«أوسكار وايلد» والحلم الإيطالي

كتب آخر قصائده في نابلي وشكلت محطة مهمة في حياته

أوسكار وايلد
أوسكار وايلد
TT

«أوسكار وايلد» والحلم الإيطالي

أوسكار وايلد
أوسكار وايلد

منذ مطالع القرن التاسع عشر، توافد على إيطاليا العشرات من كبار الفنانين والأدباء والشعراء والفلاسفة العالميين، فجابوا متاحفها ومعالمها، وأمضوا فترات طويلة من الزمن في ربوعها، ومنهم من استقر فيها حتى مماته، يغرفون من مناهل الإبداع ومواطن الجمال التي تزخر بها مدنها العريقة التي كانت مهد عصر النهضة وموئلاً لمعظم عمالقته، حتى صارت «الرحلة الإيطالية» محطة لازمة في مسار أعلام الفنون والآداب الأوروبية، وتجربة يُستدل بها على نضوجهم وسعة اطلاعهم.
وقد حرص الإيطاليون دائماً على إبراز تهافت المشاهير على بلادهم، وخصصوا لهم النصب التذكارية، واعتنوا بالأماكن التي أقاموا فيها وكانت من مصادر إلهامهم، وبرعوا في توظيفها لترويج السياحة الأدبية والفنية التي تعد إيطاليا مركزها العالمي الأول.
ومن كبار الشعراء والأدباء الأوروبيين الذين تأثروا كثيراً بالرحلة الإيطالية التي بقيت مغمورة في البحوث التي تناولت نتاجهم وتعمقت في مسارهم الشخصي، الآيرلندي أوسكار وايلد الذي ينكب حالياً عدد من الباحثين الإيطاليين والآيرلنديين على استكشاف تجربته الإيطالية التي بدأت عندما كان لا يزال على مقاعد الدراسة في أكسفورد، ثم كتب فيها قصائده الأولى عام 1875، واستمرت عبر زيارات كثيرة، كان آخرها قبل وفاته بأشهر في باريس أواخر العام الأول من القرن الماضي.
بعد خروجه من السجن في بريطانيا، حيث أمضى عقوبة بعد إدانته بتهمة الممارسات الجنسية الفاضحة، كتب أوسكار وايلد: «حيث يكون الألم، تكون الأرض مقدسة». تلك الجملة محفورة اليوم على مدخل الفندق الباريسي الفخم المزين برسوم وصور للشاعر ومخطوطات من قصائده الخالدة، الذي يقوم في المبنى الذي كانت تقع فيه الغرفة البائسة التي أمضى بين جدرانها السنوات الثلاث الأخيرة من حياته بعد مغادرته السجن، وأصبحت اليوم الجناح الرئيسي في الفندق الذي تحول إلى مزار يقصده المعجبون بشعره من كل أنحاء العالم.
لكن العاصمة الفرنسية لم تكن وحدها المدينة التي حمل إليها وايلد عذاباته، وتسكع في شوارعها وحاناتها، بعد أن أبعدته عن بريطانيا الصرامة الاجتماعية التي كانت سائدة هناك على عهد الملكة فيكتوريا. هذا ما يؤكده ويكشفه الفنان الناقد الإيطالي ريناتو ميراكو في بحث طويل موثق، بعنوان «أوسكار وايلد والحلم الإيطالي»، يعرض فيه لسنوات المنفى التي عاشها الشاعر في إيطاليا خلال زياراته المتعددة إليها، مع رسائل وصور ومخطوطات تنشر لأول مرة، وتحكي الكثير عن شغفه بهذا البلد وتأثره به.
يقول وايلد في إحدى الرسائل الموجهة إلى أحد أصدقائه: «يصعب علي أن أصف لك مدى حبي لهذه البلاد، وهو حب ممزوج بالحسرة، لكوني اكتشفت سحرها متأخراً، رغم أن زيارتي الأولى لها تعود لمرحلة الدراسة الجامعية، وأني قطعاً أفضّلها على دبلن أو لندن».
في نابولي، كتب وايلد آخر قصائده التي ختم بها مجموعته الشهيرة حول فترة اعتقاله، وفيها أمضى الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 1897، في شارع «فيلّا جيوديتشيه»، حيث تعمل البلدية حالياً على ترميم المبنى الذي كان يسكنه، ومقهى «غامبرينوس» الشهير الذي كان يتردد عليه كل يوم، وينصرف إلى الكتابة أو التأمل وراء الطاولة نفسها.
