إيمانويل ماكرون يسعى لاستعادة دور عالمي عبر البوابة المتوسطية

مقاتلة فرنسية من طراز «رافال» تقلع من الحاملة «شارل ديغول» قبالة ساحل قبرص (أ.ف.ب)
مقاتلة فرنسية من طراز «رافال» تقلع من الحاملة «شارل ديغول» قبالة ساحل قبرص (أ.ف.ب)
TT

إيمانويل ماكرون يسعى لاستعادة دور عالمي عبر البوابة المتوسطية

مقاتلة فرنسية من طراز «رافال» تقلع من الحاملة «شارل ديغول» قبالة ساحل قبرص (أ.ف.ب)
مقاتلة فرنسية من طراز «رافال» تقلع من الحاملة «شارل ديغول» قبالة ساحل قبرص (أ.ف.ب)

«فرنسا عادت»... كلمتان قالهما إيمانويل ماكرون بعد انتخابه رئيساً في مايو (أيار) 2017 بأكثر من 66 في المائة من الأصوات.
لكن أي فرنسا عادت؟ هل هي فرنسا الشأن الداخلي أم فرنسا الحضور الخارجي أم الإثنتان معاً؟
في الشأن الداخلي البحث شائك ومتشعب ويخضع لتجاذب آراء لا تحسمه إلا الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2022، أما في الشأن الخارجي فلا بد من النظر ملياً إلى ما يقوم به الرئيس الشاب في أوروبا، والأهم في الفضاء المتوسطي...
سخر كتّاب صحافيون أتراك، خصوصاً من الموالين للرئيس رجب طيب إردوغان، مما يقوم به ماكرون في شرق البحر المتوسط، معتبرين أنه ربّما يتمثّل بنابليون بونابرت الذي حاول توسيع الرقعة الجغرافية لفرنسا فأدت به طموحاته في النهاية إلى تقليصها. ورأى آخرون أن ماكرون يحاول في ما يخص السياسة الخارجية أن يكون شارل ديغول آخر، أي احترام الحلفاء لكن من دون الاصطفاف خلف الولايات المتحدة. ولا حاجة هنا للتذكير بالطريقة التي خرج بها ديغول من السلطة والاتجاهات المخالفة لرؤيته التي سلكتها فرنسا من بعده وإن بالتدريج.

*ماذا يفعل ماكرون؟
يحاول العودة بقوة إلى الشرق الأوسط «المزدحم»، ليس أقله بالوجود الروسي الميداني وغير الميداني، والحضور الاقتصادي الصيني، وطبعاً الدور الأميركي القوي والفعال في أكثر من مكان، ناهيك باللاعبين الإقليميين.
ويسجَّل هنا أن ماكرون زار لبنان مرتين، الأولى بعد كارثة انفجار المرفأ في الرابع من أغسطس (آب) والثانية مطلع سبتمبر (أيلول)، قبل أن يتوجه مباشرة بعد الزيارة الثانية إلى بغداد. كما عزز الوجود العسكري الفرنسي في شرق البحر المتوسط، تحديداً في لبنان واليونان.
توجه ماكرون إلى لبنان تحت عنوان العلاقات الخاصة بين البلدين ومساعدة البلد الصغير الذي أثخنته الجراح. وما لبث أن انخرط في الشأن الداخلي كما كان يفعل قناصل الدول الأوروبية في لبنان القرن التاسع عشر، ثم فرنسا الدولة المنتدَبة على «لبنان الكبير» في جزء من القرن العشرين.
وكانت باريس القوة الدافعة وراء تسمية رئيس وزراء جديد والضغط لتأليف حكومة جامعة تضطلع بمسؤولية إنهاض لبنان من عثرته. ولم يتوانَ عن تأنيب السياسيين اللبنانيين وانتقاد الفساد بحدة، جازماً بأن لا مساعدات خارجية من دون إصلاحات حقيقية.
أما المحور الآخر الذي تنشط فيه فرنسا متوسطياً، فيتعلق بتركيا واليونان وقبرص، والتنقيب التركي عن الغاز في مناطق حساسة بما سبب قلقاً في المنطقة. ولم يتردد الجانبان التركي والفرنسي في تبادل الانتقادات والاتهامات، خصوصاً بعد الحادث البحري الذي وقع بينهما بسبب ليبيا. ووصل الأمر بماكرون إلى إرسال قوة عسكرية إلى جزيرة كريت اليونانية.

