«الشرق الأوسط» في مهرجان «فنيسيا الدولي» (6): صُوَر فلسطينية ـ إسرائيلية صغيرة لقضايا كبيرة

فيلمان من طرفي النزاع.. كلاهما يعمد إلى البئر نفسه حتى ولو كان لكل منهما موضوعه المختلف

سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»
سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «فنيسيا الدولي» (6): صُوَر فلسطينية ـ إسرائيلية صغيرة لقضايا كبيرة

سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»
سليم ضو وهيام عباس في «غزة مونامور»

من الطبيعي أن يمسك كل مخرج بالصورة ذاتها لكن من الجانب الذي يراه مناسباً له. الصورة لا تتغير كواقع، لكن وجهات النظر تتباين كون الصورة ذاتها تستطيع أن تعني شيئاً محدداً ومختلفاً لكل من يتعامل معها.
تحدّث المخرج الفرنسي جان - لوك غودار حول هذا الوضع في مشهد من أحد أفلامه السابقة عندما أمسك بصورة لمركب محمّل بمهاجرين فلسطينيين، وهو على أهبة الإبحار شمالاً صوب لبنان خلال النزوح الكبير سنة 1948 وبصورة أخرى لمركب محمل بمهاجرين يهود وصلوا إلى الساحل الفلسطيني ذاته. غاية المخرج القول إن قوماً خلفوا قوماً آخرين بذلك تكمل كل صورة الأخرى.
في دورة مهرجان فينيسيا الـ77 وجود لهاتين الصورتين: فيلم فلسطيني عنوانه «غزة مونامور» وفيلم إسرائيلي عنوانه «ليلى في حيفا». كلاهما يعمدان إلى البئر نفسه حتى ولو كان لكل منهما موضوعه المختلف عن الآخر.
- تمثال برونزي
«غزة مونامور» [على وقع فيلم آلان رينيه «هيروشيما، مونامور» (1959) وفيلم فياشليساف روس «سايبيريا، مونامور» (2011)]، الفيلم الروائي الجديد من المخرجين الفلسطينيين عرب وطارزان ناصر اللذان كانا عرضا فيلمهما الروائي الأول «مرمى التدريب» في مهرجان «كان» سنة 2015. أحداث ذلك الفيلم وقعت في غزة حول مجموعة من النساء حوصرن في صالون للسيدات عندما بدأت الجولة الأخيرة من القتال بين القطاع وإسرائيل.
الفيلم الجديد ما زال يتّخذ من غزة موقعاً لسرد حكايته، لكن الموضوع الماثل يشغله الرجل في المقام الأول. رجل ليس غريباً عن المخرجين الشقيقين كونهما يتحدّثان (بطريقة أو بأخرى) عن أبيهما عيسى ناصر. والمشاهد لا يدري ذلك سريعاً. يلاحظ قربهما من تلك الشخصية لكنه لن يكتشف أنهما يتحدّثان عن أبيهما إلا عندما ينطلق عيسى (يؤديه سليم ضو) باسمه كاملاً في مشهد بعد بداية النصف الثاني من الفيلم.
عيسى رجل جاوز سن الشباب يعيش وحيداً يلجأ إلى البحر على مركبه حيث يصطاد السمك ويبيعه. ذات يوم يعلق تمثال برونزي في شباكه. يخبئه في سيّارته ويعود به إلى منزله حيث يضعه في الخزانة (في فينيسيا أيضاً شاهدنا الفيلم البريطاني «الدوق» حول رجل في العمر ذاته يخفي لوحة مسروقة في خزانة منزله). حين يُكتشف الأمر، وبحضور نساء كانت شقيقته جاءت بهن ليختار منهن زوجة له، يداهم البوليس الفلسطيني منزله ويكتشف التمثال ويسوقهما (هو والتمثال) إلى التحقيق.
يخصص المخرجان فصلاً لدرس طبيعة الضابط الفلسطيني الذي آل إليه التحقيق، ينتقد نموذجاً سلطوياً متداولاً هدفه إثبات تهمة ما على الصياد وإضافة «انتصار» آخر لمنجزاته الصغيرة. الأخوان ناصر يرسمان صورة كاريكاتيرية إنما واقعية وينسجان موقفاً من المسؤولين الذين لا يفعلون شيئاً حيال مشاكل الناس، بل يضيفون فوقها.
