كريستوف بيترز يذيب المسافات بين الشعوب في «استئناس الغربة»

ثمرة ورشة للترجمة حضرها الكاتب في معهد غوته بالقاهرة

كريستوف بيترز يذيب المسافات بين الشعوب في «استئناس الغربة»
TT

كريستوف بيترز يذيب المسافات بين الشعوب في «استئناس الغربة»

كريستوف بيترز يذيب المسافات بين الشعوب في «استئناس الغربة»

تبدو المجموعة القصصية «استئناس الغربة» للكاتب الألماني كريستوف بيترز الصادرة حديثا عن دار صفصافة للنشر بالقاهرة، وكأنها ثمرة علاقة محبة لعالم الشرق، بخاصة مصر التي يرتبط معها الكاتب بعلاقات وثيقة منذ سنوات طويلة، قامت على روابط قرابة ومصاهرة، وتغذت باهتمامات شخصية، وقد ألقى ذلك بظلاله على الكثير من قصصه ونصوصه النثرية التي جاءت موضوعاتها متعلقة بالحوار بين الغرب والعالم الإسلامي، وانفتحت فيها على مشاعر وأحاسيس شخصيات راهن المؤلف على أنها سوف تكون الوسيلة المثلى لاستجلاء أي غموض يحيط بالطرفين، وتذويب المسافات بين شعوبهما عبر الحكايات والقصص.
يتضمن الكتاب تسع قصص قصيرة، بالإضافة إلى مقدمة ضمها بيترز للنسخة العربية، ومقال كتبه بمناسبة زيارته الأولى لمصر عام 1993. بعنوان «القاهرة والتنوير»، تحدث فيه عن مصر، وما أشاعته وقتها جماعات إرهابية من أجواء عنف في مدنها وشوارعها، وسرب إشارات ورموز ليضع القارئ من خلالها يده على أجواء القصص التي تدور في أماكن محددة في أوروبا والعالم الإسلامي، مثل ميونيخ وبيليفيلد والقاهرة، وإسطنبول، وطهران، وأكرا.
وفي القصص، التي تميزت بنهاياتها المفتوحة، يرصد الكاتب مشاعر الشك والريبة التي تنتاب شخصياته التي تنتمي لثقافته الغربية، وهي تصادف شخصيات شرقية، ففي قصة «قافلة إلى بلاد فارس»، يتحدث بيترز عن شخص يدعى عادل بهرامي من أصول إيرانية، يتميز بقدرة وجاذبية كبيرة، تجعله يسيطر ببساطة على الآخرين. ويحاول «بهرامي» إقناع عدد من الشباب الألماني، الذين يدرسون في قسم التصميم الفوتوغرافي بجامعة بيليفيلد، بمرافقته في رحلة سيارات إلى الحدود الإيرانية، مغرياً إياهم لهم بكسب ثلاثة آلاف مارك حال قبولهم، وأخبرهم أنه فور وصولهم للحدود سوف يسلم السيارات لأشخاص يقودونها إلى داخل بلاده، ويحصل هو على عمولة بسيطة.
وتزداد حدة المناقشات بين «بهرامي» وبين الشباب، وقد وصفهم الكاتب على لسان إحدى شخصيات القصة «إيفا ماريا» بالحمقى الذين لا هدف لهم سوى حصد المال، وكان بينهم من يرون أنها رحلة ممتعة يحصلون في نهايتها على مبلغ مجزٍ، وعلى الجانب الآخر كان بينهم من يعتبرونها عملية نصب واحتيال، يدير خيوطها «بهرامي» ببراعة.
ويظل الأمر بين شد وجذب بين الشباب حتى يكتشفوا اختفاء «بهرامي»، يسألون عنه هنا وهناك ولا يعثرون له على أثر، لم يظهر «بهرامي» في «بيليفيلد» أو في «ديتمولد» مرة أخرى على الإطلاق، لكن ظهوره في الأيام القليلة التي قضاها بينهم كانت كفيلة بإحداث تصدع لن يلتئم سوى ببطء شديد.
ويتعرض المؤلف، في معظم النصوص، لتفاصيل وملامح متصلة بالشرق، يرصد الشوارع، وزحامها، والقداسة التي تستشعرها شخوصه وأبطاله وهم في رحاب المساجد، يتأملون عمارتها المدهشة وما أبدعه فنانوها من نقوش وكتابات على أعمدتها وجدرانها، ففي قصة «تحية من يونس» يتحدث عن رحلة استغرقت ثمانية أيام قام بها طالب هندسة إلى إسطنبول، وظل لأربعة أيام يهيم على وجهه في المدينة القديمة تعتريه الحيرة، وهو يشاهد المساجد والواجهات والقباب والمآذن والساحات الداخلية، وكان هدفه الاستفادة منها في تطبيق تصوره الخاص عن المِعمار العصري إذا ما قرر في يوم من الأيام أن يبني منزلا. كما راح البطل يصف الأجواء الساحرة في مسجد «آيا صوفيا» الذي كان صرحا كنسيا، وحوله الأتراك إلى مسجد، زاره «البطل» بمجرد وصوله، وشاهد الصالات الأمامية والمنصات والمنابر والطوابق العليا والصالة الرئيسية الضخمة عدة مرات، وخارت قواه في تلك الأثناء أكثر فأكثر، وتملكه شعور بالانقباض، وكأنه قد تم إدماج قوى خفية في مناطق بينية من البناية لا يمكن إدراكها بواسطة نسب قياس تنجيمية وتلاعبات بالأعداد السحرية.
وفي القصص أيضا يعبر الكاتب عن مشاعر متضاربة لدى أبطاله، نتيجة تفكيرهم الذي ينبني على ما تبثه أجهزة الإعلام الغربية من أفكار عن مجتمعات الشرق، التي ما إن يطأوا ترابها إلا ويدركون أن كل ما سمعوه كان مغالطات، لا يجدون أثرا لها وهم يتجولون في الساحات، حينها يطلق الكاتب العنان لأفكارهم ومشاعرهم، ويحكي عن الأمل والخوف وأحياناً عن سعادة من بدأوا رحلة بحثهم عن حياتهم الحقيقية ومشاعرهم العظيمة، وطريقهم الخاص صوب المجهول. يجمعهم عامل مشترك يكمن في أن رحلاتهم الداخلية والخارجية تشق طريقها بين أوروبا والعالم الإسلامي بمفهومه الأشمل، فمن يشد الرحال بقلب وفكر منفتح إلى مناطق أخرى في العالم، مخلفاً وراءه ألفة ثقافته وأمانها؛ سوف يفقد عاجلا أو آجلا ثقته في مسلَمات اعتادها. وسوف يرى عالمه الخاص بعيون جديدة، كما أنه سيُلقي أحياناً نظرة على هذا العالم الغريب الذي سيرى أهله أنفسهم من زاوية مختلفة.
يهتم بيترز بالمكان في قصصه، يتنقل بين تفاصيله بخفة، ساعيا لإبراز ملامحه، ورصد كل ما تقع عليه عيون شخصياته من تضاريس، ففي قصة «بستان النخيل» يصف، وبعيون مستثمر ألماني، الشوارع وأجواءها الحارة، وصحارى سيناء، والحدائق المشرفة على الأهرامات، وهي مشاهدات وقعت عليها عيناه وهو يستقل حافلة من شرم الشيخ إلى القاهرة، وفي قصة «بالكاد حتى ميونيخ» يصف مدينة لم يسمها في الشمال الألماني تتسم بأجواء باردة، وشوارع تحتشد في أرجائها أعداد كبيرة من الجنود الأميركيين. وفي قصة «العودة» ومن خلال عيون رسام شاب يصف العاصمة الغانية «أكرا» بأجوائها البكر وسوق الماشية، والطرق الترابية المطروقة، والضجيج الذي تحدثه الشاحنات التي تجر خلفها جذوع أشجار ضخمة. وصياح التُجار وصراخ الأطفال، والحشائش وهي تزداد نموا بفعل المطر، والأبقار التي تعود ممتلئة بلحومها من الحقول الغنية بالحشائش.
«استئناس الغربة» تمت ترجمتها من خلال ورشة نظمها معهد غوته بالقاهرة عام 2013، ونشأت فكرتها من شباب المترجمين والمترجمات المصريين، وكان المؤلف برفقتهم في أعقاب زيارته لمصر في خريف عام 2012. وقد مكن هذا المشروع معهد غوته من ربط عدة أهداف بطريقة مُثلى لا سيما دعم شباب المترجمين المصريين وحثهم على التعامل مع النصوص باحترافية وكذلك تقديم صوت من المشهد الأدبي الألماني المعاصر للجمهور المصري.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