«جريمة في مسرح القباني»... كتابة شهادة عن تاريخ ما جرى نسيانه

زمن السرد فيها يشهد هول الحرب ودمار سوريا الحديثة

مسرح القباني
مسرح القباني
TT

«جريمة في مسرح القباني»... كتابة شهادة عن تاريخ ما جرى نسيانه

مسرح القباني
مسرح القباني

لا رواية دون مصادر تحيل إليها علناً، أو تحاول، قدر المستطاع، إخفاءها. وما بين الإعلان والإخفاء ثمة مسافة تتسع وتضيق حسب تحولات النوع السردي. وما التأكيدات التي نقرأها في مطالع الروايات أو خواتمها الخاصة بعدم مطابقة أحداث الروايات وشخصياتها لمسارات الواقع الفعلي سوى محاولة للتنصل والتنكر للمصدر الذي استقت منه الرواية عالمها السردي. ولا بأس، غير أن الرواية، بنصوصها الحديثة، صارت تبني سرديتها على أساس من الاعتراف والاندماج بمصادرها. رواية السوري باسم سليمان «جريمة في مسرح القباني (الحد والشبهة): دار ميم للنشر - الجزائر 2020» تنتمي للنوع الثاني؛ فهي تجاهر باستخدام مصادر متعدِّدة، وتبني نصها السردي على أساس من توظيف نصوص وحكايات ومواد سردية مختلفة تشترك جميعها في بناء قصة القاتل. فهي لا تختلف هنا عن مثيلاتها باستخدام المخطوط والإحالة. عندنا، مثلاً، نصوص من القرآن، لا سيّما ما يتعلق منه بقصة تضحية إبراهيم بولده إسماعيل، وقصة اصطفاء آدم، وقصة القاتل الأول كما ترد في القرآن على لسان الضحية هابيل. ثمة إحالة أخرى تصل إلينا عن طريق المحقق هشام الذي تفتتح به الرواية عالمها السردي عن «راسكولينكوف - رواية الجريمة والعقاب»، بوصفها جريمة فائقة الدلالة مع أنها تظل مجرد تخيل روائي. إشارات مختلفة يتصل بعضها ببعض وتحاول أن تخترع لنا قصة قاتل في سياق الحرب والتاريخ الملتبس لسوريا الحديثة: روايات أغاتا كريستي، ودراسة فرويد، ومسرحية ريا وسكينة. وتستكمل الرواية قصة القاتل بإشارة دالَّة لرواية الفرنسي فيكتور هيجو أحدب نوتردام، الذي تستعير منه الرواية تمثلات المنبوذ ذي الوجه المشوه. فإذا كانت «أحدب نوتردام» تتحدث عن رجل مشوه الجسم بعاهة جسدية أجبرته على التخفي والتواري في الكنسية الشهيرة، عن أنظار الناس، ويتعلَّق بشابة جميلة تعطف عليه ولا تتنكر لمنظره المشوه، فإن أحدب جسر الرئيس، هو حارس مسرح القباني الحلبي الهارب من ثأر يطارده طيلة سبعة عشر عاماً، يصل إلى دمشق عام 1979 حاملاً على ظهره حدبة نافرة وساقاً عرجاء جراء إصابة سابقة. وهو مثل صاحبه الهولندي يتخفى بوظيفة حارس المسرح الشهير، ثم متنكراً بصفة بائع كتب قديمة تحت جسر الرئيس، ومن زاويته هناك كان يراقب ويترصد طالبي الثأر القادمين من حلب. ولا تتوقف الاستعارة حتى هنا، إنما نجد الحارس يرتبط بصداقة مع «عبد الله ابن أمة الله» تتطور لاحقاً إلى علاقة أب بابنه. وفي سيرة عبد الله نستكمل بعض ملامح الأحدب المستعارة؛ فهو ضحية تفجيرات الأزبكية عام 1981 التي خلفته لفافة مشوهة الوجه بلا عائلة، ولا أصل، ولا اسم، لا يجد من يحبه سوى دمى يصنعها من مخلفات المدينة - دمشق في زمن السلم، ثم تتحول إلى تلّة خردة في زمن الحرب، فيعمد إلى إعادة تخيل حياته - سيرته عبر المسرح والتطهير، وعبر الإحالة إلى سيرة مماثلة يجد لها القارئ إشارة في كتاب «الذبابة في الحساء»، وهي سيرة الشاعر المشرد كذلك. فماذا تعني كل هذه الإحالات؟