حال خروجه من المعتقل بريئاً من كل ذنب سوى أنه أخفى ثروة يحتار المسؤولين في تحديد قيمتها المادية في خزانته، يعود عيسى لهمّه الأول وهو حبه لأرملة (هيام عبّاس) تعمل خياطة في محل ملابس وأقمشة. يدبّر لنفسه صعود سيارة أجرة معها صوب عملهما في السوق. يخبرها عن مجموعة من السراويل التي تحتاج إلى تقصير ثم يزورها لاحقاً لتسليم تلك السراويل ثم مرّة أخرى لتسلمها ليجد أنها قصّت ما يجعل كل سروال أقصر مما كان مطلوباً. يُثير ذلك ضحكها (وضحك المشاهدين) لكنه لن يهتم. هو يحبها ويحاول جهده إعلامها بذلك لكنه يخجل من البوح صراحة.
الفيلم كوميديا سوداء تقع أحداثها في غزة اليوم. هذه الحقيقة تخالف اعتبار أن المخرجين إنما يسردان سيرة والدهما، كونهما راشدين اليوم، مما يعني أن والدهما لا بد أنه كان في أربعينات حياته عندما تزوّج وأنجب. كذلك لأن الأحداث تقع اليوم وليس على أيام والدهما الراحل. لكن ما ينجح الفيلم فيه هو تأطير المشكلة الخاصة التي يعرضها داخل مخاطر الحياة الغزّاوية: من ناحية لدينا المسلمون المتشددون، ومن ناحية أخرى هناك «حماس» وقبضتها السلطوية، ومن جهة المسؤولين المهيمنين، ومن ناحية رابعة هناك القذائف الإسرائيلية التي تُلقى على القطاع في أي وقت ومن دون إنذار.
وحدة عيسى العاطفية (لحين قراره بأن يتقرّب من الأرملة) تعكس وحدة أكبر في مجتمع خرج عن مسارات واعدة ودخل في زقاق من السعي للبقاء حيّاً رغم الظروف. لكن «غزة مونامور» يبتعد تماماً عن الإدلاء بحوار سياسي يكوّن خطابه ذاك. يلحظ ويعرض مكتفياً بذلك القدر وحسناً ما يفعل.
هناك ضعف في المعالجة. لا هو واقعي كفاية ولا فانتازي كفاية ولا كوميدي كفاية أيضاً. بذلك لا يجتاز المسافة كاملة في أي اتجاه فيتوقف عند حد دون سقف الطموحات التي كان ينشدها.
- أمّا في حيفا
في حين تم عرض «غزة مونامور» في مسابقة «آفاق» دخل الفيلم الإسرائيلي «ليلى في حيفا» لعاموس غيتاي مسابقة الفيلم الروائي. يستعرض المخرج ذي التاريخ المعروف الذي تناول فيه مسائل العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين جنباً إلى جنب، البحث عن هوية متبادلة لكل منهما، عدة شخصيات في ليلة واحدة داخل ملهى (اسمه فتّوش) يؤمه فلسطينيون وإسرائيليون حيث يشعرون هناك بحرية الانسجام وسواسية العلاقات. هناك المصوّر الفوتوغرافي غيل (تساحي هاليفي) الذي يحضر معرضاً أقيم له في قاعة ملحقة بالملهى وهو على علاقة بفلسطينية اسمها ليلى (ماريا زريق) متزوّجة من فلسطيني يكبرها سناً (مكرم خوري). حسب الفيلم، يملك الزوج نصف حيفا لكنه لا يملك قلب زوجته.
على أن الفيلم لا يدور في رحى هذا الثلاثي من الشخصيات، بل ينتقل بين شخصيات أخرى تؤم الملهى ذاته من بينها شخصية ثائرة سياسية فلسطينية وشخصية امرأة يهودية تعترف لها بقضيتها لكنها تعتبر الماضي قد انتهى وعلى الشعبين أن يتعايشا. المخرج لا ينتظر أن تبوح شخصيات الفيلم بذلك التعايش، بل يعرضه ويوحي به، معتبراً أن الملهى يستطيع أن يكون نموذجاً للعلاقة خارجه. هذا قبل انتقال المخرج إلى شخصيات عربية وغير عربية تتحدث وترقص.
بصرف النظر عن موقف غيتاي ورغبته، يخفق الفيلم في تحميله غاياته. يبدو ساذج الطرح ومحصوراً في نيّاته وهو بالتأكيد ليس على مستوى أفلام مميّزة سابقة له.
باستثناء مكرم خوري، فإن التمثيل من العرب واليهود يبدو أقرب إلى التمارين المسرحية. بلا حياة ولا حيوية ولا ينقص الممثلين سوى حمل الحوار مكتوباً على ورق وقراءته.