كان وايلد قد توجه إلى منطقة النورماندي الفرنسية في اليوم التالي لخروجه من السجن، عاقداً العزم على العيش زاهداً متنسكاً بعد التجربة المريرة التي عاشها بسبب المحاكمة الشهيرة التي كان قد رفع فيها قضية ضد والده. لكن سرعان ما غير رأيه، وقرر الذهاب إلى إيطاليا، حيث شهدت النور قصائده الأولى، وحيث بقي يتردد كلما سنحت له الفرصة أو حن إلى دفء مناخها وحرارة معشر أهلها.
من نابولي التي كان يقول «إن رياح الحرية التي تهب بين أضلع هذه المدينة تذكرني كل لحظة بالسنوات التي ضيعتها في لندن»، انتقل وايلد إلى ميلانو التي لم تعجبه كاتدرائيتها الشهيرة التي قال إن تصميمها من الخارج قبيح، وداخلها يفتقر إلى اللمعة العبقرية التي تشتهر بها الأعمال الفنية الإيطالية الكبرى. لكنه شُغف بمطعم «نيف» الذي كان يتردد عليه يومياً، وما زال إلى الآن يقدم الأطباق المفضلة لدى صاحب «صورة دوريان غراي».
ومن ميلانو انتقل وايلد إلى فلورانسة التي كتب فيها رسائل كثيرة إلى أصدقائه ووالده، قبل أن تنقطع العلاقة بينهما، كان يتغنى فيها بمفاتن عاصمة توسكانة وأريافها، وبكاتدرائية القديس لورنزو التي وصفها بالمعجزة المعمارية الفنية، ولوحة «صعود العذراء» لتيزيانو التي قال إنها أجمل لوحة في إيطاليا.
بعد تلك الرحلة بأربع سنوات، عاد وايلد إلى إيطاليا، في طريقه إلى اليونان، وجاب المناطق المحيطة بخليج نابولي، نزولاً حتى الشواطئ المطلة على جزيرة صقلية، حيث وضع واحدة من أجمل قصائده (أنشودة الاقتراب من إيطاليا). وقبل أن يركب البحر من ميناء نابولي في اتجاه اليونان، عاد للمرة الأخيرة إلى المقهى الذي كان يتردد عليه منتحلاً شخصية أخرى، تحت اسم «سيباستيان ميلموث»، فيما كانت مسارح «وست أند» اللندنية تعرض أعماله من غير الإشارة إلى اسم كاتبها.
وفي زيارته الأخيرة إلى إيطاليا، عرج وايلد على جزيرة كابري التي كان السياح البريطانيون يرتادونها بكثرة، وتعرض فيها لمضايقات كثيرة عندما كان الرعايا البريطانيون يغادرون الأماكن السياحية التي يدخل إليها. وحدث مراراً أن طلب منه أصحاب بعض هذه الأماكن مغادرتها، نزولاً عند رغبة مواطنيه الذين كانوا يرون فيه شخصاً ماجناً فاسقاً. ومن كابري، انتقل لقضاء فترة في «تاورمينا» بجزيرة صقلية التي كان يقول عنها لأصدقائه إنها «زبدة الفن الكلاسيكي، وأقرب مكان إلى الجنة على هذه الأرض».
روما كانت أيضاً من المحطات التي أمضى فيها وايلد فترات خلال زياراته إلى إيطاليا، حيث كان يتردد أسبوعياً على قصر «دوريا بانفيلي» لمشاهدة بورتريه البابا إينوسنسيو العاشر للرسام الإسباني الشهير دييغو فيلازكيز الذي كان يقول إنه أجمل لوحة في العالم. كما كان يواظب على شراء بطاقات له ولأصدقائه لحضور لقاءات مع البابا في حدائق الفاتيكان، حيث كان يفاخر أمامهم متحدثاً مع السياح باللغتين الفرنسية والألمانية اللتين كان يتقنهما.
وبعد رحلته الأخيرة من إيطاليا إلى باريس، توفي وايلد عن ٤٦ عاماً قبل أن يحقق حلمه بتمضية شتاء عام 1900 في الربوع الإيطالية التي أحبها، وتمنى العيش فيها، وحيث يسير الإيطاليون اليوم في خطاه يستحضرون ذكراه وروائع أعماله الأدبية.



موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
TT

موسوعة لتوثيق أعمال سعيد العدوي مؤسس جماعة التجريبيين بمصر

أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)
أعمال سعيد العدوي اتسمت بالتجريد والأفكار الشعبية (الشرق الأوسط)

تأتي موسوعة الفنان سعيد العدوي (1938-1973) لترصد مسيرة مؤسس جماعة التجريبيين المصريين وأحد أبرز فناني الحفر والجرافيك في النصف الثاني من القرن العشرين.

وتتضمن الموسوعة، حسب قول المشرف عليها والباحث في شؤون الحركة الفنية المصرية الدكتور حسام رشوان، المئات من أعمال العدوي ويومياته ومذكراته واسكتشاته، مدعومة بعدد كبير من الدراسات التي تم إعداد بعضها خصوصاً من أجل هذه الموسوعة، ومعها دراسات أخرى نشرها أصحابها في صحف ومجلات ومطبوعات خاصة بالفن في مصر والوطن العربي.

وقال لـ«الشرق الأوسط»: «إن مقدمة الدكتورة أمل نصر تتناول جميع المقالات، والزاوية التي نظر منها الناقد لأعمال العدوي موضع الدراسة، كما تقوم بقراءتها وتحليلها وبسط عناصرها أمام الباحثين ومحبي فنه».

موسوعة العدوي تضمنت اسكتشاته ورسوماته (الشرق الأوسط)

وتأتي موسوعة العدوي التي نشرتها مؤسسة «إيه آر جروب» التي يديرها الفنان أشرف رضا، في صورة مونوغراف جامع لكل أعماله، التي تعبق برائحة الماضي، وعالم الموشحات، وحلقات الذكر والمشعوذين، وعربات الكارو والحنطور، وتجمعات الموالد والأسواق والأضرحة، فضلاً عن لوحة «الجنازة» بعد رحيل عبد الناصر. وجمعت الموسوعة كل كراساته واسكتشاته بالكامل، ومذكراته الخاصة التي كتبها وتعتبر دراسات نفسية قام بكتابتها، وقد ساعدت هذه المذكرات النقاد والباحثين في فن العدوي على تناول أعماله بصورة مختلفة عن سابقيهم الذين تصدوا لفنه قبل ظهورها، وفق رشوان.

ولأعمال العدوي طابع خاص من الحروفيات والزخارف والرموز ابتكرها في إبداعاته وهي تخصه وحده، وتخرّج العدوي ضمن الدفعة الأولى في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1962، وأسس مع زميليه محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي جماعة التجريبيين. وتأتي الموسوعة باللغة العربية في قطع كبير بالألوان، تزيد على 600 صفحة، من تصميم وتجهيز وإنتاج طباعي «إيه آر جروب» للتصميم والطباعة والنشر.

الموسوعة ضمت العديد من الأعمال الفنية ودراسات عنها (الشرق الأوسط)

وتتضمن الموسوعة، وفق رشوان، دراستين جديدتين للدكتور مصطفى عيسى، ودراسة لكل من الدكتورة ريم حسن، وريم الرفاعي، والدكتورة أمل نصر، ودراسة للدكتورة ماري تيريز عبد المسيح باللغة الإنجليزية، وجميعها تم إعدادها خصوصاً للموسوعة، وهناك دراسات كانت موجودة بالفعل للدكتور أحمد مصطفى، وكان قد جهّزها للموسوعة لكن عندما أصدرت مجلة فنون عدداً خاصاً عن فن العدوي قام بنشرها ضمن الملف، وإلى جانب ذلك هناك بحث عن أعمال العدوي للراحلين الدكتور شاكر عبد الحميد والفنان عز الدين نجيب وأحمد فؤاد سليم ومعهم عدد كبير من النقاد والفنانين الذي اهتموا برائد التجريبيين المصري وأعماله.

والتحق سعيد العدوي بمدرسة الفنون بالإسكندرية سنة 1957، وقبلها بعام كان في كلية الفنون بالزمالك، وقضى خمس سنوات لدراسة الفن في عروس البحر المتوسط، أما الأعمال التي تتضمنها الموسوعة وتوثق لها فتغطي حتى عام 1973؛ تاريخ وفاته. وهناك عدد من رسوم الكاريكاتير كان قد رسمها وقت عمله بالصحافة، وهذه الأعمال اهتمت بها الموسوعة ولم تتجاهلها لأنها تكشف عن قدرات كبيرة للعدوي وسعيه للدخول في مجالات عديدة من الفنون التشكيلية، وفق كلام رشوان.

من أعمال العدوي (الشرق الأوسط)

ولفت إلى أن «تراث العدوي بكامله بات متاحاً من خلال الموسوعة للباحثين في فنه والمهتمين بأعماله وتاريخ الفن التشكيلي المصري، وقد توفر لدى كتّاب الموسوعة عدد مهول بالمئات من اللوحات الكراسات والاسكتشات، فأي ورقة كان يرسم عليها اعتبرناها وثيقة وعملاً فنياً تساعد في الكشف عن رؤية العدوي التشكيلية وعالمه الخَلَّاق».

ولا تعتمد الموسوعة فكرة التسلسل الزمني، لكنها توثق عبر المقالات كل الأعمال التي تناولتها، من هنا بنى رشوان رؤيته وهو يرسم الخطوط الرئيسية لفن العدوي على الدراسات البانورامية التي تشتغل بحرية كاملة على الأعمال دون التقيد بتاريخها.

وسبق أن أصدر الدكتور حسام رشوان، بالاشتراك مع الباحثة والناقدة الفرنسية فاليري هيس، موسوعة فنية عن رائد التصوير المصري محمود سعيد عن دار «سكيرا» الإيطالية عام 2017 بمناسبة مرور 120 عاماً على ميلاد محمود سعيد، وتضمنت الموسوعة في جزئها الأول أكثر من 500 لوحة و11 مقالاً ودراسة نقدية.