العصابات العنيفة والشوارع الخطرة في سينما سكورسيزي

تقاسما الاهتمام الأول لديه

مارتن سكورسيزي
مارتن سكورسيزي
TT

العصابات العنيفة والشوارع الخطرة في سينما سكورسيزي

مارتن سكورسيزي
مارتن سكورسيزي

ليس من بين المخرجين الأحياء اليوم من غيّر وجه سينما العصابات كما فعل فرنسيس فورد كوبولا، عبر ثلاثيّته «العرّاب»، ومارتن سكورسيزي في سبعة أفلام هي «بوكسكار برتا» (1972) و«شوارع دنيئة» (1973) و«أصحاب طيّبون» (1990) و«كازينو» (1995) و«عصابات نيويورك» (2002) و«المغادر» (2005) و«الآيرلندي» (2019).
لكن في حين تناول كوبولا العصابة كنظام اجتماعي صارم وكيان دولة داخل دولة في ثلاثيته تلك، مال سكورسيزي للتعامل مع أفراد العصابة في الشوارع المنحطة لنيويورك. أولئك الذين لا يملكون القرار بالضرورة، لكنهم منفّذين لصالح من يملك القرار. على الأقل هذا بالنسبة لأفلامه الأولى قبل أن ينتقل إلى العمق الرئاسي في «كازينو» و«المغامر» و«الآيرلندي».
- نيويورك… نيويورك
‫أطل سكورسيزي على السينما عبر أفلام قصيرة حققها منذ أن كان في السابعة عشرة من العمر عندما أنجز «ماذا تفعل فتاة طيبة مثلك في مكان كهذا؟» (What’s a Nice Girl Like You Doing in a Place Like This؟) سنة 1963. في عام 1967 أنجز «من ذاك الذي يطرق بابي» (Who’s That Knocking at My Door) وبعده بخمس سنوات أنجز ما يمكن قوله أول فيلم روائي طويل محترف وهو «بوكسكار برتا»: امرأة شابه (باربرا هيرشي) ورجل (ديفيد كارادين) يؤسسان عصابة في عشرينات القرن الماضي.‬
هذا الفيلم يختلف تماماً عن منهج سكورسيزي اللاحق في سينما العصابات من حيث إنه لا ينتمي إلى أفلام غير مافاوية وغير نيويوركية، بل لجيل من أفلام عصابات العشرينات والثلاثينات التي أشاعت الفوضى في وسط الولايات المتحدة مثل الثنائي بوني وكلايد وماشين غن كَلي وبايبي فايس نلسون ودلنجر.
لكن سكورسيزي هو ابن نيويورك، ونيويورك هي القاسم المشترك لمعظم أفلامه على اختلاف أنواعها. هي في أفلامه الدرامية مثل «أليس لم تعد تعيش هنا» (1974) و«تاكسي درايفر» (1976) و«ملك الكوميديا» (1982) والموسيقية مثل «نيويورك، نيويورك» والسير البيوغرافية مثل «ثور هائج» (1980) و«الملاح» (2004) كما في «لون المال» (1986) وقبله «بعد الدوام» (1985) وسواها.
لديه نصيب من الأفلام التاريخية غير المعنية بأميركا ككل، أو بنيويورك على وجه خاص، مثل «العشاء الأخير للمسيح» (1988) و«عصر البراءة» (1993) و«كوندون» (1997) و«صمت» (2016).
وجهة سكورسيزي في أفلام العصابات تأسست سنة 1973 في «شوارع دنيئة». روبرت دي نيرو وهارفي كايتل قطبا شخصيات الفيلم العنيف الذي لا يصوّر العصابة النيويوركية في لون باهٍ، بل يمعن في تقديم صورة واقعية لها تتألف من الشخصيات المطبوعة بالعنف والممتثلة لانتماءاتها والتي تعيش في رقعة من قاع المدينة. هو ليس عن صعود وهبوط رجل العصابة بل عن استمراريته.
كذلك هو فيلم محض نيويوركي، حيث وُلد سكورسيزي وعاش ومحض إيطالي - أميركي (كما حال سكورسيزي وبطله المفضل روبرت دي نيرو).
«تاكسي درايفر» (1976) لم يكن فيلم عصابات لكنه كان فيلماً نيويوركياً بجدارة. دي نيرو يريد إصلاح العالم. يتحوّل سريعاً إلى أقصى اليمين ملاحظاً ما ورد في سيناريو بول شرادر من عزوف المجتمع من إصلاح حاله بحاله. فيلم سكورسيزي الوحيد الذي يتعامل مع عنف الشوارع من موقع التعليق ولو أنه ليس الفيلم الوحيد في مسيرته الذي يدور حول العنف في الذات بعيداً عن حياة العصابات. هناك كذلك «ثور هائج» (1980).