مقالات ذات صلة

«الست»... جدل «سوشيالي» وإشادات نقدية بعد عرضه بمصر

يوميات الشرق منى زكي جسَّدت دور أم كلثوم (الشركة المنتجة)

«الست»... جدل «سوشيالي» وإشادات نقدية بعد عرضه بمصر

يكشف فيلم «الست» صورة واقعية لأم كلثوم بما لها وما عليها، مقدّماً سيرة فنية وإنسانية حظيت بإشادات واسعة بعد عرضها.

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق لقطة من فيلم «فلسطين 36» (مهرجان البحر الأحمر السينمائي)

«اللي باقي منك» و«فلسطين 36»... ذاكرة بصرية لـ«وعد بلفور» و«النكبة»

يُشدِّد فيلما «اللي باقي منك» و«فلسطين 36» على أهمية استعادة الذاكرة الفلسطينية وتوثيق تاريخها في مواجهة محاولات التزييف.

انتصار دردير (جدة)
سينما اللاعب المعتزل سعيد العويران في مشهد من الفيلم برفقة محمد الدوخي (نتفليكس)

الفيلم السعودي «رهين»... كوميديا البطل المأزوم

امتلأت القاعة الرئيسية في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» قبل بدء عرض الفيلم السعودي «رهين» بنحو نصف ساعة.

إيمان الخطاف (جدة)
سينما صورة من الفيلم لمنصور رشيد الكيخيا إلى جانب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي

«بابا والقذافي»… رحلة بحث عائلية تحول الصمت إلى جائزة دولية

تنطلق جيهان الكيخيا في فيلمها من سؤال طفولي ظلّ يلاحقها منذ السادسة من عمرها: «أين ذهب أبي؟»، والدها هو منصور رشيد الكيخيا، وزير خارجية ليبيا الأسبق.

كوثر وكيل (لندن)
يوميات الشرق ساعة يد من مجموعة مقتنيات كوبولا (الموقع الرسمي لدار مزادات فيليبس)

بيع ساعة يد للمخرج فرانسيس كوبولا بـ10.8مليون دولار في مزاد

بيعت ساعة يد من مجموعة مقتنيات المخرج السينمائي الأميركي فرانسيس فورد كوبولا بسعر قياسي في مزاد أُقيم في نيويورك، حسبما قالت دار مزادات «فيليبس».

«الشرق الأوسط» (نيويورك )

الفيلم السعودي «رهين»... كوميديا البطل المأزوم

اللاعب المعتزل سعيد العويران في مشهد من الفيلم برفقة محمد الدوخي (نتفليكس)
اللاعب المعتزل سعيد العويران في مشهد من الفيلم برفقة محمد الدوخي (نتفليكس)
TT

الفيلم السعودي «رهين»... كوميديا البطل المأزوم

اللاعب المعتزل سعيد العويران في مشهد من الفيلم برفقة محمد الدوخي (نتفليكس)
اللاعب المعتزل سعيد العويران في مشهد من الفيلم برفقة محمد الدوخي (نتفليكس)

امتلأت القاعة الرئيسية في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» قبل بدء عرض الفيلم السعودي «رهين» بنحو نصف ساعة، ليس لأن الفيلم يَعِد بفرجة كوميدية فحسب، بل لأنه ينتمي إلى سلسلة أعمال شكّلت جزءاً من ملامح السينما السعودية الجديدة، وكانت الطاقة في الصالة مليئة بالحيوية؛ ضحكات مبكرة، وانتظار يقظ، وتوقعات عالية، ليظهر «رهين» فيلماً ضمن ما يمكن تسميته كوميديا البطل المأزوم؛ حيث الضحك يأتي من طريقة الشخصية الرئيسية في التعامل مع الورطة.

الكوميديا في «رهين» تعتمد على ارتباك البطل وتخبّطه، ومن المفارقات اليومية التي تولد من سوء التقدير وضيق الخيارات، ومن هنا يأتي الفيلم بوصفه إضافة جديدة لنهج سينمائي تعمل عليه «تلفاز 11» في السنوات الأخيرة؛ نهج يقوم على صياغة قصص اجتماعية صغيرة بحس كوميدي خفيف، ومعالجة محلية، وشخصيات مألوفة، في محاولة لجعل السينما السعودية أكثر التصاقاً بالواقع المَعِيش.

في «رهين» تتضح هذه الكيفية بوضوح، فلا توجد صراعات ضخمة، بل شخصية مأزومة تُحاول أن تتدبّر حياتها، ومع كل خطوة تزداد الورطة عمقاً وتعقيداً، ما يجعل الفيلم الذي يأتي من إخراج أمين الأخنش، وإنتاج عبد الله عرابي، والمنتظر عرضه على منصة «نتفليكس» نهاية هذا الأسبوع، مليئاً بالمواقف الطريفة والشخصيات المضطربة.

الظهور بالقناع الساخر جاء في أول مشاهد الفيلم (المهرجان)

سطّام... شخصية تولد من القلق

الشخصية الرئيسية في الفيلم «سطام» يؤديها الممثل محمد الدوخي بطبقة خفيفة من السخرية الذاتية، لقصة شاب يعيش على حافة اليأس: ديون تتراكم، ومشروعات لا تنجح، وعلاقات عائلية لا تمنحه التقدير، ونظرة داخلية محبطة تجاه ذاته... هذه الخلفية تجعل أي خطوة يخطوها محمّلة بمزيج من الاندفاع والخوف، ومن هنا تنشأ فكرة الفيلم؛ حيث يخطط سطام لخطف والده وطلب فدية من أسرته لإنقاذ نفسه من الغرق.

يحوّل «رهين» هذا الموقف إلى مساحة رمادية من الضحك والتوتّر، والضحك هنا ليس على الحدث، بل على ارتباك سطّام وهو يحاول إدارة خطة لم يتقنها، ولا يملك أدوات تنفيذها، وهذا الارتباك هو الجوهر الدرامي للفيلم، وهو ما يجعل الشخصية أقرب إلى نموذج الرجل الذي لا يُقصد أن يكون مضحكاً، لكنه يصبح كذلك بسبب هشاشته.

محمد الدوخي بطل الفيلم (المهرجان)

بين «رهين» و«مندوب الليل»

ولا يمكن تجاهل التشابه بين سطّام في «رهين» وفهد في فيلم «مندوب الليل»، وكلاهما أداه محمد الدوخي، وفي الفيلمين يرى الجمهور بطلاً يعيش على هامش المجتمع، ويشعر بأنه غير مقدَّر بما يكفي من أسرته، ويعاني علاقة مضطربة مع الأب، ويواجه حاجة مالية حادة، ويتجه إلى طرق غير مشروعة لكسب المال.

وتبدو هذه التشابهات لافتة لمن يشاهد العملين، صحيح أن فهد كان يعيش عالماً سوداوياً أكثر واقعية وقسوة، في حين سطّام يعيش في عالم رمادي، لكن هذا التقاطع بين الشخصيتين يكشف عن أن السينما السعودية تتجه نحو تقديم نماذج بشرية حقيقية، عبر شخصيات عادية لا تملك حلولاً مثالية ولا قدرات بطولية على النجاة، للتعبير عن الضغوط التي يعيشها الإنسان في واقعه اليومي.

وربما الاختلاف بين العملين يكمن في أن «مندوب الليل» يذهب إلى منطقة الألم، في حين «رهين» يذهب إلى منطقة السخرية، وبينهما، يتنقّل الدوخي في مساحة فنية تثري شخصيته بصفته ممثلاً قادراً على تحويل الانكسار إلى مادة سردية.

