي في مجلس النواب، وأيضاً في مدينة كونفلان سانت هونورين، إلا أن التكريم الرسمي سيحصل مساء اليوم في باحة جامعة السوربون التاريخية، بحضور عائلة الضحية، والرئيس ماكرون، وسيمنح باتي بعد مماته وسام جوقة الشرف.
وحتى عصر أمس، كان التحقيق منصباً على الأشخاص الـ16 الموقوفين لدى القضاء، بينهم 5 تلاميذ، لجلاء دور كل منهم. والموقوفون هم 4 من عائلة الجاني التي تعيش في مدينة أيفرو التي تبعد ستين كلم عن موقع الجريمة، وهم والداه وجده وشقيقه الأصغر. يضاف إليهم والد تلميذة حرض على أستاذ التاريخ والجغرافيا عبر مقطعي فيديو نشرا على «تويتر»، بسبب ما عده رسوماً مسيئة للنبي، بإبرازه صوراً كاريكاتورية سبق أن نشرتها سابقاً صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة، وأعادت نشرها بداية سبتمبر (أيلول) الماضي، مع انطلاق محاكمة الضالعين من الأحياء في المجزرة التي استهدفت الصحيفة بداية عام 2015. كذلك، ما زال عبد الحكيم صيفروي، وهو ناشط متطرف معروف رافق تلميذة إلى المدرسة للاحتجاج لدى مديرتها على مبادرة صامويل باتي. ثم هناك 3 شبان كانوا على اتصال مع أنذوروف. وأخيراً، هناك 5 تلاميذ من المدرسة التي كان يعمل المدرس في إطارها.
وتوصل المحققون إلى عناصر جديدة: أولها أن والد التلميذة الذي دعا إلى التعبئة ضد صامويل باتي كان على تواصل هاتفي مع القاتل عبر تطبيق «واتساب» المشفر. لكن حتى أمس، لم يكن قد كشف عن محتوى الاتصالات التي جرت بين الطرفين. والعنصر الثاني أن القاتل قد أغرى تلاميذ بالمال ليساعدوه على التعرف على المدرس، الأمر الذي يفسر سبب الإبقاء على 5 من التلاميذ رهن التحقيق. وكان المحققون قد أخلوا سبيل أحد التلاميذ، ثم أعادوا توقيفه لاحقاً. والعنصر الثالث أن أحد الشبان الثلاثة الذين كان الجاني على اتصال معهم نقله بسيارته إلى كونفلان سانت هونورين التي تبعد ستين كلم عن مدينة أيفرو، حيث كان الجاني يقيم مع عائلته، فيما آخر اصطحبه عندما اشترى السكين التي قطع بها رأس الضحية.
وتجدر الإشارة إلى أن أنذوروف كان حاصلاً على صفة لاجئ، مع ما توفره هذه الصفة لحاملها من منافع تقدمها الحكومة والجمعيات، وعلى إجازة إقامة لـ10 سنوات. ويريد المحققون توضيح المسار الذي أوصله إلى هذا الحد من الراديكالية الإسلاموية، وعبرها إلى القيام بعملية إرهابية شنيعة. وقد شهد مسؤولان دينيان أنهما كانا على صلة بالجاني. وبحسب ما أفاد به بعض أقاربه، فإن الجاني جنح إلى التطرف منذ 6 أشهر، أو ربما سنة. وثمة ظنون تدور حول مسؤولية والد التلميذة المشار إليه والناشط عبد الحكيم صيفروي في التأثير على أنذوروف، وقد يكون التواصل بين الأول والجاني السبب في ذلك. وكان مسؤولون عن المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وأئمة مساجد قد نددوا بقوة بالعملية الإرهابية، وزار بعضهم محيط المدرسة المعنية، للتعبير عن تضامنهم مع المواطنين، ورفضهم للراديكالية والإرهاب.