بعد 17 سنة على ابتعاد سكورسيزي عن سينما العصابات عاد ليبقى. في عام 1990 أنجز «أصحاب طيّبون» (Goodfellas) الذي جاء امتداداً لـ«شوارع دنيئة» بفارق أن هناك طارقاً جديداً على العصابة الإيطالية (علماً بأنه غير إيطالي) متمثل بشخصية الشاب هنري (راي ليوتا) سيتلى دي نيرو وجو بيشي وبول سورفينو تطويعه. سيفاجأ هنري بقسوة ذلك العالم وعنفه، لكن ليس سكورسيزي الذي يقرر هنا ما قام به هوارد هوكس في Scarface سنة 1932 عندما لم يحكم على بطله بول موني أخلاقياً، بل ترك المشاهد يتولى التقييم. برايان دي بالما عمد إلى إعادة صنع ذلك الفيلم سنة 1983 مع آل باتشينو في الدور الأول من المنطلق ذاته.
- النأي بالنفس
فيلم العصابات التالي لـسكورسيزي هو «كازينو»، (1995) لكنه يختلف في أنه أقرب إلى نوعية «العرّاب» في اهتماماته (خصوصاً الجزء الثاني الذي تناول السياسة الأميركية في كوبا قبيل الثورة ووقوف المافيا وراء الحكم السابق). «كازينو» بدوره ليس عن شوارع نيويورك الخطرة ولا عن الأشقياء والأزلام الذين يعيشون فيها، بل عن كيف بنت المافيا (إيطالية ويهودية) مدينة لاس فيغاس. ليس الفيلم الأول عن الموضوع (يخطر لي مباشرة فيلم Bugsy سنة 1991.
ما بين «كازينو» و«الآيرلندي» في العام الماضي فيلما عصابات هما و«عصابات نيويورك» (2002) و«المغادر» (2005). الأول يختلف عن باقي عصابات نيويورك حسب ‫سكورسيزي، من حيث إنه يدور في رحى مرحلة تاريخية تقع سنة 1862 والصراع الذي قام بين المهاجرين الآيرلنديين هذه المرّة. العصابات هي أقرب، في هذا الفيلم، إلى شلل همجية في زمن صعب (يجاور الحرب الأهلية). يتعامل سكورسيزي هنا مع مادة أكبر حجماً من أفلامه الأخرى في هذا المجال. يدفع بعنصر نفسي ويخلط الأوراق بين من هو شرير في طبعه وطبيعته (دانيال داي لويس)، ومن يعمد إلى العنف من موقع مناوئ لم يخطط له أو يتبناه عندما حط رحاه في بلد الحلم الكبير (ليوناردو ديكابريو في أول تعاون بينه وبين المخرج).‬
الفيلم الثاني بين ديكابريو وسكورسيزي كان «المغادر» (The Departed) الذي جمع أيضاً جاك نيكلسون (في آخر دور رائع له) ومات دامون ومارتن شين ومارك وولبرغ.
العصابة هنا مافاوية (حديثة) وتتعامل ونوع آخر من هذه السينما هي تلك التي يداخلها البوليس. سكورسيزي لم يقدّم فيلم عصابات من بطولة رجل بوليس. في الحقيقة ليس لديه فيلم عصابات فيه شخصية رجل بوليس رئيسية. لكنه هنا يوفر علاقة مزدوجة: عميل للبوليس في العصابة وعميل للعصابة في سلك البوليس والاثنان سيكشفان بعضهما بعضاً.
كل ما سبق يقودنا إلى فيلم «الآيرلندي» حيث يعود سكورسيزي إلى التاريخ. الصراع هنا السبعينات بين المافيا (التي تبدو هنا ملتزمة وعظيمة الشأن وصارمة القرار) وبين جيمي هوفا، رجل الاتحادات العمالية الذي أراد الاستئثار بالسلطة والانقلاب على المافيا التي ساعدته.
نهاية، أفضل أفلام العصابات في تاريخ السينما هي التي تقدّم أبطالها كشخصيات تراجيدية. هذه ضرورة لازمة لإظهار الحياة البائسة والنهايات المأسوية لرجال العصابات. ليس عبر مشاهد موت بالضرورة، لكن عبر الألم الكامن في الصدور والضمير الذي يكاد يصحو ولا يفعل.
هذا يتضح في بعض أفلام سكورسيزي لكن له خلفية تمتد عبر التاريخ من «سكارفايس» و«العشرينات الهادرة» في الثلاثينات إلى اليوم. ما خشي منه سكورسيزي هو الموقف الأخلاقي. لذلك نفهم سبب ما يتبدّى من تلميع صورة المافيا في العدد الغالب من هذه الأفلام.


