في اللحظة التي حصل فيها انفجار بيروت، في السادسة وخمس دقائق، من بعد ظهر الثلاثاء 4 أغسطس (آب) الحالي، قلة من البيروتيين استطاعت متابعة الحدث عبر الشاشة الصغيرة؛ فغالبيتهم كانوا في صدمة، ولم يستوعبوا ما يحصل على الأرض، وانشغلوا بأمور كثيرة غير التلفزيون. في هذه اللحظات بالذات، كان بينهم من يركض في منزله يستطلع الأضرار التي أصابته. وآخرون، وهم كثر كان وقع الانفجار كبيراً عليهم، وهم يشاهدون الدمار الذي يحيط بهم. فهرعوا إلى أجهزة التليفون يسألون عن أحبائهم ويتأكدون من سلامتهم. فيما كان عدد منهم يتفرجون على هول الكارثة وما أحدثته من دمار وتحطيم زجاج حولهم وهم يشعرون بالصدمة.
ومن كان يتابع شاشة قناة «إل بي سي آي». في تلك الآونة لا بد أن يكون قد وصل إليه صوت مراسلة نشرات الأخبار هدى شديد وهي تذكر بصوت متهدّج أن «انفجاراً استهدف بيت الوسط» وقد تملكها الرعب والخوف؛ فهي كانت في تلك الساعة تغطي الاجتماعات التي يعقدها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في مقره ببيت الوسط مع عدد من النواب الأرمن. وكغيرها من اللبنانيين ولقوة صوت الانفجار الذي فاجأهم اعتقدوا أنه أصاب المكان الموجودين فيه.
مراسلون ومصوّرون كحسان الرفاعي من «الجديد»، وعدنان الحاج علي من «وكالة الصحافة الفرنسية»، كانوا في طليعة الإعلاميين الواصلين إلى مكان الانفجار. بينما غيرهم، أمثال جورج عيد من تلفزيون «إم تي في». هرعوا إلى مكان الانفجار لا شعورياً ملبّين متطلبات مهنة المتاعب. عيد ترك كل شيء وغادر مبنى المحطة نحو المرفأ، وقد اختلطت عليه مشاعر إنسانية مختلفة لا سيما أن والده وخالتيه كانوا موجودين بمحاذاة مكان الانفجار.
قصص وحكايات تعبق بالألم والوجع والأشلاء والجرحى والضحايا يرويها كل منهم لـ«الشرق الأوسط» مستذكرين لحظات حفرت في ذاكرتهم. كلهم أجمعوا على القول إن هذه التجربة لا تشبه غيرها طيلة مشوارهم الإعلامي.
كثيرون منهم تخلوا عن ميكروفوناتهم وكاميراتهم وتحولوا إلى العمل الإنساني؛ فالسبق الصحافي في هذه اللحظات تبخّر من رؤوسهم. ومهمتهم كإعلاميين ينقلون الحدث من أرض الواقع حوّلتهم إلى مسعفين ومنقذين. ومنهم من لم يتوانَ عن قطع البث المباشر الذي يقوم به، ليلبي نداءً إنسانياً صادفه.
التجربة كانت قاسية عليهم لا سيما أنها كانت مغطاة بالدماء، وبأشلاء ضحايا ضاعت بين تربة رمادية ودخان أسود يخيم على موقع الانفجار.
كانوا أبطالاً من نوع آخر. هجموا إلى الخطوط الأمامية من دون تردد. ولعبوا دوراً بارزاً في نقل مشهدية الانفجار، وكل ما تحمله من ألم إلى العالم أجمع. وبرع هؤلاء وغيرهم في تغطية أحداث كثيرة في الآونة الأخيرة، فاستحقوا ثقة الناس. ومع حادثة انفجار مرفأ بيروت، نقل بعضهم إلى المستشفيات، بعدما تعرّضوا لإصابات مباشرة من جراء الانفجار.
البداية مع هدى شديد التي تسببت إطلالتها من أمام «بيت الوسط» المصاب مباشرة بالانفجار بإحداث فوضى حول تحديد مكان الانفجار. وتقول هدى في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «كنت يومذاك أقوم بتغطية اجتماعات الرئيس الحريري في منزله بيت الوسط. وكانت كاميرا زميلي المصور سابا مخلوف مفتوحة تنقل الوقائع مباشرة على الهواء، عندما حصل الانفجار. للوهلة الأولى لم نستوعب ما حصل، وظننا أن الانفجار استهدف بيت الوسط، لا سيما أن أضراراً أصابت المكان». وتتابع: «عادة أكون متماسكة في هذا النوع من الحالات، ولكن عندما تطايرت الأشياء أمامنا أُصبتُ بالهلع، واختلطت الأمور علينا جميعاً، لا سيما أن قوة الانفجار دفعتنا للاعتقاد أنه أصابنا مباشرة».