وتخيم على فرنسا، وبعد انقضاء حالة الذهول التي ترتبت على ذيوع حادثة قتل المدرس والتمثيل بجثته، وقيام الجاني بتبني العملية، وبث صورته على شبكة «تويتر»، أجواء عنوانها الحرب على التطرف والراديكالية والانفصالية الإسلاموية. ولخص وزير الداخلية جيرالد دارمانان الذي يفترض به أن يكون رأس الحربة في هذه المواجهة الوضع بالقول إن فرنسا «تحارب عدو الداخل».
وتشن السلطات الفرنسية حملة واسعة ضد التبار الإسلاموي، تقوم بها أجهزتها الأمنية. وآخر ما استجد على هذا الصعيد أنه أمر بإغلاق مسجد مدينة «بانتين»، الواقعة في قضاء سين سان دوني المعروف بكثافة سكانه من أصول مهاجرة، وسيتم الإغلاق مساء اليوم. وحجة الوزير الفرنسي أن مسؤولي المسجد قاموا بإعادة نشر أحد تسجيلي الفيديو اللذين ينددان بما قام به مدرس التاريخ في تكميلية كونفلان سانت هونورين بداية الشهر الحالي عندما أبرز الصور الكاريكاتورية المسيئة. ولم تبت بوضوح بعد بمسألة ما إذا كان أستاذ التاريخ قد أمر التلاميذ المسلمين بالخروج من الصف أم أنه خير من قد تصدمه الرسوم بالخروج. كذلك أكد دارمانان أن 51 جمعية يعدها قريبة من تيار «الإسلام الراديكالي» سيخضع المسؤولون عنها للمساءلة، وبعضها سوف يحل، مركزاً على اثنتين منها، وهما: «التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا» والجمعية الإنسانية «بركه سيتي». إلا أن الجمعيتين المذكورتين نفتا مزاعم الوزير، واتهمتاه بتسخير التأثر البالغ المتأتي عن جريمة قتل مدرس التاريخ للتخلص منهما، مؤكدتين أنهما سوف تلجآن للقضاء.
ويريد دارمانان طرد 231 شخصاً موجودين على الأراضي الفرنسية بطريقة غير شرعية، ومتهمين بالتطرف. وبحسب الأرقام التي كشف عنها مؤخراً، فإن أجهزته تؤكد وجود 4111 شخصاً من الأجانب على لوائح التطرف الإسلاموي، بينهم 851 مهاجراً غير شرعي. وثمة 180 شخصاً قيد التوقيف، وبالتالي هناك تعليمات بترحيلهم عن الأراضي الفرنسية. لكن التأخير، سواء أكان بالنسبة للمهاجرين غير الشرعيين أم للأجانب الحاملين للجنسية الفرنسية، مرده لسببين: الأول قبول البلدان الأصلية استرداد مواطنيها، وتمتع المجنسين بجنسيتهم الأصلية أو بجنسية أخرى لأنه لا يجوز إسقاط الجنسية الفرنسية عن أي شخص كان لأنه سيتحول إلى «عديم الجنسية». وكل هذه التدابير مقرونة بالمساعي لمواجهة التطرف الإسلاموي على وسائل التواصل الاجتماعي لا ترضي اليمين الكلاسيكي واليمين المتطرف، وكلاهما يتهم الحكومة بالضعف، ويدعو إلى قوانين وتدابير أكثر قسوة.
ودعت مارين لوبن إلى تشريعات ترقى إلى تشريعات زمن الحروب، وانتهاج «استراتيجية استعادة السيطرة» على الأرض، أي وضع حد لما يسميه ماكرون «الانفصالية الإسلاموية». كما طالبت لوبن بلجنة تحقيق برلمانية.
ومن جانبه، يدعو نواب «الجمهوريون» إلى إقرار مشروع القانون الدستوري الذي تبناه مجلس الشيوخ الاثنين الماضي لمواجهة الإسلام الراديكالي بأكثرية ساحقة، رغم معارضة الحكومة. كذلك دعوا إلى تبني 15 مقترحاً، منها طرد الأجانب والأئمة المتهمين بالتطرف، وإغلاق 100 مسجد وقاعة صلاة، وخفض أعداد المهاجرين إلى الحد الأدنى، ومنع «الجهاديين» من العودة إلى فرنسا.