عندما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، قبل ثلاثة عشر عاماً، أهدى د. جابر عصفور نسخة منه إلى بابا الأقباط الراحل البابا شنودة الثالث، المعروف بحسه المستنير ومساهماته في الكتابة والشعر، حتى أنه كان عضواً مقيداً رسمياً بنقابة الصحافيين المصريين. ابتسم البابا، وسأل «عصفور» الذي يعد صاحب تأثير كبير في الحياة الأكاديمية والثقافية المصرية: وهل هناك ثقافة للتخلف؟ كان سؤاله يعني أنه يتصور الثقافة في كل الأحوال شيئاً إيجابياً، وأن المثقف هو الكائن المستنير؛ أي الرجل المتعلم الفاهم لوضعه الفردي والاجتماعي والسياسي في ضوء استنارته.
وفي الطبعة الجديدة، الصادرة في القاهرة عن الهيئة العامة للكتاب، من «نقد ثقافة التخلف»، يدحض عصفور هذا المفهوم الشائع عند كثيرين، مؤكداً أنه يفهم الثقافة بمعناها المحايد أو «الأنثرولوجي»، بصفتها رؤية للعالم أو أسلوباً للحياة، وهي بهذا المعنى يمكن أن تتصف بالإيجاب أو السلب. ومن ثم، يكون هناك ثقافة للتقدم، وثقافة للتخلف أيضاً، لافتاً إلى أن هذا هو الفارق مثلاً بين ثقافة التعصب الديني وثقافة التسامح الديني، ثقافة التنوع الذي يحترم الاختلاف في كل مجال، بما في ذلك الأديان، وثقافة التعصب التي ترفض الاختلاف في أي مجال، وبالتالي ترى في المختلف عدواً يستحق النبذ أو العقاب أو حتى الإبادة. هنا «تتساوى المجتمعات المتخلفة والمجتمعات المتقدمة في أن لدى كل منهما ثقافة، لكن الأولى (أي المتخلفة) تتمسك بثقافة التخلف، بينما الثانية (أي المتقدمة) توسع من آفاق ثقافة التقدم، ولا تتوقف عند ممارسة أفعاله على طريق التطور الذي لا نهاية لصعوده».
صرخة تحذير
يوضح عصفور، في مقدمة الطبعة الجديدة من الكتاب، أن ظهور الطبعة الأولى كان بمثابة صرخة تحذير من كل جوانب التخلف التي أنشبت أظفارها في جسد الثقافة العربية، وعلى حد قوله: «فمن الواضح أن أظفار التخلف أو أنيابه قد تحولت إلى رصاصات وقنابل ومتفجرات إرهاب ديني. وللأسف، أصبح الإسلام الذي هو دين العقل والمحبة والتسامح والحرية والعدالة الاجتماعية، في تأويلاته السلفية الجامدة، مبرراً للإرهاب واغتيال الآخر، في صياغة ثقافية لا تعرف معنى الحوار أو مبادئ التعدد أو الحرية، واصمة كل من يخالفها بالكفر».
وعبر قسمين، يمارس صاحب «المرايا المتجاورة» نقده لثقافة التخلف، مركزاً في القسم الأول على الأصول التاريخية أو التراثية لتلك الثقافة، ابتداء من اضطهاد المرأة والتهوين من شأنها، مضافة إليها الأوجه المتتابعة لثقافة الاتباع التي تصل بين الدين والأدب والفكر والمجتمع وأجهزة الدولة على كل المستويات، ضمن رؤية عرقية عنصرية تعادي الطرف الآخر، وتقمع الاختلاف والخلاف، واصلة ذلك بثقافة الإذعان والاستبداد والسمع والطاعة لمشايخ وأتباع النقل المعادي للعقل.
أما القسم الثاني من الكتاب، فيتناول مظاهر ثقافة التخلف المعاصرة، في ما يتعلق بوضع المرأة، وخطابات العنف، وتغييب حريات الرأي والتعبير، إلى جانب العداء للمحدَّث من الآداب والفن، فضلاً عن جمود الخطاب الديني وتخلفه عن متابعة متغيرات العصر، وتحوله أخيراً إلى فعل سياسي باسم شعار آيديولوجي، مؤداه الترويج للتعصب، وعدم قبول الاختلاف بأي معنى، أو الرضا بالحكم المدني.