في عنوان الرواية «جريمة في مسرح القباني» المشبع باليقين الخبري، وهو كذلك مشبع بالتوهم والإيهام؛ نكون إزاء صياغة موجزة وأولية لتلاقي هذه الإحالات. يفترض العنوان بصيغته الخبرية أن جريمة وقعت في مسرح القباني، في حين أن الرواية تمضي بعيداً في تسفيه هذه الواقعة وتكذيبها؛ في الأقل هذا ما سينتهي إليه محقق الشرطة في نهاية الرواية، فلا قاتل في قصة عبد الله وتوأمه أو شبيهه. العنوان صيغة خبرية مثبتة تخبرنا بوقوع الجريمة، وهي الإشارة الأولى التي يتلقاها محقق الشرطة هشام ومساعده جميل، والمبلغ عنها ليس سوى المتهم المشتبه به الوحيد حارس المسرح. هذه الصيغة اليقينية ستتلاعب الرواية بها، أو إن شئت قل إن هذا ما ستفعله أوراق عبد الله التي يجدها المحقق في غرفته؛ كأن نص الرواية وعالمها يجب عنوانها. وفي كلمة «جب» دلالة كبرى تتكرر في مواضع كثيرة من الرواية، فهي عتبة مهمة للخلخلة والتشكيك باليقين الذي يضعنا العنوان إزاءه، كأنها تعيد صياغة الفرضية المضادة في الرواية. نحن، هنا، أمام عنوان يتقاطع مع نص مادته السردية؛ فالعنوان دالّة رئيسية، فيما الرواية تفترض تضاداً بين عنوانها ونصها بعالمه السردي المضاد. هل نريد القول إن العنوان ليس عتبة رئيسية للرواية؟ قطعاً لا، كيف إذن؟
يمهّد العنوان السبيل أمامنا لنكون إزاء قصة قاتل في سياق الحدث السوري الدامي. هكذا تبدأ الرواية بمشهد داعم للقصة الرئيسية، قصة القاتل: ثمة ضابط محقق، وهو الممثل للسلطة، ولا يختلف عنه كثيراً رجل دين يصلي ويخطب بالناس في أول أيام عيد الأضحى، ويبلغ المشهد ذروته بصورة رئيس البلاد الذي يراقب المشهد من زاويته المعهودة. نحن في بناية الجنائية وسط دمشق. تجتمع في المشهد الاستهلالي كل مظاهر السلطة التي هي بعض متعلِّقات قصة القاتل، وتصل إلينا عبر ضمير الغائب ومنظور الراوي المراقب الذي يندمج غالباً مع منظور المحقق هشام، ويتحول أحياناً إلى كلي العلم. وهذه قضية تُفيد منها الرواية كثيراً؛ إذ سيكون السرد الذاتي معياراً فارقاً ودالاً على أننا في سياق تأويل مختلف للعنوان وللرواية برمتها. ويؤدي ما يمكن تسميته بالمخطوط الضائع، لا سيما القصص والأشعار التي يجدها المحقق مخبأة في خشبة المسرح، ناهيك بمسرحية الجثة، دوراً رئيسياً في توجيه القراءة والانتقال بالرواية من سياق العنوان، حيث قصة القاتل المزعومة، إلى سياق قصة القتيل الضحية. هل من فارق بين القصتين؛ أليس القاتل صفة لا تتحقق من دون قتيل؟ نزعم أننا في سياق مختلف كلياً. هذا الاختلاف نجده في مسألتين.