محمد الدوخي ويزيد المجيول في مشهد من الفيلم (تصوير: إيمان الخطاف)

سعيد العويران... حضور لافت

إحدى مفاجآت الفيلم هي ظهور اللاعب السعودي المعتزل سعيد العويران في دور الشرير «أبو عاتق»، الذي يطارد سطّام لتحصيل أمواله، صحيح أن انتقال الرياضيين إلى التمثيل ليس أمراً جديداً عالمياً، لكنه في سياق السينما السعودية لا يزال خطوة غير مألوفة، وهذا ما منح ظهوره عنصراً إضافياً من الفضول، حيث حياه الجمهور بحرارة قبيل بدء العرض، وقدّم العويران في الفيلم أداءً متماسكاً في ظهوره المحدود، خاصة أن الدور لا يتطلب تعقيداً نفسياً كبيراً، لكنه أعطى الفيلم نكهة مختلفة.

العرض الأول لفيلم «رهين» حظي باهتمام جماهيري كبير (تصوير: إيمان الخطاف)

شخصيات متناقضة... ساخرة

ومقابل ارتباك سطّام وتخوفه من تهديدات أبو عاتق، يُقدم يزيد المجيول شخصية الصديق الداعم «يعقوب»، التي تُشبه الأداء الذي يعرفه الجمهور عن المجيول؛ حيث يمزج بين التعليقات المضحكة والسخرية الهادئة، في نبرة داعمة لا تتغوّل على البطل سطام، بل تُساعد في ضبط الإيقاع، ومثّل وجود يعقوب في القصة صمام الأمان لضمان تماسك سطام من الضغوط التي تعصف به.

كما جسّد الممثل عبد العزيز السكيرين دور الأب «سليمان»، الذي نبذ سطام لأنه خذله، ما أوجد دافعاً قوياً لدى سطام لانتزاع المال من والده بشكل قسري. ولأن السكيرين اسم قديم وقدير في الدراما السعودية، تمكّن من تقديم الدور بأريحية عالية وأداء يألفه الجمهور، مستفيداً من خبرته الطويلة في تجسيد دور الأب الحازم، صاحب الانفعالات غير المتوقعة، والمواقف التي تُربك العائلة من حوله.

فريق «رهين» على السجادة الحمراء ليلة عرض الفيلم (المهرجان)

ضحك من داخل المأزق

ولا يعتمد «رهين» على الكوميديا التقليدية، بل يشتغل على شخصية واحدة لتوليد السرد، بحيث تتدفق الأحداث من داخل الشخصية، لا من حبكة خارجية، بما يجعل الفيلم محكوماً بسطام؛ فلو لم يكن شخصية قابلة للحمل الدرامي لانهار البناء، وهنا جاء دور الدوخي في إبقاء الشخصية حية ومتحركة، حتى في لحظات الارتباك البطيء.

كما يأتي «رهين» في إطار موجة سعودية تتشكل تدريجياً، قوامها القصص القصيرة، والشخصيات المأزومة، وعالم محلي واضح، وحس كوميدي يميل إلى الواقعية، وموضوعات تتعلق بالبحث عن الذات، وسرد لا يُبالغ في الدراما ولا في الكوميديا. ومع اقتراب عرضه على منصة «نتفليكس»، سيكتشف جمهور أوسع هذا النوع من السرد الجديد في السينما السعودية.


«بابا والقذافي»… فيلم ينبش الذاكرة الليبية ويستعيد أبا غيبته العتمة

صورة من الفيلم لمنصور رشيد الكيخيا إلى جانب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي
صورة من الفيلم لمنصور رشيد الكيخيا إلى جانب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي
TT

«بابا والقذافي»… فيلم ينبش الذاكرة الليبية ويستعيد أبا غيبته العتمة

صورة من الفيلم لمنصور رشيد الكيخيا إلى جانب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي
صورة من الفيلم لمنصور رشيد الكيخيا إلى جانب الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي

في موسم سينمائي يزدحم بالأعمال التي تحاول إعادة ترتيب العلاقة بين الذاكرة العربية والاضطرابات السياسية، يطلّ فيلم «بابا والقذافي» بوصفه أحد أبرز الأصوات الجديدة التي وجدت طريقها إلى الضوء. فمنذ عرضه الأول، أخذ الفيلم الوثائقي يحصد جوائز رفيعة في عدد من المهرجانات الدولية، من البندقية إلى الدوحة وصولاً إلى مراكش حيث توج مساء أمس بجائزة لجنة التحكيم، ليشكّل حالة فنية تستحق التوقّف والتأمل.