*هجرة ومهاجرون
ثمة من يقول إن ماكرون يقوم بعرض العضلات خارجياً ليغطي عدم قدرته على تحقيق الكثير داخلياً حيث اصطدمت محاولاته الإصلاحية الرامية إلى تخفيف الأعباء المالية عن الدولة برفض شعبي واسع يتخّذ لون السترات الصفر حيناً، ويلبس الثوب النقابي حيناً آخر.
وثمة من يقول إن الأمر أبعد من ذلك، فالأمر يتعلق بمشكلة اللاجئين، ومسألة الطاقة، والدور التركي في الإثنتين.
فموقف ماكرون من الأزمة الليبية على سبيل المثال يتصل بخشيته من تدحرج الأمور إلى حد يدفع بموجات جديدة من المهاجرين شمالاً نحو الضفة الأوروبية من البحر المتوسط، علماً أن ليبيا هي البوابة الرئيسية التي يحاول مهاجرون من شتى أنحاء أفريقيا العبور منها إلى الجنّة الأرضية الموعودة.
كذلك، تستطيع تركيا أن ترفع في وجه اليونان ومن ورائها أوروبا الغربية، سلاح السماح لآلاف اللاجئين بالخروج من أراضيها والتدفق غرباً...
والأمر نفسه ينطبق على لبنان، ففي حال حصول انهيار وصدام قد يخرج لبنانيون كثر من بلادهم بحثاً عن ملاذ، من دون أن ننسى أن البلد الصغير يستضيف مليوناً ونصف مليون سوري على الأقل هربوا من الحرب في ديارهم.
وهل يعتقد أحد، في هذا السياق، أن ماكرون يتحمّل حصول موجة نزوح جديدة نحو فرنسا والانتخابات الرئاسية لم تعد بعيدة؟

*ما تحت الماء
في موازاة ذلك، يجب ألا ننسى ما يرقد تحت الماء في شرق المتوسط من نفط وخصوصاً غاز. وليس سراً أن جهود شركة توتال الفرنسية تعثرت بسحر ساحر، سواء في قبرص أو لبنان، مع أنه من المعروف على نطاق واسع أن في مياه البلدين كميات وافرة من الغاز يمكن أن تقلب المعادلات الاقتصادية وتغيّر وجه المستقبل في تلك البقعة من العالم. يضاف إلى ذلك ما في باطن الأرض في كل من ليبيا والعراق من مصادر للطاقة.
هنا تدخل تركيا على الخط، بل هي موجودة في المشهد بكل مكوناته: في ليبيا تؤدي دورا محوريا في الأزمة عبر دعمها حكومة الوفاق في طرابلس، في العراق تتدخل عسكرياً في مناطق وجود مسلحين موالين لحزب العمال الكردستاني، في قبرص واليونان حيث تصول وتجول سفنها للتنقيب عن موارد الطاقة مخلفةً وراءها أمواجاً من التوتر، وحتى في لبنان حيث يقال إنها تدعم قوى سياسية معينة وتوسع حضورها خصوصاً في مناطق الشمال.
وليس سراً، في أي حال، أن فرنسا لطالما عارضت انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي لأسباب عدة تتضافر لتجعل الأولى غير مقتنعة بأن الثانية تملك هوية أوروبية أو يمكن أن تملكها يوماً. ولا شك في أن وجود حزب العدالة والتنمية في الحكم، لن يغيّر وجهة نظر فرنسا وشركاء أوروبيين أساسيين في هذا المجال.
وإذا زدنا إلى ذلك شخصية إردوغان وسلوكه الفجّ في مقاربته لكثير من المسائل الخارجية، وكلامه القاسي بحق فرنسا أخيراً، وبحق أوروبا عموماً، نرى أن التعقيدات تأخذ بعداً شخصياً بين الرئيسين التركي والفرنسي اللذين يبدو أن الود المفقود بينهما سيبقى مفقوداً...

*فرص النجاح
لا ريب في أن إيمانويل ماكرون يتمتع بالشجاعة للاضطلاع بدور قيادي في المتوسط، كما أثبت في القمة الأخيرة التي استضافها في كورسيكا وجمعت دول «ميد 7» المتوسطية المنتمية إلى الاتحاد الأوروبي، أي فرنسا وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان وقبرص ومالطا. وكان المضمون المعلن هو البحث في طريقة التعامل مع السلوك التركي في المنطقة.
ولا شك في أن الرئيس الفرنسي يمتلك «روح المغامرة» ليدخل المعمعة اللبنانية ويحاول ترتيب ما يمكن ترتيبه في البيت المخرّب لعلّه يقيه شر السقوط في زمن مئوية «لبنان الكبير» الذي قام في الزمن الفرنسي.
كذلك، تثير التعجب والإعجاب تحركات في فرنسا باتجاه العراق وليبيا وسواهما في وقت نسي العالم أن لدولة أوروبية ما دوراً «مستقلاً» خارج حدودها.
لكن ما هي فرص نجاح المساعي الفرنسية؟
قد يبدو من غير المنصف إطلاق حكم مسبق. لكن القراءة الواقعية للتاريخ الحديث وللحاضر تدفع إلى القول إنّ فرنسا وإن ملكت سلاحاً نووياً وجيشاً حديثاً وقوة اقتصادية لا يستهان بها، فإنها لا تستطيع تغيير المعادلات في منطقة ما من العالم من دون أحلاف أو تفاهمات تسمح لها بتأدية دور يبدو في الظاهر أنه يمنحها بعداً عالمياً، في حين أنها لا تمثل في الحقيقة إلا مكوّناً من آلية أكبر يعمل محرّكها في موقع آخر عبر المحيط الأطلسي...



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».