هناك نظريتان لفلسفة التاريخ: الأولى تقول إنه ليس للتاريخ البشري أي معنى؛ والثانية تقول العكس: أي إن له معنى ما ووجهة محددة، ولكنها لا تُرى بالعين المجردة، وحدها عين الفلاسفة الكبار تستطيع أن تراها. الأولى تلخصها عبارة شكسبير الشهيرة الواردة على لسان ماكبث: «الوجود البشري عبارة عن قصة مروية من قبل أبله، قصة مليئة بالضجيج والعجيج والهيجانات الجنونية، ولكن لا معنى لها». ضمن هذا المنظور، يمكن أن نشعر باليأس أمام مشهد السلوك البشري. إنه عبث في عبث، تفجيرات في تفجيرات، مذابح في مذابح، طوائف ومذاهب مشتعلة... وهذا يعني أن البشر منخرطون في مغامرة عمياء لا يرى فيها العقل بصيص نور ولا أي نظام أو قانون. وهذا التصور العبثي لمسيرة التاريخ يتطابق عموماً مع تصور شوبنهاور المتشائم السوداوي. فهو على عكس عدوه اللدود هيغل لا يعتقد إطلاقاً بأن التاريخ يتقدم إلى الأمام، أو أن الإنسان يمكن أن يتحسن ويصبح أفضل مما كان عليه. ففي رأيه، لا يتطور الإنسان ولا يتغير، وإنما يظل هو هو عبر العصور والأجيال. إنه يظل أسير نزواته وغرائزه السيئة عموماً. لماذا؟ لأنه خاضع لمبدأ الإرادة الأساسي الذي يتحكم بالبشر، ألا وهو الأنانية. الإنسان أناني بطبعه، وفي أعماق أعماقه؛ إنه شخص متقوقع على ذاته، ولا ينتعش إلا على مصائب الآخرين. وقد كان كذلك منذ أقدم العصور حتى اليوم، وسيظل كذلك حتى نهاية الأزمان. الإنسان البدائي أناني، والإنسان الحضاري أناني، لا فرق في ذلك بين سكان باريس الحضارية وسكان أدغال أفريقيا البدائية؛ الجميع محكومون من قبل المبدأ والقانون الصارم أنفسهما، وبالتالي فلا تطور في التاريخ ولا تقدم ولا من يحزنون.
ولكن هناك التصور المتفائل المضاد لتصور شوبنهاور، وهو يتجسد في عدة فلسفات تقدمية للتاريخ، أولها فلسفة كانط، وثانيها فلسفة هيغل، وثالثها فلسفة ماركس، ورابعها فلسفة سان سيمون، وخامسها فلسفة أوغست كونت، وآخرها فلسفة فرانسيس فوكوياما ذات الاستلهام الهيغلي. كان كانط ينظر إلى التاريخ على أساس أنه عبارة عن تحسين تدريجي للوضع البشري، أو للإمكانات المضمرة الموجودة في الطبيعة البشرية. كان ينظر إلى التاريخ بصفته صيرورة يطور الكائن الإنساني من خلالها كل الإمكانات المضمرة التي يحملها في داخله، وهي تشبه البذور قبل أن تتفتح. وهكذا، يخرج الشيء من حالة الكمون إلى حالة التحقق الفعلي، وبالتالي فكانط متفائل بالنتيجة أو المحصلة النهائية، رغم كل هذه الفوضى الظاهرية للتاريخ أو حتى الفظائع والحروب الأهلية. والسؤال المطروح الآن هو التالي: كيف يمكن للصراعات الدموية والأهواء البشرية الهائجة والمجازر أن تكون محركاً للتاريخ أو وسيلة للتقدم البشري؟ الجواب هو أن التاريخ يصفي حساباته مع نفسه، ويعزل تراكماته من خلال كل هذه الفظاعات والتفجيرات المرعبة والآلام. وبالتالي، فنحن جميعاً لسنا إلا وقوداً أو حطباً لقطار التاريخ. وهنيئاً للأجيال المقبلة التي ستتمتع بثمار كل ذلك، والتي ستنهض على أنقاضنا. وهذا يعني أن البشر سائرون لا محالة نحو التقدم، نحو الحرية، نحو الانعتاق من براثن الماضي، ولكن بعد أن تدفع الأجيال السابقة الثمن. بعد ثلاثين أو أربعين سنة مقبلة، سوف تظهر أجيال عربية «نظيفة أو مطهرة ومنظفة»؛ أي متحررة كلياً أو جزئياً من العصبيات الطائفية والمذهبية المدمرة. ولكن بانتظار ذلك، كم ستتعذب وتحترق أجيال؟
