شغف الفرنسيون لأسابيع طويلة، خاصة خلال فترات الحجر، برواية غيوم ميسو «حياة الكاتب السرية»، التي احتلت قوائم أفضل الكتب مبيعاً. وهي تروي قصة كاتب مشهور، يعيش منسحباً ومختبئاً عن الجميع، ويداري في عزلته الكثير من الأسرار. وتصدر هذه الرواية خلال أيام، باللغة العربية، عن «دار هاشيت - أنطوان» في بيروت.
تنشر «الشرق الأوسط»، مقطعاً من الفصل الأول، بالتعاون مع دار النشر، علماً بأن القراء العرب، باتوا يعرفون جيداً ميسو، الذي يحتل صدارة المبيعات في فرنسا منذ سنوات، وترجمت رواياته إلى عشرين لغة بينها العربية، ومن كتبه الموجودة بلغة الضاد «الصبية والليل»، و«عائد لأبحث عنك». وهنا مقطع من رواية «حياة الكاتب السرية» التي ستكون في متناول القارئ العربي خلال أيام.
– ماذا تفعل هنا بحق الجحيم؟
– جئت لرؤيتك يا سيد فاولز.
سحبت حقيبة الظهر لإخراج مخطوطة «خجل القمم».
– اسمي رافاييل باتاي. ألفت رواية. أتمنى أن تقرأها لتعطيني رأيك.
– لا آبه إطلاقًا بروايتك. ولا يحق لك أبدًا أن تأتي وتتربص بي في عقر داري.
– أنا أحترمك جدًا وبالتالي لن أتجرأ أبدًا على التربص بك.
– ومع ذلك، هذا ما تفعله الآن. لو كنت حقًا تحترمني، لاحترمت أيضًا حقي في عدم التعرض للإزعاج.
انضم إلى فاولز على التراس كلب فظيع من فصيلة غولدن ريتريفر وبره ذهبي اللون، وراح ينبح في اتجاهي.
– لماذا واصلت التقدم وأنا أطلق النار عليك؟
– عرفت أنك لن تقتلني.
– ما الذي أوحى لك بذلك؟
– لأنك كتبت «لوريلاي ستراينج» و«المحطمون».
سمعته يضحك هازئًا وأنا ما زلت معميًا من الضوء المعاكس.
– إن كنت تعتقد أن الكتاب يتمتعون بالفضائل الأخلاقية التي ينسبونها إلى شخصياتهم، فأنت ساذج حقًا. لا بل حتى غبي بعض الشيء.
– اسمع، أنا لا أود سوى بعض النصائح منك. لتحسين كتاباتي.
– نصائح؟ لم تجعل أي نصيحة كاتبًا أفضل مما كان! لو كانت لديك ذرة من الذكاء، لكنت فهمت ذلك بنفسك.
– أن تعير الآخرين قليلًا من الانتباه لا يضر أحدًا.
– لا يمكن لأحد أن يعلمك كيفية الكتابة. هذا أمر عليك أن تتعلمه بنفسك.
بدا فاولز مفكرًا، واسترخى لحظة ليداعب رأس كلبه قبل أن يكمل:
– حسنًا، أردت نصيحة، وها قد حصلت عليها. ارحل من هنا الآن.
– هل يمكن أن أترك لك مخطوطتي؟ سألته وأنا أخرج الصفحات المجلدة من حقيبتي.
– لا، لن أقرأها. لا أمل بذلك.
– تبًا، أنت صعب المراس!
– رغم ذلك سأقدم لك نصيحة أخرى مجانية: افعل شيئاً آخر في حياتك بدلًا من أن تصبح كاتبًا.
– هذا ما ينصحني به والداي طوال الوقت.
– هذا يثبت أنهما أقل غباء منك.
هبت رياح قوية مفاجئة فتسببت في تدفق موجة على الصخرة حيث كنت موجودًا. لتجنبها، تسلقت مجموعة أخرى من الصخور، ما جعلني أقرب إلى الروائي.
كان قد أعاد وضع بندقية البومب أكشن تحت كتفه. كانت من طراز ريمنجتن وينجماستر، مزودة بذراع مزدوجة منزلقة، كتلك التي كنا نراها أحيانًا في الأفلام القديمة، حتى لو كانت مصنفة بندقية صيد.
– ما اسمك على فكرة؟ سألني بعد أن انحسرت الموجة.
– رافاييل، رافاييل باتاي.
– وكم عمرك؟
– أربع وعشرون سنة.
– منذ متى وأنت ترغب في الكتابة؟
– منذ فترة طويلة. هذا فقط ما يهمني.
اغتنمت فرصة الاستحواذ على انتباهه، واسترسلت في مونولوج لأشرح له إلى أي درجة شكلت القراءة والكتابة، منذ طفولتي، خشبة خلاص ساعدتني على تحمل رتابة العالم وتفاهته. وكيف بنيت بفضل الكتب حصنًا داخليًا...