قمع المرأة
يتوقف عصفور طويلاً أمام قمع المرأة، بصفته أحد الأعمدة الرئيسية التي تقوم عليها ثقافة التخلف التي بحث عن أصولها في واقعنا العربي الإسلامي، ودعاوى زعماء «التأسلم» المعاصر الذين يجمعون بين السلفيين و«الجهاديين»، ومن أطلقوا على أنفسهم اسم «الجماعة الإسلامية»، إلى غيرها من التسميات التي تشمل جماعة الإخوان.
وابتداءً، يذكر عصفور أن هؤلاء يعدون المرأة عورة، أي قرينة قبح السريرة وسوء الطوية ومنبع الإثم والشر والمعصية، وهو ما لم يرد في كتاب الله ولا في سنة صحيحة متفق عليها، ولكنه تعبير شائع عند قسم من الفقهاء. إن من يتصور المرأة بصفتها عورة يتصورها -كما يضيف عصفور- على أنها شيء يُخجل منه، ويستقبح ذكره، ويجب ستره وإخفاؤه عن الناس، على قاعدة «إذا بليتم فاستتروا». ويوضح أنه لن يترتب على مفهوم العورة اختزال حضور المرأة في الوظيفة الجنسية فحسب، وإنما يتعدى ذلك إلى أمرين: أولهما الملبس، فالعورة لا بد من سترها عن الأعين وإخفائها بشكل كامل؛ أما الأمر الثاني فيتعلق بالعقل. وبما أن المرأة عورة، فهي أداة للجنس، والأداة لا عقل لها ولا تمييز ولا وظيفة إلا إشباع الغريزة. ويعني ذلك أن المرأة ناقصة في مقابل الرجل، وأن جنس الرجال خير من جنس النساء، والرجل كامل بنفسه لما فيه من الرجولة، ومن ثم ليس في حاجة إلى ما يكمله أو يجمله من زينة أو غيرها، على عكس المرأة التي تحتاج إلى تكميل بأغلى أنواع الثياب والزينة.
الهوس بالماضي
يشدد عصفور على الهوس أو «التهوس» بالماضي، بصفته سمة أساسية بثقافة التخلف، حيث لا تزال «النزعة الماضوية» واحدة من أهم الخصائص التي يتأسس بها خطاب التعصب، ويعتمد عليها، وهي جزء لا يتجزأ من خطاب الإرهاب بأصوله الفكرية التي تميل إلى العنف والتدمير، خصوصاً بما تنطوي عليه من استئصال المختلف وإقصاء المغاير. ويقول: «إذا كانت الثقافة العربية السائدة هي ثقافة (اتباع وتقليد) بالدرجة الأولى، في مدى هيمنتها وغلبتها على أشكال الوعي الجمعي، فإن النزعة الماضوية لا تفارق مركزها الأساسي في هذه الثقافة، وتتحول إلى عنصر مهيمن له حضوره الكلي وتأثيره الشمولي الذي ينسرب في كل الأشكال والأنماط الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية».
إن الثقافة الماضوية -كما يقول- ثقافة تقليدية نقلية، حسب المنظور الذي لا معنى لديه لتعاقب الزمن سوى بصفته مجرد حركة دائرية تعيد نفسها في تتابع أبدي لا ينتهي، فيتوقف الزمن خارج المدار المغلق للتكرار، نافية إمكانية التراكم الذي يتحول إلى تغير كيفي، وبالتالي تنغلق جميع السبل أمام حركة التاريخ، وما ينتج عنها من تطور وتقدم.
ويرى المؤلف أن ثقافتنا العربية تنطوي على نزعة عدائية تجاه الآخر بوجه عام، ينتج عنها ارتياب في المغايرة والمباينة والتنوع. إنها -كما يعتقد- نزعة غالبة في الثقافة السائدة، فالمختلف غير مرغوب فيه في كل الأحوال والمجالات، في مقابل إيثار المعروف والمألوف والمتوارث، على قاعدة «ما نعرفه خير مما لا نعرفه». فيصبح التقليدي حتى لو كان سيئاً مفضلاً على الجديد حتى لو كان الأفضل. وهكذا، يقع الآخر بكل أنواعه أسير الريب والظنون التي تشتد مشكلة دوافع لحرب هدفها إزاحته واستئصاله من الوجود، معنوياً ومادياً!