مقالات ذات صلة

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)
يوميات الشرق محمد سعد في العرض الخاص لفيلم «الدشاش» (الشركة المنتجة للفيلم)

هل استعاد محمد سعد «توازنه» بفضل «الدشاش»؟

حقق فيلم «الدشاش» للفنان المصري محمد سعد الإيرادات اليومية لشباك التذاكر المصري منذ طرحه بدور العرض.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق تماثيل وقوالب من الفخار مصنوعة قبل الميلاد (مكتبة الإسكندرية)

«صناعة الفخار»... وثائقي مصري يستدعي حرفة من زمن الفراعنة

يستدعي الفيلم الوثائقي «حرفة الفخار» تاريخ هذه الصناعة التي تحمل طابعاً فنياً في بعض جوانبها، على مدى التاريخ المصري القديم، منذ أيام الفراعنة.

محمد الكفراوي (القاهرة)
يوميات الشرق لقطة من الفيلم تجمع «شاهيناز» وأولادها (الشركة المنتجة)

«المستريحة»... فيلم مصري يتناول النصّابين يمزج الكوميديا بالإثارة

تصدَّرت مجسّمات دعائية للأبطال دار العرض عبر لقطات من الفيلم تُعبّر عنهم، فظهرت ليلى علوي في مجسّم خشبيّ جالسةً على حافة حوض استحمام مليء بالدولارات.

انتصار دردير (القاهرة )

شاشة الناقد: قضية المرأة في أفعانستان

«لقتل حصان مونغولي» (بلوتو فيلم)
«لقتل حصان مونغولي» (بلوتو فيلم)
TT

شاشة الناقد: قضية المرأة في أفعانستان

«لقتل حصان مونغولي» (بلوتو فيلم)
«لقتل حصان مونغولي» (بلوتو فيلم)

TO KILL A MONGOLIAN HORSE ‫★★★⭐︎‬

* إخراج: جيانغ شياو شوان | Jiang Xiaoxuan

‫* هونغ كونغ / ماليزيا

من بين كثير من المشاهد اللافتة يوجد في هذا الفيلم مشهدان متباعدان، في الأول يربت ساينا على رأس فرسه الذي يستجيب لحنان صاحبه ويميل برأسه فوق كتفه بحنان ظاهر. في المشهد الثاني قبيل النهاية يتقدم ساينا صوب الحصان نفسه يربت على وجهه، لكن الحصان ينظر إليه سريعاً ومن ثَمّ يشيح بوجهه بعيداً عنه. تمر بين المشهدين أحداث تنعكس على تلك العلاقة، فساينا مُخيّر بين أن يبيع حصانه ويعتزل المهنة التي توارثها بصفته مدربَ خيول وفارساً، أو البقاء في ذلك العمل. الحصان لا بد بات يشعر بأن صاحبه لم يعد ذلك الرجل الواثق من نفسه وقد يضحي بالفرس متى شاء.

«لقتل حصان منغولي» يطرح طوال الوقت (85 دقيقة) مسألة بين الأمس واليوم. إنها صحاري منغوليا الجافة التي لم تعُد تشهد مطراً كافياً لإنبات الأرض. السبب في الأزمة التحوّلات البيئية، وهذه واحدة من المسائل المطروحة بوضوح. تشكل عصباً مهماً كون صلب الموضوع يتعلق بحياة تتغير لا يستطيع ساينا فعل شيء حيالها. إنه مرتبط عاطفياً بتقاليد فروسية ومعيشية متوارثة في حين أن المتغيرات طرقت باب تلك التقاليد ولا مجال للحفاظ على الوضعين معاً. على ساينا ترك الماضي أو الانضمام إلى الحاضر. قدمٌ هنا وقدمُ هناك، والفيلم ينتهي بقرار يرتاح المُشاهد إليه.

