إرادة قيصر في روح امرأة

معرض هو الأشمل لأرتيمسيا جنتلسكي في «ناشونال غاليري» بلندن

من المعرض
من المعرض
TT

إرادة قيصر في روح امرأة

من المعرض
من المعرض

يحتفي «ناشونال غاليري» في لندن، عقب فترة إغلاقه بسبب الوباء العالمي، بالرسامة أرتيمسيا جنتلسكي، من خلال معرض هو الأكبر من نوعه بعرض لوحاتها من مختلف المتاحف العالمية بترتيب كرونولوجي ممتاز، وعرض ملفات المحكمة التي كابدتها في شبابها المبكر، ورسائلها الشخصية إلى حبيبها. ويستمر المعرض لغاية ربيع العام المقبل.
وأرتيمسيا جنتالسكي المولودة في روما عام 1593 لم تكن أول فنانة إيطالية نالت شهرة فنية في القرن السابع عشر، فقد سبقتها بضع فنانات وجايلتها أخريات مثل صوفنسيبا أنغيشولا وفيدا كاليزيا اللتين اشتهرتا برسم الصور الشخصية ولوحات الحياة الساكنة. ويبدو أن هذين الموضوعين مفضلان لدى فنانات عصر النهضة وما بعدها، لأنه لم يكن يسمح لهن بدخول الأكاديميات الفنية، أو متابعة الدروس الفنية في محترفات الفنانين أو توظيف موديل. لكن كل من يحالفه الحظ ويقف أمام لوحة «جوديث تحز رقبة هولفرنيس»، وهي إحدى الثيمات التي رسمتها أرتيمسيا مراراً، وهي تصوّر لحظة حز رقبة رجل من قبل امرأة، وبمساعدة خادمتها، يدرك أن هذه الفنانة التي تصنف كأبرز ممثلي عصر الباروك قد اختلفت وتميزت فنياً عن أسلوب فنانات عصر النهضة وما بعدها. واللوحة تتناول القصة التوراتية لفتاة يهودية تدعى جوديث تتسلل ليلاً إلى خيمة قائد الجيش الذي يحاصر مدينتها لتقتله وتحمل رأسه إلى قومها. وعندما نقارن هذه اللوحة تحديداً مع لوحة كرافاجيو التي تصور الموضوع ذاته، سنصل لنتيجة أن لوحة أرتيمسيا أكثر دموية وواقعية، وكأنها تصب حنقها وغضبها من خلال بطلتها جوديث على ذلك الرجل الذي تدعس جبهته بقبضة يدها القوية، وتحز عنقه بسيفها، بينما تتطاير نافورات الدم على السرير. الغريب في هذه اللوحة أيضاً أن عيني الرجل الضحية مفتوحتان وهو يعرف تماماً ماذا يحصل له وعلى يد منّ. لكن كيف تسنى لامرأة حبيسة منزلها غالباً رسم مشهد القتل والدماء بكل هذه الواقعية؟ كثيراً ما فُسرت هذه اللوحة، كما بقية لوحات أرتميسيا، كأنها سيرة ذاتية لحياة الفنانة التي واجهت الكثير من المحن والمصاعب، حين عبرت عن حنقها وشعورها بالظلم بالاستعانة بثيمات وقصص دينية من العهد القديم معروفة ومتداولة فنياً، وغالباً كانت النساء بطلات تلك القصص. الرجل الذي يتم حزّ رقبته في تلك اللوحة يأخذ ملامح الفنان الإيطالي أوغستينو تاسي (1578 - 1644) صديق والدها أورازيو جنتلسكي الذي كلفه الأخير بتعليمها فن المنظور، لكن أوغسيتنو سرعان ما استغل ثقة أورازيو، وأغوى واغتصب أرتيمسيا، وهي بعمر السابعة عشرة، واعداً إياها بالزواج. سيكتشف الأب هذه الفعلة الدنيئة ويقيم دعوة قضائية على أوغسيتنو بتهمة النيل من شرف الابنة، وخلال شهور المحاكمة ستبدع أرتيمسيا لوحتها «سوزانا والعجوزان/1610»، وهي لوحة بالحجم الكبير تصور القصة التوراتية لفتاة عفيفة في حمامها بينما يراقبها عجوزان، ويطلبان منها ممارسة الرذيلة، وهي تبادلهم الرفض والاشمئزاز والانزعاج.
حينما وقفتُ أمام لوحة «سوزانا والعجوزان»، وهي القصة التي رسمتها أرتيمسيا مراراً أيضاً، تساءلت كيف يمكن لشابة في السابعة عشرة تعرضت لقهر وإذلال المحاكمة العلنية الطويلة لإثبات صدق ادعائها بالاغتصاب، أن تبدع هذه اللوحة ذات الألوان المدهشة والممسرحة بإتقان وباستخدام أسلوب الـ«Chiarosura» (أسلوب التناقض الحاد بين العتمة والضوء)، لإضافة دراما حركية لونية على شخوص اللوحة.
أرتيمسيا في روما