برز فيلم «بابا والقذافي» للمخرجة الليبية الأمريكية جيهان الكيخيا كواحد من أبرز الأعمال الوثائقية العربية خلال عام 2025؛ عمل يتجاوز السياسة ليغدو شهادة إنسانية على غياب الأب، وعلى علاقة الابنة بوطن مُشرّد.

صورة لفيلم «بابا والقذافي»

9 سنوات من الإنتاج... وصبر على الحكاية

وراء الفيلم رحلة إنتاج بدأت قبل نحو عقد؛ فالمخرجة التي أسست شركة Desert Power جمعت على مدى سنوات مواد أرشيفية نادرة، وبعضها لم يكن متاحاً من قبل.

العمل على الفيلم الوثائقي بين التصوير في خمس دول، والبحث في ملفات دولية، والوصول إلى شهادات دقيقة جعل المشروع واحداً من أكثر الوثائقيات العربية تعقيداً من حيث التوثيق والاشتغال الزمني.

في هذا الفيلم لا تروي جيهان قصة سياسية فحسب، بل تستعيد والدها منصور رشيد الكيخيا، وزير الخارجية الليبي الأسبق وسفيرها لدى الأمم المتحدة والمعارض السلمي، الذي اختفى عام 1993.

قصة الفيلم: ذاكرة ضائعة تُستعاد

يبدأ الفيلم من تلك اللحظة الفارقة: زيارة رسمية لوالدها لحضور لقاء حقوقي، قبل أن يختفي بلا أثر في العاشر من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 1993. ومن هنا تنطلق رحلة البحث التي قادتها والدتها، الفنانة السورية بهاء العمري، بين عواصم عالمية وملفات وأبواب موصدة.

سنوات طويلة تلاحق فيها العائلة خيوطاً غير مكتملة، وتواجه جداراً من الصمت، قبل أن تكشف أحداث ما بعد سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011 الحقيقة المرة: العثور على جثمان الكيخيا مجمداً داخل فيلا أمنية بالقرب من مقر إقامة القذافي؛ صورة صادمة تكثف مأساة الظل الذي أحاط بالقضية لعقود.

منصور الكيخيا من أشهر المعارضين لنظام القذافي (الشركة المنتجة)

إخراج في خدمة المشاعر والذاكرة

تبني جيهان فيلمها الوثائقي كابنة تسعى لترميم ذاكرتها، لا كطرف في مواجهة سياسية. تظهر أمام الكاميرا بشفافية، تُقارب الحكاية بحدس إنساني، وتعيد تركيب شظايا الماضي عبر أرشيف واسع وشهادات تتجاوز ستين شخصية من السياسيين والحقوقيين وأصدقاء والدها، في فيلم يوازن بين الوثيقة والتحقيق، وبين الحميمي والعام، وبين ما يمكن قوله وما تبقى طيّ الكتمان.

تختار جيهان الكيخيا زاوية سرد إنسانية، تبدأ من فقدان الطفولة لتتشابك مع تاريخ وطنها، مما يجعله أقرب إلى مذكرات صوتية بصرية منه إلى تحقيق سياسي بحت.

صورة من الفيلم لمنصور رشيد الكيخيا وزير الخارجية الليبي الأسبق وسفيرها لدى الأمم المتحدة

السرد السينمائي بلقطاته المؤلمة والناعمة في آن واحد يحوّل الفيلم إلى رحلة نضج، رحلة ابنة تبحث عن معنى العدالة، وعن والد كان حاضراً رغم غيابه. ولا يكتفي العمل باستعادة السيرة، بل يضع المشاهد أمام الوجع الحقيقي لسنوات الانتظار، وأمام هشاشة الذاكرة حين تُحرم من الحقيقة.

جوائز دولية وتقدير نقدي

هذا العمق الإنساني تُرجم إلى احتفاء دولي لافت. فقد تُوّج «بابا والقذافي» بجائزة أفضل فيلم وثائقي ضمن المسابقة الدولية للأفلام الطويلة في مهرجان الدوحة السينمائي 2025، في تكريم عكس قوة الحكاية وقدرتها على تجاوز حدودها المحلية.

كما نال جائزة لجنة التحكيم في مهرجان مراكش السينمائي مساء أمس السبت 6 ديسمبر تقديراً لفرادته السردية، ولفلسفته التي تجعل من الألم الشخصي نافذةً على تاريخ بلد بأكمله.

أما مشاركته في مهرجان البندقية خارج المسابقة، فقد مثلت عودة مهمّة لصوت سينمائي ليبي إلى واحدة من أهم منصّات العالم وإلى السجاد الأحمر الأوروبي بعد غياب سنوات، مؤكدة أن الحكايات الصادقة مهما طال الطريق إليها تجد دائماً طريقها إلى الضوء.

في ختام الفيلم، حين تتحدث جيهان عن خوفها من أن «يختفي والدها مرّتين» مرة حين اختُطف، ومرة حين يُنسى، يبدو واضحاً أن هذا العمل لم يُصنع بدافع المكاشفة السياسية وحدها، بل بوصفه فعل وفاء، محاولة لإنقاذ ذاكرة رجل من الضياع، ولرأب جرح لم يلتئم بعد. «بابا والقذافي»، ليس مجرد «وثائقي» عادي؛ إنه وثيقة إنسانية مكتوبة بصبر الابنة جيهان، بالسؤال، وبشجاعة مواجهة الماضي.


«البحر الأحمر» يكشف عن أفلام سعودية جديدة

«ما بقي منك» لشيرين دعيبس (ملف مهرجان البحر الأحمر)
«ما بقي منك» لشيرين دعيبس (ملف مهرجان البحر الأحمر)
TT

«البحر الأحمر» يكشف عن أفلام سعودية جديدة

«ما بقي منك» لشيرين دعيبس (ملف مهرجان البحر الأحمر)
«ما بقي منك» لشيرين دعيبس (ملف مهرجان البحر الأحمر)

افتتح مهرجان «البحر الأحمر» دورته الخامسة، يوم الخميس، بفيلم بريطاني الإنتاج عنوانه «عملاق» (Giant)، ويستمر حتى 13 من الشهر الحالي، كاشفاً عن 139 فيلماً تتوزّع على 13 قسماً، من بينها مسابقات لأفلام طويلة وأخرى قصيرة تهدف إلى نيل جوائز المهرجان الرسمية حال إعلان النتائج في الليلة الأخيرة من الدورة.

«عملاق» اختيار صائب على مستويين: الأول أنّه العرض الثاني فقط عالمياً، إذ سبق لمهرجان «لندن السينمائي» أن كشف عن الفيلم في 18 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. والثاني أنّه فيلم يعجب المشاهدين العرب كونه يتحدّث عن ملاكم من أصول يمنية نشأ في بريطانيا، وما مرّ به من معاناة منذ صباه ليصبح بطلاً عالمياً في الملاكمة معروفاً باسم «ذَ برنس». كون الحكاية حقيقية وليست مؤلَّفة، والشخصية مسلمة وممثلها (أمير المصري) كذلك، وكون الفيلم يتحدّث إيجابياً عن عربي شقّ طريقه من القاع إلى القمّة، كفيل بأن يحقّق بين الحاضرين اهتماماً كبيراً، إن لم يكن إعجاباً أيضاً.

أمير المصري في «عملاق» (ملف مهرجان البحر الأحمر)

قسم سعودي خاص

لكن باقي الأفلام المنتخبة لا تقلّ إثارة للاهتمام، وهي موزّعة على الأقسام الثلاثة عشر على النحو التالي: 18 فيلماً في المسابقة الدولية، 12 فيلماً في قسم «اختيارات عالمية»، 5 أفلام في قسم «روائع عربية»، و46 فيلماً قصيراً من بينها 22 فيلماً سعودياً و24 في مسابقة عالمية.

هناك 10 أفلام في قسم «رؤى البحر الأحمر»، و3 في «السينما العائلية» (بينها فيلمان كرتونيان).

الأفلام السعودية الطويلة لها قسم خاص مؤلّف من 5 أفلام جديدة هي: «رأيت رسم الرمال» لعبد الله الحمدي، و«دوائر الحياة» لخالد الدسيماني، و«نور» لعمر المقرّي، و«سبع قمم» لأمير الشنّاوي، وفيلم آخر من إنتاج سعودي ناطق بالإنجليزية هو «المدّ البشري» (Human Tide) لديڤيد وورد.

