أحلام تتنقل بين عالم القاهرة المعاصر وعالم البصرة القديم

المصرية منصورة عز الدين في روايتها الجديدة

أحلام تتنقل بين عالم القاهرة المعاصر وعالم البصرة القديم
TT

أحلام تتنقل بين عالم القاهرة المعاصر وعالم البصرة القديم

أحلام تتنقل بين عالم القاهرة المعاصر وعالم البصرة القديم

تظلل زهور الياسمين بروائحها المحببة النفاذة أجواء رواية «بساتين البصرة»؛ الرواية الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» للكاتبة الروائية المصرية منصورة عز الدين، التي تُمهد مبكراً لسطوة الياسمين في تصديرها للرواية بكلمات للإمام محمد بن سيرين، وردت في كتاب «تفسير الأحلام الكبير» المنسوب إليه، ففي عُرف ابن سيرين «يدل الياسمين على الهم والحزن لأن أول اسمه يأس».
تكشف السطور الأولى للرواية شجن الياسمين، فسريعاً يُطل بطلها «المُتلصص على العالم»، كما يصف نفسه في مطلع السرد، ويستولى الحلم البعيد على وعيه وإدراكه تماماً. يظل على مدار الرواية يُردده لما لوقعه في نفسه من تجليات، فقد وجد في رؤياه أن ملائكة تقطف الياسمين من بساتين البصرة، ويرى نفسه أنه يروي تلك الرؤيا للإمام الحسن البصري الذي يُفسر له منامه بزوال علماء المدينة، فيستوحش الذنب في روح البطل بسبب تلك الرؤيا، وكأنه هو من جلب لعلماء البصرة هذا المصير المشؤوم. وفي لعبة سردية رئيسية في الرواية، تتجسد رؤيا البطل وتجد طريقها لكتاب «الأحلام» المنسوب للإمام ابن سيرين. يقول البطل «كنت بشراً من دم ولحم وأعصاب، ثم وجدت رؤياي لنفسها مكاناً داخل المؤلًّف المنسوب لابن سيرين، فصرت كائناً ورقياً».
يبدأ البطل في استكشاف جوهر حياته ما بين وجوده البشري المعاصر في مجال بيع الكتب القديمة، وبين جوهره «الورقي» وموطن روحه الذي استقر به في كتاب «الأحلام»، حيث يعيش عالمه العتيق تحت سماء البصرة، في مدينة الأئمة واللغة والبساتين، ويكاد البطل يفقد القدرة على الفصل بين العالمين؛ عالم القاهرة المعاصر وعالم البصرة القديم، عالمه المعاصر كبائع شغوف بالكتب القديمة، وعالمه كخوّاص اسمه «يزيد بن أبيه» يصنع السلال في البصرة ويحرص على دروس الإمام الحسن البصري وملازمة أهل العلم «كانت الأحلام تخبرني بطرف من حياة شخص عاش قبل قرون».
تتكئ الرواية، التي تقع في 163 صفحة، على تقنية تعدد الأصوات كوسيلة للتنقيب في مرايا الذات، فبطل الرواية واسمه المعاصر «هشام خطّاب» يرى شذرات من نفسه باعتباره «يزيد بن أبيه»، فهو مهجوس بالبحث عن موطن لروحه، وهو موطن لا حدود له «الزمن سيّال والمكان وهم». فهو في زمنه البصري كان من رواد مجلس الإمام والقاضي الحسن البصري، يحرص على التقرب من واصل بن عطاء، وتعينه ذاته القديمة تلك على فك شفرات هذا البحث اللانهائي عن حقيقة انتمائه «خطر لي، بينما يتجسد ركض ذاتي العتيقة أمام ناظري، أن بداخلي سراً لا قدرة لي على حمله، وأني في جريي في ذاك الزمن الغابر كنت أبحث عن حلٍّ للغز يقض مضجعي».