كانت المخرجة الصينية الشابة جيانغ شياو شوان صوّرت فيلماً قصيراً في تلك الأنحاء وتعرّفت على مدرّب الخيول ساينا وراقبته في عمله. هذا ما أوحى إليها بإخراج هذا الفيلم عنه وعن البيئة وأزمة الوجود بين عالمين على المرء أن يختار بينهما. ساينا ممثلاً لديه القدرة على استخدام عدم حرفيّته في تناسب مع الشخصية التي يؤديها. رجل لديه من المتاعب مع والده السّكير والمديون ومطلّقته. في مشهد آخر يذكّره والده بأنه هو من وضعه فوق الفرس لأول مرّة عندما كان طفلاً صغيراً. يحاول ساينا فعل ذلك مع طفله، لكن طفله يخاف. هي فعلاً حياة أخرى تندثر سريعاً.

الفيلم معزّز بالألوان والإضاءات المناسبة داخلياً وخارجياً. الإيقاع متمهّل، لكنه ليس مُملاً وفيه ملامح من بعض أفلام الوسترن الأميركية التي تحدّثت بدورها عن غروب حياةٍ وبدء أخرى.

* عروض مهرجان البحر الأحمر.

★★★⭐︎‬SIMA‪’‬S SONG

* رويا سادات | ‪Roya Sadat‬

‫* هولندا، فرنسا، أسبانيا ‬

لعلها صدفة لم تستطع المخرجة رويا سادات تحاشيها، وهي أن بداية فيلمها هذا شبيهة ببداية فيلم أفغاني القضية أيضاً، حققته ساهرا ماني في فيلمها التسجيلي «Bread ‪&‬ Roses» الذي شوهد في 2023. كلاهما يبدأ بمظاهرة نسائية في كابل تنادي بحقوقها. بعد 3 دقائق ينفصل الفيلمان بالضرورة ويعود «أغنية سيما» من زمن «طالبان» الحالي إلى عام 1973 عندما كانت أفغانستان على وعد مع التقدم المجتمعي. سورايا (مزهدة جمالزاده) هي إحدى المتظاهرات ومع عودة الفيلم إلى فترة سابقة نجدها حين كانت لا تزال شابة تؤمن بمبادئ التحرر عموماً وتحرر المرأة خصوصاً. في الواقع الحكاية التي نشاهدها هي حكايتها وليس حكاية سيما (نيلوفار كوقحاني) صاحبة الصوت الجميل التي حين تغني، في أحد المشاهد، تثير إعجاب الحضور.

«أغنية سيما» (بلوتو فيلم)

حينها، يقول الفيلم، كان بالإمكان للفتاة الظهور بتنانير والرجال بربطات عنق. صداقة سورايا وسيما قوية لدرجة رفضها الإفصاح عن مكان صديقتها سيما وزوجها عندما انضما إلى حركة «طالبان» وبدأت الحكومة الأفغانية سلسلة الاعتقالات والتحقيقات. مع اعتقال سورايا والإفراج عنها واحتلال الفيلا حيث كانت تعيش مع أهلها يدخل الفيلم جوّاً داكناً في أجوائه كما في تأطير مشاهده. يزداد التوتر وتبدأ رسالته بالتبلور صوب مراميها على نحو أفضل. إنه فيلم عن آخر فترة من حياة ثقافية ومجتمعية واعدة قبل دخول الاتحاد السوفياتي للدفاع عن الحكومة والولايات المتحدة لتأييد «طالبان».

يذكر الفيلم أن الأحداث مأخوذة عن قصّة واقعية، لكن هذا ليس ضرورياً، خصوصاً أن الشخصيات معروفة. ما يمكن التنويه إليه حقيقة أن التصوير وظّف أطراف مدينة أثينا بنجاح لافت.

* عروض مهرجان البحر الأحمر

في الصالات

* Juror‪#‬2 ‫★★★★‬

- دراما محاكِم نوعها غير معهود، للمخرج كلينت إيستوود، عن عضو لجنة محلّفين يحاول إخفاء جريمته.

* Nosferatu ‫★★★⭐︎‬

- يُعيد المخرج روبرت إيغرز سرد حكاية «نوسفيراتو» (1922) بزخم وطاقة جديدتين. يتضمن لحظات مرعبة.

* Carry‪-‬on ‫★★★‬

- تشويق جيد من جومى كوليت سيرا، حول رجل أمن في مطار مهدد باغتيال حبيبته إذا لم يهرّب متفجرة إلى طائرة.

* The Substance ‫★★⭐︎‬

- المخرجة الفرنسية كورالي فارجيت، تضع ديمي مور في بطولة فيلم عن امرأة تنشد شباباً وأنثوية دائمين.