ثم جاء هيغل، أكبر منظر لفلسفة التاريخ، الذي كان يعتقد أن وراء كل ما يفعله البشر يختبئ عقل كوني أو روح مطلقة. وهذا العقل الكوني هو الذي يقود العالم نحو مزيد من الحرية، ومزيد من العقلانية، ومزيد من الأخلاقية. وهذا ما تحقق في ألمانيا بعد أن تجاوزت مرحلة الحروب المذهبية الكاثوليكية - البروتستانتية الضارية، وأصبحت أوروبا حضارية مستنيرة. ولكن كم هو الثمن المدفوع والدم المراق؟ نصف شباب فرنسا ذهبوا حطباً أو وقوداً في حروب نابليون، وثلث سكان ألمانيا في حرب الثلاثين عاماً! والفيلسوف الفرنسي المعاصر لوك فيري يعتقد أن فلسفة كانط وهيغل والأنوار كلها ليست في نهاية المطاف إلا علمنة ناجحة ورائعة للدين المسيحي، وللمذهب البروتستانتي اللوثري على وجه الخصوص. إنها تفكيك راديكالي للانغلاقات التراثية المسيحية التي سببت الحروب الطائفية أو خلعت عليها المشروعية الإلهية. فمتى سيظهر مفكر عربي قادر على عقلنة التراث الإسلامي أو علمنته أو تنويره من الداخل؟ هذا هو السؤال المطروح حالياً، وبإلحاح: من سينقذنا من جهالات التخلف وظلاميات القرون؟
قد تقولون وما علاقة كل ذلك بالتاريخ العربي؟ علاقته أكثر من واضحة، فما ينطبق على التاريخ البشري ينطبق أيضاً على التاريخ العربي؛ نحن لسنا استثناء ولا استعصاء على الجنس البشري. الفرق الوحيد بيننا وبين الأمم المتقدمة هو أنهم حلوا مشكلاتهم، وصفوا حساباتهم التاريخية مع أنفسهم على مدار قرنين أو ثلاثة. لقد أتيحت لهم الفرصة الكافية لكي يفتكوا بأنفسهم فتكاً ذريعاً في حروب أهلية طائفية لا تبقي ولا تذر. وبعدئذ، استقروا واستكانوا وتعقلنوا وتصالحوا بعضهم مع بعض من خلال فكر ديني جديد. ولكن ليس قبل ذلك! أما نحن فلم يتح لنا حتى الآن أن نفعل ذلك ونتنفس الصعداء. لم يتح لنا أن نكنس أمام بيتنا حتى الآن، ولا أن نعزل تراكماتنا التراثية المتكدسة بعضها فوق بعض على مدار القرون. وأقصد بها تفكيك كل رواسبنا الطائفية والمذهبية والعرقية الموروثة عن الماضي البعيد. ما معنى الصراع السني - الشيعي؟ ما معنى الصراع العربي - الكردي؟ ما معنى الصراع الإسلامي - المسيحي؟ ما معنى الصراع العربي - الأمازيغي في منطقة المغرب الكبير؟ وهذه العملية التفكيكية أو التحريرية الهائلة للفكر العربي لا يمكن أن تحصل من دون معركة كسر عظم على صعيد الواقع العملي. هناك انهيار على مستوى الفكر، وانهيار على مستوى الواقع، وبالتالي فتفكيك بنية الاستبداد التاريخي الراسخة في خلايانا وشراييننا عملية ليست سهلة على الإطلاق. لهذا السبب يحصل ما يحصل الآن.