وتشير شديد إلى أنها عندما سألت أحد النواب المجتمعين بالرئيس الحريري عن ردّ فعلهم إثر سماعهم الانفجار أجابها: «لقد انبطحنا ثلاثتنا على الأرض، واعتقدنا أن بيت الوسط هو المستهدف من الانفجار». وتتابع شديد أن زميلها سابا مخلوف تلقى اتصالاً من محطة «إل بي سي». قبل دقائق للتوجه إلى المرفأ حيث هناك حريق يندلع. إلا أنها طلبت منه أن يسجل لها رسالتها قبل أن يغادر. و«هذا الوقت القصير أنقذ حياته»، كما تقول.
تحوّل إلى مسعف
مصور «وكالة الصحافة الفرنسية» عدنان الحاج علي يروي قصته مع الانفجار، فيقول: «كنتُ في منطقة رأس النبع عندما سمعت دوي الانفجار. هرعت إلى المرفأ ومرَرت بمنطقة وسط بيروت وبيت الكتائب في منطقة الصيفي. الجرحى والقتلى كانوا بالعشرات. عندما وصلت المرفأ رأيت مجموعات على بعض البواخر الراسية على الأرصفة تحمل جرحاها وشهداءها. وفي كل مرة كنت أقترب لمساعدة أحدهم، ظاناً للوهلة الأولى أنه حي يرزق، كنت أكتشف أن جسده مخلوع ومكسور وأنه ميت».
ويضيف عدنان بتأثر: «في غياب وجود أي من عناصر الدفاع المدني خلال اللحظات الأولى للانفجار، كان عناصر من الجيش اللبناني يساعدون الجرحى. لم أفكر ولو لبرهة بالتصوير، وفاتني أخذ لقطات كثيرة مؤلمة. كنت أحمل كاميرتي تارة، لأعود وأتركها تارة أخرى. ونسيت طبيعة مهمتي وتحوّلت إلى منقذ أحمل الجرحى، وأبحث بين والمصابين عمّن لا يزال يتنفس».
تجربة عدنان المؤثرة، التي لم يستطع أن ينساها منذ ذلك اليوم، عاش ما يشبهها مراسل الأخبار في محطة «إم تي في». جورج عيد، الذي قال في لقائه مع «الشرق الأوسط»، إن «التجربة كانت قاسية جداً. كنت أول الواصلين إلى المرفأ بعدما تركت مبنى المحطة وتوجهت نحو موقع الانفجار».
كان عيد كلما اقترب من الموقع يرى تزايد أعداد الجرحى. أطفال وشبان ومسنّون كانوا في حالة يرثى لها منهم من اقتلعت عينه وتكسرت قدمه وآخرون يغطيهم الدم.
«سبق لي أن غطيت أحداثا كثيرة مؤلمة في مشواري الإعلامي - يقول جورج - لكنني لم أشهد مثل هذا الانفجار. ثم إن الأمر هنا طالني شخصياً، طال مدينتي التي أعشقها. كان داخلي ينزف ويبكي، لا سيما أن عقلي كان مشوشاً ومشغولاً بأوضاع والدي وخالتي الموجودَيْن في مواقع قريبة من الانفجار. وعلى مدى نحو 40 دقيقة كنت أصف مشاهداتي على الهواء مباشرة وكأنني في كابوس لا أستطيع الاستيقاظ منه. كل ما حولي كان مؤلماً، وكنت أردد نداءات مستعجلة لـ(الصليب الأحمر اللبناني)، ورجال الدفاع المدني أدلّهم على أماكن الجرحى الذين أراهم من موقعي. حاولت مساعدة رجل مسنّ مجروح وأهدئ من روع مراسلة وكالة أجنبية. المشهد برمته كان رهيباً».
ومن بين الإعلاميين الذين فصلهم عن الموت لحظة مراسل تلفزيون «الجديد»، حسان الرفاعي. «كنتُ يومها أغطي التحركات الاحتجاجية أمام وزارة الطاقة في منطقة محاذية للمرفأ. وكنت أحضّر تقريري حول الموضوع، عندما سمعت دوي الانفجار الأول. وبعد اتصال مع إدارتي عرفت أن حريقاً اندلع في المرفأ، وتوجّهت إلى هناك». يحمد الرفاعي رب العالمين، لأنه كان هو الموجود هناك، وليس واحدة من زميلاته... «بنية الرجل قد تخوّله احتمال الأضرار بصورة أكبر، وهو ما عزّاني».