الأولى، اتساع وتشعٌّب قصة الضحية «القتيل»؛ فهي تشغل أكثر من مائة صفحة من أصل الرواية كلها البالغ عدد صفحاتها 164. نحن، هنا، إزاء قصة رئيسية تختلف جذرياً عما يريد العنوان أن يقوله ويقنعنا به، فهي لا تتصل، ولا تريد أن تُفسِّر فعل جريمة القتل. إنها قصة يجمع المحقق أوراقها المفقودة، فتبدو لنا أشبه بهوامش من المفروض أن تساعد في إضاءة قصة القاتل وتحديد شخصيته واسمه، لكننا نعرف بتوالي الفصول أننا بصدد بناء قصة الضحية، وهو ذاته توأم المحقق هشام المدفون في مقبرة قريتهم البعيدة. تتكشف القصة كاملة أمامنا عندما ينهي المحقق قراءة أوراق عبد الله كلها، فيخرج من أسفل خشبة المسرح عارفاً أنه وعبد الله قد ولدا في اليوم ذاته «29 نوفمبر (تشرين الثاني)»، وفي سنة واحدة «1981»، بل في سياق حدث واحد، وهو تفجيرات الأزبكية.
المسألة الثانية، تتعلق بما حققه السرد الذاتي الذي كُتبت عبره أوراق عبد الله. لنتذكر أن أوراق عبد الله كُتبت بمنطق النص الأدبي؛ فهي نصوص أدبية يتوفر فيها الوعي بإشكالية الفارق بين السرد الموضوعي والذاتي. هكذا تصل إلينا أغلب أوراق عبد الله عبر السرد الذاتي، ثمة متكلم لا يحيد عن مقصده الرئيسي، وهو كتابة شهادة على ما جرى محوه وتجاهله من التاريخ المعاصر لسوريا. نحن، هنا، في سياق قصة النسيان، أو ما جرى إسقاطه من الذاكرة السورية، وإن شئنا الحق نقول، كما تلح الرواية في مواضع كثيرة، نحن في سياق كتابة تاريخ ما جرى نسيانه، فعبد الله وتوأمه، محقق الشرطة، يصنعان ذاكرة من النسيان. هذا النسيان يمثله القتيل المفترض عبد الله اللقيط الذي عثرت عليه الشرطة بعد تفجيرات الأزبكية عام 1981، وعاش في ملجأ أيتام مشوَّهاً، فلما كبُر منحته الحكومة جنسيتها وبطاقتها المدنية، لكنها عجزت عن منحه أصلاً وجذوراً وعملاً، فيصبح بديلاً عن الزبّال، عامل البلدية في أحياء دمشق. يجمع المفيد من قمامة المدينة ويصنع منها دمى يؤلف منها وبواسطتها مسرحية دمى، ويكتب، في غرفته الفقيرة، قصصاً وأشعاراً. تجمعه الكتب مع حارس مسرح القباني، بائع الكتب، تحت جسر الرئيس، وهو المتهم والمشتبه به الوحيد، بمصادفة سعيدة، بقتل عبد الله الذي يموت على خشبة مسرح القباني وسط الدمى.
تختار رواية «جريمة في مسرح القباني» أدواتها وزمانها ومكانها بدقة ملفتة؛ فزمن السرد فيها يشهد هول الحرب والموت المعبر عنه بـ«تلَّة الخردة» ودمار سوريا الحديثة، فيما تكتب «تؤرخ» لنا أوراق عبد الله تاريخ النسيان. وعلى صعيد المكان، فإن الرواية تختار الزوايا المظلمة من أقدم مدينة عرفتها البشرية، دمشق. وفي اختيار «المسرح» مكاناً متخيلاً لجريمة «القتل» دلالة تعيد توجيه عالم الرواية كاملاً؛ فالمسرح قام على فكرة التطير من الذنب. تبقى أدوات الرواية المستخدمة ببناء عالمها السردي، فنجدها في التوزيع المنظّم للعوالم المتخيلة، ثمة سرد موضوعي يتولى تصوير جبروت السلطة وقوتها، ويدخل ضمنه منظور المحقق هشام ومساعده جميل الذي نعرف أنه هو من وضع توقيعه على خاتمة الرواية. ويقابل هذا الإطار شهادة عبد الله على جريمة النسيان التي أنتجت كل هذا الخراب والموت اليومي.
- كاتب من العراق



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.