هذه هي مسيرة التاريخ البشري؛ إنه دموي عاصف قبل أن يصل إلى شاطئ الأمان. وهناك ثمن باهظ مدفوع. لقد ابتدأت عاصفة التاريخ العربي، ابتدأت الزوابع والأعاصير، ولن تنتهي عما قريب. لماذا أبيع نفسي الأوهام؟ فهناك احتقانات تاريخية ضخمة متراكمة على مدار ألف سنة، وليس من السهل تجاوزها أو القفز عليها أو حلها في يوم أو يومين، بل إن ذلك من رابع المستحيلات. لقد حاولت الآيديولوجيات التقدمية العربية ذلك، من البعث إلى الناصرية إلى الماركسية الاشتراكية الشيوعية، ولكنها فشلت في نهاية المطاف. فالعقبة التراثية الكأداء أكبر منا، إنها لا تزال أمامنا. ولذلك نقول ينبغي أن تفرغ البراكين التراثية العميقة كل احتقاناتها المتراكمة، وتقذف بكل حممها الجوفية، قبل أن ينجلي الأفق العربي عن سماء صاحية. أما الآن، فهي ملبدة بالغيوم أكثر من اللزوم، كما يقول شكسبير. ولن تصحو قبل هبوب الإعصار. بكلمة مختصرة: لقد ابتدأت تصفية الحسابات التاريخية للعرب مع أنفسهم، وسوف تهتز الأرض كلها قبل أن تنحل! ولن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام قبل المرور بمرحلة الانصهار التاريخي، وأتون المعاناة الخلاقة، والاحتراق.
أخيراً، سأقول ما يلي: لقد كان التاريخ العربي يعاني من انسدادين خطيرين كبيرين: الأول تراثي داخلي، وقد تحدثت عنه فيما سبق. وأما الثاني، فهو سياسي خارجي، وأقصد به الصراع العربي - الإسرائيلي الجهنمي المدمر. على مدار سبعين سنة، كان شغلنا الشاغل وبحق. فلم يكن من السهل تحمل كل هذا الظلم والقهر الذي لحق بفلسطين وشعبها. وكان من الطبيعي أن تجيش كل الطاقات لمواجهة هذا الكابوس الرهيب الذي فرض علينا من الخارج فرضاً بشكل اعتباطي تعسفي. ولكن بعد مرور نحو القرن على الفجيعة الفلسطينية الكبرى، وبعد كل تلك التضحيات الجسام، هل يمكن أن نستمر على الخط نفسه، أم أن هناك خطاً آخر ممكناً لقيادة الصراع؟ أقصد أنه قد يتحول من صراع قتالي إلى صراع حضاري، ومن الرفض المطلق للآخر إلى الاعتراف بوجوده. أعرف أن قبول ذلك أصعب علينا من تجرع السم الزعاف، بعد أن عشنا على كرهه ونبذه في المطلق زمناً طويلاً. ولكن لا بد مما ليس منه بد. بصراحة، التاريخ تعب من الآيديولوجيا العربية القديمة التي هيمنت علينا بكل شعاراتها ومقولاتها طيلة قرن كامل تقريباً. لقد مللنا منها، وهي الآن تحتضر أمام أعيننا، رغم كل الصراخ والزعيق والحنين لجيوش من المثقفين والصحافيين. وبالتالي، فلا بد من تجديدها، وتجريب خط آخر. فإذا كانت إسرائيل تمتلك جامعات حديثة ومراكز بحوث تؤمن لهم ليس فقط التفوق العلمي والتكنولوجي، وإنما أيضاً التفوق الفكري والفلسفي، فلماذا لا نمتلك نحن؟ إذا كانت جامعاتها تسمح بطرح كل المسائل الفكرية، بما فيها الدينية الحساسة، فلماذا لا نمتلك نحن؟ باختصار شديد، إذا كانت تسيطر على الحداثة العلمية والدينية والفلسفية، فلماذا لا نسيطر نحن؟ هذه هي بعض التساؤلات التي قد تخطر على البال. لماذا أركز كل هذا التركيز على المسائل الدينية والتنويرية؟ لأننا بحاجة إلى التطبيع مع أنفسنا أيضاً، وليس فقط مع إسرائيل! هناك تطبيعان في الواقع مطروحان علينا، لا تطبيع واحد، وإن كان التطبيع مع إسرائيل هو الأصعب والأشق على النفس بطبيعة الحال. أخيراً، لقد تجرأت الإمارات العربية المتحدة على فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود. من هو هذا القائد العربي الذي قفز القفزة واتخذ القرار؟ «لحظة حسم القرار لحظة جنون»، كما يقول الفيلسوف الكبير كيركيغارد. ثم تبعتها البحرين، بلد الثقافة والمحبة والخير والجمال.
خواطر حول فلسفة الزمن الحاضر
عملية تحرير الفكر العربي لا يمكن أن تحصل من دون معركة كسر عظم
خواطر حول فلسفة الزمن الحاضر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة