قصة الصحافة والسلطة في مصر... سرد تاريخي

الباحث محمد توفيق يتتبعها في ثلاثية «الملك والكتابة»

قصة الصحافة والسلطة في مصر... سرد تاريخي
TT

قصة الصحافة والسلطة في مصر... سرد تاريخي

قصة الصحافة والسلطة في مصر... سرد تاريخي

في ثلاثية بعنوان «الملك والكتابة» يستقصي الباحث محمد توفيق قصة الصحافة في مصر وعلاقتها بالسلطة. يغطي الجزء الأول تاريخ «مهنة البحث عن المتاعب» وعلاقتها بالصراعات السياسية في الفترة من 1798 حتى 1899. بينما يغطي الجزء الثاني وهو بعنوان «حب وحرب وحبر» الفترة من 1900 حتى 1949، أما الجزء الثالث فيغطي الفترة من 1950 وحتى 1999. ويقع كل جزء في نحو 400 صفحة.
الكتاب صدرت أجزاؤه الثلاثة دفعة واحدة عن دار ريشة بالقاهرة، وبذل المؤلف جهدا كبيرا في متابعة النسخ الأصلية من الجرائد والمجلات موضع البحث عبر أكثر من 200 عام، وأجرى دراسة تحليلية لها، مستعينا بالعديد من المصادر والمراجع من أجل تدقيق المعلومات وتوثيق التواريخ وقراءة ما بين السطور، ومع ذلك لم يأت أسلوبه أكاديميا جافا بل امتاز بالتشويق وسلاسة الصياغة ما منح العمل نكهة السرد التاريخي الممتع.
ورغم ضخامة الحقب الزمنية والعصور التاريخية التي تغطيها الأجزاء الثلاثة والتي لا يمكن الإحاطة بها كلها هنا، يظل الجزء الأول ذا أهمية خاصة حيث يرصد فجر الصحافة المصرية التي نشأت على يد نابليون بونابرت الذي حاول توظيفها لتجميل حملته العسكرية على مصر كما اتخذها محمد على الذي تولى حكم البلاد 1805 أداة لتمرير سياساته غير الشعبية مثل فرض الضرائب والتجنيد الإجباري.
في عام 1798 جاء نابليون بونابرت إلى شاطئ الإسكندرية على ظهر بارجة حربية تدعى «لوريان» ومعه المدفع والمطبعة والسكين والحبر، على حد تعبير المؤلف، ورغم أن حملته العسكرية استمرت ثلاث سنوات فقط، إلا أنها كانت عميقة الأثر حيث أنشأ أكثر من صحيفة منها «بريد مصر» أو «كورييه دوليجيبت» و«العشرية المصرية أو «لاديكاد إيجبسيان» التي كانت تصدر كل عشرة أيام. كان هدف الصحيفتين الصادرتين بالفرنسية دعائيا بحتا، لنشر رسائل التقرب من قبل القائد الفرنسي إلى الشعب المصري، والهجوم الشديد على «المماليك» الحكام الفعليين للبلاد ونعتهم بالتخلف ونهب ثرواتها ومحاولة تقليب المزاج العام ضدهم بزعم أن فرنسا جاءت لتحرر المصريين من استبدادهم، فيما كانت مصر تتبع رسميا الإمبراطورية العثمانية. اللافت أن نابليون كان يتولى بنفسه مراجعة كل عدد من تلك المجلات قبل صدوره وإبداء ملاحظاته على الإخراج الفني والمضمون السياسي.
الاحتلال الإنجليزي
بعد سقوط مصر في قبضة الاحتلال الإنجليزي 1882. أصبحت مهمة الصحف الوطنية مزدوجة فهي تناضل معاً ضد فساد الحكومة وضد سلطة الاحتلال. من هذه الصحف «القطر المصري» لصاحبها أحمد حلمي والذي كان يجاهر بمعارضته الخديوي عباس حلمي فتعرض للسجن وتمت مصادرة الصحيفة ثم عادت للصدور مرة أخرى. لم يتراجع الرجل في موقفه بل ازداد صلابة مستمرا في كتابة مقالاته التي أشعلت غضب الحكومة، حتى قررت إلغاء الجريدة وذلك بدعوى التعرض بالجناب العالي للخديوي والتعرض لكرامة الناس والطعن في شرفهم.
ويورد المؤلف واقعة أخرى تبين كيف يمكن أن تتحول الصحافة إلى النقيض، وتصبح شاهد زور في الوقائع الكبرى. ففي صباح يوم الأحد العشرين من فبراير (شباط) 1910 أطلق شاب ست رصاصات على رئيس الوزراء بطرس باشا غالي وتم إلقاء القبض عليه، وتبين أنه صاحب صيدلية بميدان عابدين واسمه إبراهيم ناصف الورداني. خضع للتحقيق واعترف بالواقعة مبررا الأمر بأسباب تتعلق بتسليم «غالي» السودان للإنجليز وأنه كان رئيسا للمحكمة التي أعدمت عددا من الفلاحين المصريين في قرية دنشواي فضلا عن إعادته لقانون المطبوعات وعدم السماح بنقد الخديوي. وقررت صحف الاحتلال البريطاني أن تصطاد بالماء العكر فزعمت أنه قتل رئيس الوزراء لأنه مسيحي فرد الورداني على هذا الادعاء بأنه حتى لو كان مسلما لقتله أيضا!
وحين مات الزعيم «أحمد عرابي» الذي قاد المقاومة والثورة ضد الاحتلال الإنجليزي لكنه هزم بسبب الخيانة، هاجمته بعض الصحف المصرية الكبرى مثل «الأهرام» التي قالت: مات عرابي الذي قلب بثورته وجه المسألة الشرقية وغير توازن القوى الأوروبية وجر على مصر الاحتلال وعلى السودان الشراكة الإنجليزية وجعل شرق أفريقيا ووسطها نهبا بين الدول والأمم بعد أن كان خالصا لمصر
ويرصد المؤلف كيف أنه حين اندلعت الحرب العالمية دفعت مصر ثمن حرب لم تخضها وساءت الظروف الاقتصادية حتى باع الرجال حلي النساء والمواشي وحدث نقص هائل في محصول القطن وأغلقت الأسواق وتعذرت حركة المواصلات وحشد الإنجليز أكثر من مليون عامل مصري لخدمة قوات الاحتلال.
ولم يعانِ المصريون من قلة الطعام والكساء فقط وإنما عانوا من القمع أيضاً، إذ صدرت قرارات باعتقال عدد كبير من كبار الكتاب والصحافيين والزعماء الوطنيين ومن بينهم أمين الرفاعي وأحمد لطفي السيد وعبد الرحمن الرافعي وفهمي كامل شقيق الزعيم مصطفى كامل وغيرهم. ومن أشهر من صدر قرار بنفيهم خارج مصر أمير الشعراء أحمد شوقي باعتباره من رجال الخديوي المعزول.
الثورة ومصادرة الصحافة
بعد شهور من قيام ثورة يوليو (تموز) 1952، أصدر الحاكم العسكري أمرا بتعطيل بعض الصحف والمجلات منها الفداء، الكاتب، الملايين، النذير، الواجب، الثقافة، الرسالة، الميدان. وعلل صدور الحكم بتحقيق صالح الدولة وأمنها وضمان سلامتها وحماية المصريين من مروجي الأخبار المغرضة والباعثة على الفتنة وإثارة الاضطراب، ولم يتم الاكتفاء بمصادرة الصحف لكن تم اعتقال صاحب مجلة الفداء وأحد المحررين ورئيس تحرير مجلة النذير وتم اتهام الثلاثة بإثارة الطوائف.
ويذكر المؤلف أن هذا التضييق على الصحافة ومصادرة الصحف دفع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة «روز اليوسف» إلى أن تكتب خطابا إلى جمال عبد الناصر الذي كان صديقا لابنها الكاتب الشهير إحسان عبد القدوس تشكو إليه ما يجري للصحافة وتنبهه إلى خطورة سيطرة الرأي الواحد قائلة: «إنك بحاجة إلى الخلاف تماما كحاجتك إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معا ولا يستغني بأحدهما عن الآخر وأنت تؤمن بهذا كله لا شك في ذلك وقد قرأت لك مقالا غير بعيد طالبت فيه بالنقد وبالآراء النزيهة الحرة حتى لو خالفتك ولكن أتعتقد أن الرأي يمكن أن يكون حرا حقا وعلى الفكر قيود؟».
وتابعت فاطمة اليوسف بقولها «لا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح في وقت آخر فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر إنه يتنفس حين يأكل وحين ينام وحين يحارب أيضا».
وصل الخطاب لعبد الناصر وقرأه وقرر أن يرد عليه بخطاب آخر جاء فيه: «أنا بطبعي أكره كل قيد على الحرية وأمقت بإحساسي كل حد على الفكر على أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم وعلى أن يكون الفكر خالصا لوجه الوطن وأنا لا أخشى من إطلاق الحريات وإنما أخشى أن تصبح الحرية كما كانت قبيل 23 يوليو سلعا تباع وتشترى، ومع ذلك فأين الحرية التي قيدناها».
مفارقات السادات
على العكس من عبد الناصر، بدا السادات للوهلة الأولى في بدايات حكمه منفتحا على الصحافة بل لا يرى بأسا في اطلاعها على الحياة الشخصية للحاكم كما يحدث في الغرب. ويورد المؤلف واقعة مهمة في هذا السياق، إذ كتب المصور الصحافي «فاروق إبراهيم» خطابا إلى الرئيس السادات وذهب لقصر الرئاسة وسلمه إلى أحد المسؤولين ولم يكن الخطاب يحوي سوى كلمات قليلة مفادها: أتمنى أن تسمح لي أن أسجل يوما في حياة سيادتك بالكاميرا فقط، والتقطت عدسة فاروق صورا استثنائية للسادات مع زوجته وأبنائه وأصدقائه ووزرائه وكبار الكتاب والصحافيين فضلا عن ركوبه الدراجة مع حفيده وممارسته اليوجا ونومه على الأرض وعاد فاروق إلى جريدته أخبار اليوم منتشيا بما حقق من سبق صحافي واتجه مباشرة لمكتب رئيس التحرير «إبراهيم سعدة» واتفقا على نشر بعض الصور في الصفحة الأولى في الباب الجديد المسمى قصة صورة.
أثار الموضوع ضجة، فقد اعترض عدد من مستشاري الرئيس وقال بعضهم إن تلك الصور خطيئة كبرى من أخبار اليوم وانتقل الهجوم إلى مرحلة أخرى حين دخلت «جيهان السادات» على الرئيس بصحبة الكاتب أنيس منصور بمقر إقامته في القناطر الخيرية وقالت له: أساتذة الجامعة كلموني وقالوا لي كيف يُفعل هذا في رئيس الجمهورية؟ «فرد السادات قاطعا وحاسما ومغلقا باب النقاش قائلا: أنا قرأت الموضوع واخترت الصور، أنتم لا تفهمون شيئا ولا تتابعون الصحف العالمية، هذه هي الصحافة الحديثة!».



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.