– هل ستواصل سرد الكليشيهات فترة طويلة؟ قاطعني سائلًا.
– ليست كليشيهات، احتججت منزعجًا وأنا أعيد وضع مخطوطتي في حقيبة الظهر.
– لو كنت في عمرك اليوم، لكانت لدي طموحات أخرى غير الرغبة في أن أصبح كاتبًا.
– لماذا؟
– لأن حياة الكاتب هي الشيء الأقل روعة في العالم، تنهد فاولز. أنت تعيش كالأحياء الأموات، وحيدًا ومنقطعًا عن العالم. تبقى في ثوب النوم طوال النهار وتؤذي عينيك مسمرًا أمام الشاشة وأنت تتناول البيتزا الباردة وتتحدث إلى شخصيات خيالية ستفقدك صوابك في نهاية المطاف. تمضي لياليك وأنت تعصر أفكارك لتكتب جملة لن يلحظها ثلاثة أرباع قرائك القلائل. هذه هي خلاصة أن تكون كاتبًا.
– لكن الأمر لا يقتصر على ذلك...
تابع فاولز كلامه كما لو أنه لم يسمع شيئاً:
– وأسوأ ما في الأمر هو أن تصبح في نهاية المطاف مدمنًا هذه الحياة المقرفة لأنك تتوهم أنك الخالق، بواسطة قلمك ولوحة مفاتيحك، وتملك القدرة على ترقيع الواقع.
– يسهل عليك قول ذلك. لقد حصلت على كل شيء.
– علام حصلت؟
– ملايين القراء، والشهرة، والمال، والجوائز الأدبية، ونساء في سريرك.
– بصراحة، إذا كنت تكتب فقط للحصول على المال والنساء، فاختر مهنة أخرى.
– أنت تعرف ما أقصد.
– لا. ولا أعرف حتى لماذا أجادلك.
– سأترك لك مخطوطتي.
اعترض فاولز، لكنني لم أضيع الوقت ورميت الحقيبة نحو التراس حيث كان يقف.
تفاجأ الروائي وحاول أن يحيد بعيدًا من الحقيبة كي لا تصيبه. زلت قدمه اليمنى وسقط على الصخرة.
كتم صيحة، وحاول النهوض على الفور مطلقًا شتيمة:
– تبًا وتبًا ألف مرة. كاحلي!
– أنا محرج. سأساعدك.
– لا تقترب مني! إن كنت تريد مساعدتي، فابتعد قدر المستطاع ولا تعد أبدًا!
التقط بندقيته وصوبها نحوي. هذه المرة، لم أعد أشك في أنه قادر على أن يرديني فورًا. استدرت وهربت، منزلقًا على الصخور، متشبثًا بيد واحدة ومن ثم بالأخرى وقد نسيت كرامتي تقريبًا للهروب من غضب الروائي.
وأنا أبتعد من المكان، تساءلت كيف يمكن أن يتلفظ ناثان فاولز بهذا الكلام المحبط اليوم. كنت قد قرأت مقابلات لا تعد ولا تحصى أجريت معه قبل العام 1999. قبل انسحابه من الساحة الأدبية، لم يكن فاولز يتردد ولو لحظة في التحدث إلى وسائل الإعلام. كان كلامه دائمًا لطيفًا ويسلط الضوء على حبه للقراءة والكتابة. ما الذي جعله ينقلب من النقيض إلى النقيض؟
لماذا قد يتخلى رجل في ذروة مجده فجأة عن كل ما يحب أن يفعله، وعن كل ما يبنيه ويؤمن عيشه، ليعيش في عزلة؟ ما الذي خرب حياة فاولز إلى درجة أنه تخلى عن كل ذلك؟ اكتئاب شديد؟ حداد؟ مرض؟ لم يتمكن أحد من الإجابة عن هذه الأسئلة.
إحساس في داخلي أنبأني بأنني إن تمكنت من كشف لغز ناثان فاولز، فسأنجح أيضًا في تحقيق حلمي بنشر كتاب.
حين عدت إلى الغابة، ركبت دراجتي وتوجهت مجددًا نحو الطريق للوصول إلى المدينة. كان يومي مثمرًا. ربما لم يقدم لي فاولز درس الكتابة الذي كنت أتوقعه، لكنه فعل ما هو أفضل من ذلك: لقد أعطاني موضوعًا رائعًا لتأليف رواية، ومنحني الطاقة التي أحتاج إليها لكي أباشر كتابتها.
«حياة الكاتب السرية»... احتلت قوائم أفضل الكتب مبيعاً خلال فترة الحجر الفرنسي
ترجمة عربية لرواية غيوم ميسو الجديدة تصدر قريباً
«حياة الكاتب السرية»... احتلت قوائم أفضل الكتب مبيعاً خلال فترة الحجر الفرنسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة