«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني
TT

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

«العنصرية» في أميركا.. من خفي إلى علني

مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة «لن تحل بين ليلة وضحاها. إنها تراث أجيال وأجيال. لكن، يقدر الجيل الجديد، جيل الشباب، على النضال ضدها. وفي كل الحالات، يتحقق التقدم على مراحل. يتحقق التقدم تدريجيا». هذا ليس رأي خبير أبيض، أو خبير أسود.. هذا ما قاله الرئيس باراك أوباما، أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
لم يقل أوباما حديثه هذا خلال الأسبوع الماضي، بعد أن قتل أسود اثنين من رجال الشرطة في نيويورك.. ولم يقله الشهر الماضي، بعد أن برأت هيئة محلفين شرطيا أبيض قتل أسود في نيويورك.. قاله الصيف الماضي، عندما اندلعت أول مواجهات جديدة بين السود والشرطة في فيرغسون، ضواحي مدينة سانت لويس (ولاية ميسوري)، بعد أن قتل شرطي أبيض أسود. وطبعا، يمكن أن يقول أوباما ما قال اليوم أيضا، وغدا أيضا، وبعد غد أيضا.. فالمواجهة العنصرية بين البيض والسود في الولايات المتحدة «تراث أجيال وأجيال»، كما قال هو، رغم أنها تقل عددا ونوعا، مرة بعد مرة، حسب رأي ريتشارد كوهين، (اليهودي) في صحيفة «واشنطن بوست» مبررا ذلك بقوله إن الكلمة المتداولة في الوقت الحاضر هي «كونفرنتيشن» أي «مواجهة»، وكان يقال قبل 50 عاما، «كلاشيز» أي «اشتباكات»، ودموية أحيانا، وقبل مائة عام، كانت «ديسكريمنيشن» أي «تفرقة وتمييز»، وقبل مائتي عام، كانت «سلافيري» أي «عبد رقيق».

* نوعان من التفرقة

* طبعا، انتهت إلى غير رجعة سنوات الرقيق، وسنوات التفرقة العنصرية العلنية والرسمية. لكن، لم ينته (ولن ينتهي) نوعان من التفرقة، حسب خبراء وسياسيين أميركيين: أولا: التفرقة بسبب الاختلاف.. تفرق الاختلافات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية بين الأغلبية البيضاء والأقلية السوداء، بصرف النظر عن الجانب العنصري، تفرق هذه الاختلافات بين البيض أنفسهم، وبين السود أنفسهم.
ثانيا: التفرقة الخفية: بسبب الجانب العنصري، أو من دونه، يظل البيض، ليس فقط الأكثر عددا، ولكن، أيضا، الأكثر مالا، وقوة، ونفوذا، وتعليما.. ومثلما يحدث في الدول الأخرى، تظل «الطيور على أشكالها تقع» (مثل أميركي، وعربي أيضا).
وكما صار واضحا، ورغم أن أوباما يريد أن يكون رئيسا لكل الأميركيين، كما انتخب، فإنه كلما تهب عاصفة عرقية، يجد نفسه يميل نحو «أشكاله». وفي الأسبوع الماضي، خصّ تلفزيون «بلاك إنترتينمنت» («الترفية للسود»، اسم قناة كبيرة متخصصة في شؤون السود، ويملكها ملياردير أسود) بمقابلة عن هذا الموضوع، وقال فيها العبارات السابقة. وقال أيضا، وهو يخاطب السود، وليس البيض: «حين تتعلق المسألة بأمر مترسخ مثل العنصرية أو التفرقة في أي مجتمع، يجب التيقظ. لكن، يجب الإقرار أيضا بأن هذا الأمر مستمر منذ فترة طويلة.. إذا تحدثتم عن هذا الموضوع مع الأهل، والأجداد، والأعمام، سيقولون إن الأمور تحسنت. سيقولون إنها ليست مثالية في بعض الحالات، لكنها أفضل».

* السبب هو أوباما
* من المفارقات أن ترتفع درجة حرارة هذه المواجهات في عهد أوباما.
* حدثت مواجهات قليلة في عهد رؤساء قبله، بسبب حوادث قتل فردية مثل التي حدثت خلال الشهور القليلة الماضية. لكن، صار واضحا أن وجود رئيس أسود في البيت الأبيض زاد حرارة المواجهة.. وذلك لأكثر من سبب:
أولا: وضع كثير من السود آمالا كبيرة جدا فيه. ظنوا أنه سيقضي على بقايا التفرقة العنصرية العلنية (مثل هذه المواجهات بين السود والشرطة)، وسيقضي، ربما، على التفرقة الخفية (استعلاء البيض بسبب قوتهم العرقية والاقتصادية، والسياسية، إلخ..).
ثانيا: تململ كثير من البيض بسبب وجود رئيس أسود عليهم (هذه تفرقة خفية أكثر منها تفرقة علنية)، رغم أنه فاز مرتين، ورغم أنه معتدل، ورغم أن والدته بيضاء.. لا يمكن وصفهم بأنهم عنصريون.. لكن، يظل الاستعلاء، خفيا، إن لم يكن علنا.
> هل كان يمكن غير ذلك؟
كتب عن هذا الموضوع جيفري هافينسون، في معهد «هيرتدج» اليميني في واشنطن. وكعادة الخبراء والسياسيين البيض كان حذرا، وتحاشي انتقاد أوباما بوصف أوباما أسود.. انتقده بصفته رئيس. وقال إن أوباما «يجب أن يكون رئيسا لكل الأميركيين». هذه إشارة إلى تصريحات أوباما عن «تصرف الشرطة» و«الشرطة صديقة الشعب».. وهي نفسها تصريحات حذرة، لأن أوباما لا يريد أن يقول: «الشرطة البيضاء تقتل الشباب السود».
لكن، صرح مسؤولون بيض آخرون تصريحات أكثر مباشرة، مثل فيل براينت، حاكم ولاية ميسيسيبي، وهو جمهوري، مثل كل حكام الولايات الجنوبية. ومن المفارقات أن الحزب الجمهوري في القرن التاسع عشر (حزب الرئيس أبراهام لينكولن) قاد الحملة ضد تجارة الرقيق، التي كان يؤيدها الحزب الديمقراطي. الآن، مع بداية القرن الحادي والعشرين، حدث العكس: صار الحزب الجمهوري هو الأبعد من السود، وصار الحزب الديمقراطي هو الأقرب إليهم. لكن، لهذا السبب نفسه، تحولت الولايات الجنوبية من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري.
قال حاكم ولاية ميسيسيبي: «يجب عدم السكوت عن المظاهرات القبيحة (مظاهرات السود) ضد الشرطة». وعلى الوتيرة نفسها، نشرت صحيفة «ويكلي ستاندارد» اليمينية موضوع غلاف عنوانه: «نو لو، نو أوردر» (لا قانون، لا نظام). يشير هذا إلى الشعار التقليدي «لو آند أور» (القانون والنظام). ويشير إلى أن السود الذين يسرقون (مثل براون في فيرغسون)، والذين يرفضون أوامر الشرطة باعتقالهم (مثل غارنر في نيويورك)، هم الذين يتحملون المسؤولية.
وكتبت الصحيفة: «إذا لم يسرق براون، ما كانت الشرطة ستتعقبه، وإذا لم يقاوم غارنر، ما كانت الشرطة ستستعمل القوة معه. أضف إلى هذا أن براون كان سرق من محل لبيع الخمور، وأن غارنر كان يبيع سجائر في الشارع خرقا للقانون. الذي يخرق القانون لا يلوم إلا نفسه».

* لاعبو كرة القدم
* كتب ريتشارد كوهين أن مظاهرات السود (وبعض البيض المؤيدين لهم)، التي ظلت مستمرة من الصيف، منذ أن قتل شرطي أبيض الشاب الأسود براون في فيرغسون، ربما وراء زيادة غضب بعض السود، وزاد غضب السود حتى وصل إلى قتل شرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي. لا يوجد دليل مباشر، لكن، الحقيقة هي أن المظاهرات المستمرة، والاشتباكات مع الشرطة، زادت التوتر.
مثل الذي حدث في مدينتي بيركلي وأوكلاند (ولاية كاليفورنيا)..حطم بعض المتظاهرين واجهات المتاجر، ونهبوا عددا من المحلات التجارية.
واعتقلت الشرطة عددا من المتظاهرين، وقطع المحتجون طريقا سريعا رئيسيا، وألقوا زجاجات، وقلبوا صناديق النفايات وأحرقوها. استمرت هذه المظاهرات لأيام، وتطورت أكثر عندما استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع.
وانطلقت مظاهرات واشتباكات مماثلة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ورفع المتظاهرون لافتات تقول: «شرطة قتلة»، و«فيرغسون في كل مكان»، و«أوقفوا عنف الشرطة». غير أن أكثر شعار يقال إنه ساهم في زيادة العنف، خصوصا قتل الشرطيين في نيويورك في الأسبوع الماضي، هو: «ماذا نريد؟»، ويردد المتظاهرون: «مواجهة الشرطة؟» و«متى نريد ذلك؟» ويردد المتظاهرون «الآن».
وانضم نجوم رياضيون سود إلى الحملة، وارتدى بعضهم قمصانا مكتوبا عليها: «لا أستطيع التنفس» (الكلمات الأخيرة التي يقال إن غارنر قالها بينما كان الشرطي يلقيه أرضا، ويمسكه من رقبته).

* عودة إلى فيرغسون
* من المفارقات أن ما حدث في نيويورك، والمظاهرات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، أعادت التوتر في فيرغسون، حيث كان الحادث الأول في الصيف الماضي. ونقل تلفزيون «سي إن إن» (ظل يعسكر هناك منذ الصيف، وكأنه يعرف أن التوتر سيعود) مناظر جديدة لمظاهرات واشتباكات مع الشرطة.
وقال بنجامين كرمب، محامي عائلة براون، إن العائلة لا تريد أعمال عنف جديدة. بينما أكد شهود تعرض محل لبيع المشروبات الكحولية للنهب
) وهو المحل نفسه الذي قالت الشرطة إن براون كان دخله لسرقة سجائر منه، مما دفع الضابط ويسلون إلى إطلاق النار عليه، في الصيف الماضي).
ورمى عدد من المتظاهرين الحجارة على رجال الشرطة، وسمعت طلقات نارية، وأُضرمت النار في سيارة تابعة للشرطة.
في فيرغسون، كان الشرطي ويسلون أطلق النار على براون في أغسطس (آب) الماضي. وبعد 3 شهور، قررت هيئة المحلفين عدم توجيه اتهامات إلى الشرطي. في ذلك الوقت، عادت المظاهرات والاشتباكات إلى فيرغسون.. ثم، في الأسبوع الماضي، عادت مرة ثالثة بعد ما حدث في نيويورك.

* التكنولوجيا
* حسب رأي ريتشارد كوهين، وهو رأي معتدل، «لا أنتقد السود، ولا أنتقد البيض»، لعبت التكنولوجيا دورا في تسخين المواجهات، خصوصا انتشار الصور والفيديوهات في المواقع الاجتماعية:
أولا: صورة براون في فيرغسون، ملقى على الأرض (قيل إنه ظل كذلك 3 ساعات).
ثانيا: فيديو شرطة فيرغسون في ملابس عسكرية ومعدات «حرب الإرهاب» (منذ سنوات، يهدي البنتاغون شرطة الولايات معدات عسكرية).
ثالثا: فيديو قتل غارنر، حيث يمسك الشرطي به من رقبته لطرحه أرضا، وهو يصيح بأنه لا يقدر على التنفس.
رابعا: فيديو أوباما وهو يقول: «غالبا، يعتقد الناس أن البعض يعاملون بإنصاف. في بعض الحالات يكون هناك سوء فهم. لكنه أحيانا الواقع». قال كثير من البيض في المواقع الاجتماعية إن هذا كلام دبلوماسي يؤيد فيه أوباما «إخوانه».

* عمدة نيويورك
* وإذ حمل بعض البيض أوباما مسؤولية ما حدث (لأنه الرئيس، ولأنه أسود، ولأن تصريحاته فيها غمز ولمز)، حملوا عمدة نيويورك المسؤولية أيضا، عندما بدأت المظاهرات بعد تبرئة قاتل غارنر، وقال العمدة، بيل دي بلازيو: «إنه يوم مؤثر ومؤلم جدا للمدينة. لا بد من إيجاد سبيل للمضي قدما». ومثل تصريحات أوباما، فهم بعض الناس أنه يدافع عن غارنر، ويعارض الشرطة، شرطة المدينة التي تعمل تحت أوامره، وتساعده على حفظ النظام.
وأشار بعض الناس إلى أن زوجته سوداء، وأنها من قادة النشطاء السود في المدينة. وأشاروا إلى قول العمدة عن ابنه الأسود بأنه دائما يحذره.. «على مدى سنوات، من المخاطر التي يمكن أن يواجهها». وكان يمكن أن يحذره من ألا يخرق القانون، أي إن العمدة نوه بعداء الشرطة، ولم يركز على أهمية إطاعة القانون.
وهكذا، تحول حادثان مؤسفان، قتل فيهما صبيان، إلى سلسلة مواجهات تاريخية بين البيض والسود.. هي تاريخ الولايات المتحدة من قبل أن تكون هناك الولايات المتحدة. اليوم، توجد مواجهتان: علنية (وهذه يمكن أن تهدأ)، وخفية (وهذه ربما لن تنتهي).



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».