تحت قسم بعنوان «كنوز البحر الأحمر» تطالعنا 6 أفلام، من بينها «عايدة» لأحمد بدرخان (1946). ثم هناك ما يُعرف بـ«عروض خاصة»، وهو عبارة عن فيلمين يشهدان اهتماماً دولياً حالياً، هما «صوت هند رجب» لكوثر بن هنية و«صراط» لأوليڤر لاكس.

تحت اسم «روائع عالمية» 6 أفلام، بينها فيلم الافتتاح. ومنها الفيلم الفرنسي «ساحر الكرملِن» أوليڤييه أساياس، والفيلم السعودي الناطق بالإنجليزية «محاربة الصحراء» (Desert Warrior) لروبرت وايات، ومن بطولة أنطوني ماكي وعائشة هارت وغسان مسعود وبن كينغسلي.

افتتح المهرجان دورته الخامسة أمس بالفيلم البريطاني «عملاق»

إطلالات عربية

بعض هذه الأقسام، مثل مسابقتي الأفلام الطويلة والقصيرة وقسم «الأفلام السعودية» و«روائع عربية»، تتميّز بأن ما تعرضه ينتمي فعلاً إلى عنوانه. لكن هناك أقساماً أخرى كان يمكن الإقلال من عددها، لأن الأفلام التي تعرضها تستطيع التمركز في أقسام شبيهة. على سبيل المثال، ما يتكوّن منه قسم «رؤى البحر الأحمر» لا يختلف كثيراً عن «عروض خاصة» أو «روائع عالمية».

هذه الملاحظة وردت هنا قبل عامين، لكنها ما زالت مطروحة، خصوصاً أنّ الناتج بالنسبة للجمهور هو الالتفاف حول عنوان الفيلم وليس حول القسم الذي يُعرض فيه. وكلما توحّدت العناوين تحت أقسام أقلّ، سَهُل اكتشافها واختيارها.

أما من حيث التنوّع في موضوعات الأفلام، فإن ذلك مؤمّن بالاختيارات التي عملت عليها إدارة المهرجان طويلاً.

فيلم شهد أمين «هجرة» (ملف مهرجان البحر الأحمر)

ولأنّ القضية الفلسطينية بقيت على محكّ الاهتمام العربي والعالمي طوال العام الحالي، فمن الطبيعي أن يستقبل المهرجان السعودي الفيلمين اللذين يقدّمان تعريفاً للعالم بأصول هذه القضية، كما يفعل «فلسطين 36» لآن ماري جاسر المعروض في قسم «روائع عربية»، و«صوت هند رجب» لكوثر بن هنية «عروض خاصة».

هناك فيلم ثالث عن الموضوع الفلسطيني هو «اللي باقي منك» لشيرين دعيبس، الذي يعرض دراما تقع أحداثها في فلسطين ما بين 1948 و2022.

هذا يدلف بنا إلى أفلام عدّة من المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة التي تحفل بأعمال مهمّة.

المخرجة السعودية شهد أمين تودِع المسابقة فيلمها الروائي الطويل الثاني «هجرة»، الذي سبق عرضه في مهرجان «ڤينيسيا».

المخرج العراقي محمد جبارة الداجي يعرض «إكالا حلم كلكامش» في المسابقة الرئيسية، ويشاركه طموح الفوز كلٌّ من اللبنانية سيريل عريس عبر «نجوم الأمل والألم»، والمصري أبو بكر شوقي في «القصص»، و«اللي باقي منك» لشيرين دعيبس (إنتاج مشترك ألماني - قبرصي - فلسطيني)، و«يونان» لأمير فخر الدين، و«غرق» لزين الدريعي (إنتاج سعودي - أردني - قطري - فرنسي مشترك). ومن الصومال فيلم «بارني» الفيلم الروائي الطويل للمخرج محمد شيخ.

أما قسم «روائع عربية»، المشكَّل من 5 أفلام من بينها «فلسطين 36» كما تقدّم، فيعرض 4 أفلام أخرى تستحق الاكتشاف، هي: «المجهولة» لهيفاء المنصور (السعودية)، و«جوازة ولا جنازة» لأميرة دياب (مصر)، و«رهين» لأمين الأخنش، و«مسألة حياة أو موت» لأنس باطهف (والفيلمان سعوديان).