يروي حسان الذي ما إن وصل إلى نقطة مقابل مرفأ بيروت قرب تمثال المغتربين حتى ثبّت كاميرا التصوير مع زميله المصور جهاد زهري، فيقول: «في هذا الوقت كان الحريق قد تطوّر، وسمعنا صوت انفجار مفرقعات نارية. وفجأة رأيتُ دخاناً على شاكلة فِطْر يتصاعد في الأجواء. فأيقنت أن انفجاراً ما سيحصل، وقرّرت تنبيه زميلي. وفي لحظة سمعت دوي انفجار هائل، ورأيت زميلي يطير فوق رأسي. تمسكت بقاطع حديدي أمامي مثبّتاً قدمي على الأرض. ارتعبت وخفت وسقطت على الأرض غائباً عن الوعي، بعدما أصبت إصابة مباشرة في رأسي».
ويتابع: «عدتُ إلى وعيي للحظات، من خلال أحدهم كان يحاول مساعدتي، ورحت أصرخ: (ساعدوا زميلي... ساعدوا زميلي). ورأيت جهاد يتقدم مني والدماء تغطيه وراح يطمئنني أنه بخير».
كان الرفاعي وزميله المصور جهاد على بعد أمتار قليلة من موقع الانفجار، ولم يتوقعا الخطر الذي يحاصرهما. إلا أنه يقول: «أتذكر كمية المصابين والأعداد الهائلة من الجرحى حولي. صورة واحدة حُفِرت في ذهني؛ الدماء المتناثرة في كل مكان. لا أذكر كيف وصلتُ إلى المستشفى وتم إسعافي. مع قوة عصف الانفجار لم أستطع المقاومة كثيراً بعدما أُصبتُ بكسور صغيرة في جمجمتي وارتجاج في الدماغ... قالوا لي إنه جرى حملي إلى المستشفى، وأنا غائب عن الوعي. إنها فعلاً أصعب التجارب المهنية التي مررت بها».
تطول لائحة قصص المراسلين والمصورين الذين عايشوا تجربة الانفجار، وجميعها تزدحم بمواقف إنسانية مؤثرة. وحكاية مذيع ومراسل نشرات الأخبار في محطة «إل بي سي آي». مالك شريف واحدة منها. فهو من الإعلاميين الذين لم يتوانوا عن ترك الهواء للحظات طويلة كي يسهم في البحث عن حمد العطار.
روى الشريف لـ«الشرق الأوسط» تلك اللحظات قائلاً: «عندما رأيت والدته تجول يمنة ويسرة في المستشفى ضائعة لا تعرف مصير ولدها شعرت للحظة وكأنها أمي تبحث عني... كانت هائمة تحبس دموعها ولا تعرف إلى أين تتجه، ومَن تسأل عن ابنها وهي تردد: (ابني حلو ومليح وعيونو عسلية حدا شافوا)». عبارتها الشهيرة تلك التي تحولت فيما بعد إلى أغنية حزينة بصوت الشاعر فارس إسكندر كانت كافية لتحريك مشاعر مالك الشريف. الذي يتابع: «عندما يتخطى الأمر قدرة الإنسان، ينسى مهنته، وتأخذ طبيعة مهمته منحى مغايراً. لقد كان في حوزتي ورقة كتبتُ عليها أسماء الجرحى في المستشفيات. وعندما شاهدتُ والدة الشهيد حمد قررت مساعدتها من دون تردد. تركتُ الهواء ورافقتُها للبحث عن ولدها في أروقة المستشفى. كنت أنا أيضا مدمراً ومكسوراً أبكي كلما ابتعدت عن الكاميرا. كنت أتمنى أن تطمئن جميع الأمهات عن أبنائهن، فأعيد قراءة الورقة مائة مرة، لعلِّي أرى اسم ابن مفقود يبحث أهله عنه... هذه التجربة كسرتني، رغم أنني سبق أن عشتُ غيرها، مما زودني بالقوة وتعلمت منه الكثير».
أما صورة كارلن حتي المفجوعة بمقتل زوجها وشقيقها وابن عمها، التي تم تداولها بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي فوقّعها المصور جوزف عيد في وكالة الصحافة الفرنسية. يقول عيد لـ«الشرق الأوسط» بتأثر: «أُصبت بصمت تام لحظة التقاطي هذه الصورة الموجعة أثناء تشييع جثامين الشهداء الثلاثة في بلدة قرطبا. استوعبت حينها أنني لا أقوم بمهمتي من باب مهنتي، بل وكأني واحد من أهالي المفقودين. المشهد بكل حزنه ومآسيه عنى لي الكثير، فلمسني شخصياً، فكانت هذه الصورة المؤثرة».
جميع المراسلين من دون استثناء تلمس حزناً دفيناً في أصواتهم وفي طريقة سردهم لقصصهم. كلّهم قالوا إن ما مروا به ترك عندهم مرارة لن ينسوها. لقد تناسوا لبعض الوقت مهامهم الإعلامية، فأنقذوا وأسعفوا وساعدوا وتفانوا إلى حدّ الذوبان.