وصلت أرتيمسيا مع زوجها الفنان بيرانتونيو ستياتيسي، فلورنسا القرن السابع عشر، قبلة الفن والفنانين، وسرعان ما أصابت شهرة وأصبحت فنانة محترفة تعيش من فنها، تعلمت القراءة والكتابة، وقُبلت في أكاديمية فلورنسا الفنية عام 1616 كأول امرأة تقبل في الأكاديمية العريقة، وحظيت برعاية كويزمو دي مديتشي الثاني دوق فلورنسا، رغم التنافس الشديد من قبل الفنانين لنيل الحظوة لدى أسرة الميتدشي المعروفة بحبها للفن والفنانين. في هذه الفترة أبدعت عدداً من لوحاتها الشهيرة منها «جوديث تحز رقبة هولفرنس»، وصور ذاتية تصور نفسها كالقديسة كاترينا الإسكندرانية وأخرى كعازفة عود، والملاحظ أنها بكل لوحاتها تستثمر مكابداتها وقوة شخصيتها من خلال إحلال ملامحها الذاتية على شخصياتها النسائية التوراتية ذات الأذرع القوية، وكثيراً ما ذكرتني هذه الصور الذاتية بالفنان الهولندي رامبرنت. في بلاط كوزيمو الثاني التقت بأشهر علماء وفناني عصرها مثل غاليليو غاليلي والشاعر مايكل أنجلو بوناروتي ابن اخ الفنان مايكل أنجلو، وارتبطت بعلاقة عاطفية مع نبيل فلورنسي يدعى فرانسيسكو مارينغي. لم تخل سنواتها الست في فلورنسا من المصاعب، فقد توفى أربعة من أطفالها الذين أنجبتهم في سنوات متلاحقة، وتعرضت لمصاعب مادية اضطرتها إلى الرجوع لروما، وبيع مقتنياتها في فلورنسا لتسديد ديونها.
حين عادت أرتيمسيا إلى روما عام 1620 كانت قد حازت شهرة واسعة، وكان المقتنون يتسابقون للحصول على لوحاتها، وسرعان ما انخرطت في الحياة الفنية وفي حلقات الفنانين الأوروبيين في روما، ربطتها صداقة مع الفنان الفرنسي سايمون فويت (1590/1649) وهو أبرز ممثلي الكرافاجية (نسبة إلى كارافاجيو)، حيث رسم لها صورة شخصية وهي تحمل لوحة ألوانها وفرشاتها ترسيخاً لصورتها كفنانة، وكذلك هناك تخطيط مذهل ليدها اليمنى وهي تحمل فرشاتها الدقيقة رسمه الفنان الفرنسي بيير دومنستير الثاني لها من تلك الفترة. بينما استمرت أرتميسيا برسم اللوحات الكبيرة التي تصور مشاهد دينية وميثولوجية التي كانت امتحاناً لبراعتها الفنية، واستمرت أيضاً تزيح نساء لوحاتها عن الأنوثة والرقة وجعلهن فاعلات مسيطرات، حيث رسمتهن بواقعية دراماتيكية وبأذرع مفتولة وقوة ممزوجة بعاطفة هشة، كما في لوحة «ياعيل وسيسرا/ 1620». سيموت ابنها كريستيفانو ولم يبلغ الخامسة من عمره في هذه الفترة وسيختفي أي أثر لزوجها أيضاً. وستنتقل إلى البندقية بين الأعوام (1927 - 1630) ربما للبحث عن رعاة أثرياء لفنها، لكنها سرعان ما ستتخذ مدينة نابولي التي كانت تحت السيطرة الإسبانية مستقراً لها لما تبقى من حياتها، ربما بدعوة من دوق المدينة الإسباني الذي كان من هواة فنها، واقتنى ثلاث من لوحاتها قبل وصولها إلى المدينة. سرعان ما سترسم أرتيمسيا أعمالاً فنية لكاتدرائية المدينة، منها لوحة «ولادة القديس يوحنا المعمدان». لكنها ستلتحق بأبيها أورازيو في لندن بدعوة من الملك ريتشارد الأول في عام 1638 ربما لمساعدته في تزيين سقف قصر الملكة هنريتا ماريا في منطقة غرينتش، لكن أورازيو سرعان ما سيموت فجأة، تاركاً ابنته كرسامة في بلاط الملك ريتشارد الأول. وأبرز لوحة من فترة وجودها في لندن هي «صورة ذاتية كأمثولة للفن/ 1638»، التي تصور بها نفسها كرمز فني متماهية مع عملها وتحمل في يديها أدواتها الفنية وقلادة لجمجمة ترمز إلى الفناء تتدلى من عنقها، اللوحة تمثل تحدياً حقيقياً لنبوغ أرتيمسيا الفني، حيث استعملت الفنانة عدة مرايا كي ترسم انعكاس صورتها من زوايا عديدة، وقد لجأت بحذق إلى تقنية التقصير والعتمة المضادة للضوء وغيرها من التقنيات ثلاثية الأبعاد لجعل المشاهد ينجذب لا شعورياً، ويميل بجسمه نحو اللوحة، هذه اللوحة لا تزال ضمن المقتنيات الفنية للعائلة الملكية البريطانية.
عادت أرتيمسيا إلى نابولي بعد اندلاع الحرب الأهلية في بريطانيا عام 1642، ولا يعرف تاريخ موتها، لكن آخر لوحة رسمتها (سوزانا والعجوزان) تعود لعام 1652 وهناك أعمال فنية لها لا تزال ضائعة، مثل لوحة «ديفيد مع رأس غولياث» التي تم إعادة اكتشافها في لندن عام 2020، والتي ربما تكون أرتيمسيا قد رسمتها لمقتن إنجليزي خلال فترة إقامتها في لندن.



شبل الأسد «سارة» أُجليت من لبنان إلى جنوب أفريقيا لحياة أفضل

بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)
بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)
TT

شبل الأسد «سارة» أُجليت من لبنان إلى جنوب أفريقيا لحياة أفضل

بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)
بإمكان الجميع بدء حياة أخرى (أ.ب)

عندما وصلت «سارة» إلى منزل مُنقذيها للمرة الأولى، كانت متعبة ومريضة، وعلامات الاعتداء تظهر في جميع أنحاء جسدها الصغير المكسوّ بالفرو. وبعد قضاء شهرين في شقّة صغيرة ببيروت مع جمعية للدفاع عن حقوق الحيوان، وصلت أنثى شبل الأسد، البالغة 4 أشهر ونصف الشهر، الجمعة، إلى محمية للحيوانات البرّية بجنوب أفريقيا، بعد رحلة طويلة على يخت وطائرات، فراراً من الغارات الجوّية الإسرائيلية ومالكي الحيوانات المُسيئين. تروي «أسوشييتد برس» حكايتها. فـ«سارة» هي خامس شبل أسد تُجليها مجموعة إنقاذ محلّية تُدعى «حيوانات لبنان»، خارج البلاد، منذ اندلاع الحرب.

ثمة دائماً يدٌ تمتد لتُنقذ (أ.ب)

اكتشفت «حيوانات لبنان»، «سارة»، للمرة الأولى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي في يوليو (تموز)؛ إذ نشر صاحبها اللبناني من مدينة بعلبك، فيديوهات وهو يتجوّل معها عبر «تيك توك» و«إنستغرام». وإذ يحظر القانون في لبنان امتلاك الحيوانات البرّية والغريبة، قال المدير التنفيذي لجمعية «حيوانات لبنان»، جيسون ماير، إنّ شبل الأسد هذه كانت «تُستخدم للتباهي فقط». وفي منتصف سبتمبر (أيلول)، انتشلتها المجموعة أخيراً بعد رفع دعوى أمام القضاء الذي استجوب صاحبها وأجبره على التخلّي عنها. بعد ذلك، اندلعت الحرب وتعرَّضت بعلبك لقصف عنيف.

شبل الأسد «سارة» تغادر لبنان وعذاباته (أ.ب)

أخرج ماير وفريقه «سارة» من المدينة ونقلوها إلى شقة في منطقة الحمراء التجارية المزدحمة في بيروت. كان من المفترض أن تسافر إلى جنوب أفريقيا في أكتوبر (تشرين الأول)، ولكن شركات الطيران الدولية أوقفت رحلاتها إلى لبنان. وقبل الحرب، نشطت «حيوانات لبنان» في وقف الاتجار بالحيوانات، خصوصاً الغريبة منها، فأنقذت أكثر من 20 قطة كبيرة من السجن في منازل فخمة، وأرسلتها إلى محميات الحياة البرّية. ومنذ اندلاعها، تُنقذ الجمعية الحيوانات الأليفة المُحاصَرة في الشقق المُدمَّرة. قال ماير: «كثير منها في رعايتنا؛ لأنّ أصحابها لا يزالون نازحين. لا نتوقَّع من الشخص استعادة هذا الحيوان عندما يكون مقيماً في شارع أو مدرسة».

مرَّت عليها أيام قاسية (أ.ب)

لم تُدرك «سارة» الحرب من حولها. تغذَّت بأطباق اللحوم النيئة ونما وزنها إلى 40 كيلوغراماً. احتضنتها ماغي زوجة ماير؛ الناشطة في مجال حقوق الحيوان. ثم طرأت عقبة كبيرة: كيف ستخرج من لبنان؟ جمعت «حيوانات لبنان» تبرّعات من مناصرين وجماعات حقوقية حول العالم لوضع «سارة» على يخت صغير لنقلها إلى قبرص. من هناك، سافرت إلى الإمارات، قبل أن تنتهي رحلتها الطويلة في كيب تاون. قبل أيام من إجلائها، كانت «سارة» تلعب في إحدى غرف النوم بشقة ماير، وتُبعثر الوسائد والألعاب. وصلت صباح الخميس إلى مرفأ الضبية في شمال بيروت، فشعر ماير وفريقه بالارتياح، لكنهم أيضاً حبسوا دموعهم لدى مغادرتها. يتوقَّع ماير احتجاز «سارة» للمراقبة ومكافحة الأمراض، لكنها ستكون قريباً جزءاً من مجتمع أُسود أخرى. ختم: «ستُدمَج مع اثنين من الأُسود التي أُجليت مؤخراً من لبنان، فتتكوَّن مجموعة لطيفة من 3 أُسود. هناك ستعيش طوال حياتها. هذا الخيار الأفضل بالنسبة إليها».