تمهد الرواية لعدة ركائز في نشأة البطل جعلته صريع مشاعر الخيبة المبكرة، ما خلق داخله دوافع ذهنية وروحية للهروب الدائم من هذا الواقع، فوجد في الأحلام سبيلاً للخلاص من عذابات روحه سعياً وراء وجود سابق. واستعانت المؤلفة باستشهادات شعرية متنوعة المعنى والدلالة، تم توظيفها على مدار الرواية كمرئيات لبواطن البطل، بداية من شعر امرؤ القيس وزهير بن سلمى وحتى أمل دنقل. فالشعر والفن والأحلام حلفاء وجوده الهش على الدوام، حتى أنه عندما وقع في حب فتاة، كان أول ما لفت نظره لها أنها كانت تقبض في يدها نسخة من كتابه الأثير «تفسير الأحلام» لابن سيرين، لتكون أول مناسبة للحديث معها هو طلبه تصفح الكتاب لقراءة حلمه مع الملائكة والياسمين.
ثم ما يلبث أن يرى البطل محبوبته تلك بعيون الرسّام الشهير مارك شاغال، فهو يرى أن ثمة تشابهاً بينها وبين زوجة شاغال، حتى أنه يقرر أن يُطلق على فتاته اسم «بيلا» تيمناً باسم «بيلا روزينفيلد» زوجة شاغال. يقول: «كنت مفتوناً في هذه الفترة ببيلا هذه، شيء ما في روح الفتاة وإطلالتها ذكرني بها كما تتبدى في نسختها المرسومة، لكن كم كانت خيبة أملي كبيرة حين بدأت تلك الحمقاء تتشبه ببيلا في المظهر».
تُمرر الروائية منصورة عز الدين السرد على لسان البطل عبر زمنيه القديم والمعاصر، ومنه تتنقل أصوات الرُواة لتضيف مع كل صوت قطعة جديدة، وأبرز تلك الأصوات صوت أمه «ليلى»، و«مجيبة» زوجته في ماضيه المُتخيل، وصوت المُفكر المُعتزل «واصل بن عطاء» الذي منحته الرواية صوتاً سردياً مستوحى مما تيسر من سيرته، وكذلك صوت حبيبته في الزمن المعاصر «بيلا». ومن الأصوات الأخرى المهيمنة، صوت صديقه في زمن البصرة «مالك بن عدي النساخ» الذي توطدت أواصر علاقتهما في مجلس الحسن البصري، الذي يلفت نظره ما لمالك النساخ من باع في ناصية الكلمة وتفسير الأحلام. ومنذ ذلك الحين، صار له شأن كبير في حياة بطل الرواية المهجوس بالأحلام، حتى أنه أصبح أحد أعمدة حياته وخرابها لاحقاً.
وتمر الرواية خلال رحلة استبطان عقل البطل وروحه على سياقات تاريخية شهيرة. ففي محض حضوره لمجالس الإمام الحسن البصري، يتعرف على الخلاف المعروف بين الحسن البصري وواصل بن عطاء حول حُكم مرتكب الكبائر، هذا الخلاف الذي اعتزل على أثره واصل بن عطاء مجلس إمامه الحسن البصري، وهو الاعتزال الذي كان سبباً في عبارة الإمام الحسن الشهيرة «اعتزلنا واصل»، وهي العبارة التي تظهر في الرواية مصحوبة بحزن يسكن عين الحسن البصري وروحه.
يظل تفسير ابن سيرين، و«بيلا» شاغال، والأم الغارقة في الغياب، وكتب التراث التي يحترف العمل في كنفها، تظل جميعها مفردات في حاضر البطل لا تُزيده سوى ترحال إلى حلمه القديم ومحاولة الإمساك به، ذلك الحلم الذي أزهر مع الياسمين الذي زاره في أحد المنامات، حاملاً معه حياة موازية في البصرة، يكاد بطلها يتلاشى في بساتينها حدّ الغرق: «ياسمين في رأسي، ياسمين في جوفي، ياسمين يملأ الكون من حولي. أغصّ به، أختنق برائحته، فأتوق إلى عالم خال منه ومنها. لم تعد أحلامي وحدها مغمورة بتلك الزهرة البيضاء القاسية، غادرت أراضي نومي وانتقلت إلى جغرافيا صحوي»، وهي تلك الأحلام التي جمعته بالبصري وحلقت به في كتاب ابن سيرين، والتي تزيده شكوكاً في اليقظة، وتردداً وحيرة في المكان والزمان. وربما لم يحسم أمراً واحداً في حياته كما فعل في قوله: «مكاننا الحقيقي موطن أرواحنا».



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