مثقفون يواصلون النقاش حول مصير الشعر الفلسطيني بعد درويش

لم يمت.. وما من شاعر أكبر منه.. والراحل سيظل سيد مشهده

د. عادل الأسطة  -  الشاعر نمر سعدي  -  الناقد إبراهيم جوهر  -  الشاعر غياث المدهون
د. عادل الأسطة - الشاعر نمر سعدي - الناقد إبراهيم جوهر - الشاعر غياث المدهون
TT

مثقفون يواصلون النقاش حول مصير الشعر الفلسطيني بعد درويش

د. عادل الأسطة  -  الشاعر نمر سعدي  -  الناقد إبراهيم جوهر  -  الشاعر غياث المدهون
د. عادل الأسطة - الشاعر نمر سعدي - الناقد إبراهيم جوهر - الشاعر غياث المدهون

طرحت «الشرق الأوسط» قبل أسبوع، سؤالا حول حال الشعر الفلسطيني بعد رحيل محمود درويش ومصيره. وكتب يوسف الشايب ما يلي, فاتحا مسارات للسؤال: «منذ رحيله (درويش)، والجدل على أشده بخصوص مستقبل المشهد الشعري بعده، وهل دخل الشعر الفلسطيني بدفنه في مدينة رام الله، مرحلة سبات قد تطول، لدرجة أن قال بعضهم صراحة: (لقد مات الشعر الفلسطيني بموت درويش). في حين كان آخرون أقل تعصبا، بقولهم إن الشعر الفلسطيني بعد درويش دخل مرحلة (موت سريري). إلا أن ثمة من رأى في الشعر مشهدا تركيبيا لا بداية له ولا نهاية، ولا يرتبط بأشخاص مهما كانوا مؤثرين وشكلوا علامات فارقة، وأن الحديث عن مشهد شعري بأكمله يموت بموت شاعر (فارغ) و(ساذج)».
وتلقت «الشرق الأوسط» ردودا من الشاعرين غسان زقطان وإيهاب بسيسو، ومن الناقد سميح محسن، نشرتها في عددها الصادر بتاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي.
أثار ما نشرته «الشرق الأوسط» جدلا وردود فعل متفاوتة لكن غنية، تلقت الصحيفة بعضها مباشرة، وتابعت بعضها الآخر على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث أعيد نشر المقال.
وفيما يلي جولة أخرى من مداخلات عدد من المثقفين الفلسطينيين تثري النقاش وتوسع دائرته، أسهم فيها، كل من الناقد حسن خضر، والدكتور عادل الأسطة، والشاعر نمر سعدي، والشاعر غياث المدهون، والناقد إبراهيم جوهر، والقاص زياد خداش.

* ما من شاعر أكبر من الشّعر
في مشاركته القيمة في النقاش، كتب د. عادل الأسطة، أستاذ الأدب العربي في جامعة النجاح في نابلس: عبر درويش عن تجارب المقاومة، والتحدي، والثورة، والخيبة - أي الانكسار. وقد تابعت هذا في كتابي «أدب المقاومة من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات». والآن، تمر القضية بمنعطف خطير، وليس ثمة من شاعر يبلورها ويعبّر شعره عنها، كما عبّر درويش عن المراحل التي مرت بها. ربما هناك قصائد، وهناك شعر، بل وثمة شعراء أيضا، ولكنني لم أر واحدا منهم فرض صوته كما فرض درويش صوته. طبعا نحن لا نتابع الشعراء الآخرين متابعتنا لأشعاره، وهذه نقطة يجب أن تؤخذ بالحسبان. هناك شعراء مهمون لا شك: باسم النبريص، ومريد البرغوثي، وأحمد دحبور الذي جنى مقاله على قصيدته، وإن كان مؤخرا نشر قصيدة لافتة أعادتنا إلى صوته الغنائي الأول المميز.
ربما يتساءل المرء: لماذا فرضت أشعار درويش نفسها علينا، ولم تفرض أشعار آخرين نفسها علينا بالمقدار نفسه؟ أنا لا أعرف درويش شخصيا معرفة عميقة. ومعرفتي به عابرة. وأعرف آخرين أكثر مما أعرفه. وأسأل نفسي: لم تابعته هذه المتابعة؟ وأقول: غنائيته، واتكاء قصائده على الموضوع الوطني، وتطويره نفسه، ثم إنه غدا، بحد ذاته، متماثلا مع القضية، وإني لأعجب من كثير من الشعراء ومن قصائدهم التي تشبههم، إذ انسحبوا من الواقع، فانسحب الشعر منهم أيضا. لقد غُبن شاعر مثل باسم النبريص، أما مريد البرغوثي، فبدأ يميل إلى التجريب، ولم ينجح فيما نجح فيه درويش: المزج بين ما هو موضوعي وطني وما هو ذاتي.
يبدو لي سؤال «الواحديّة» هذا، سؤالا عربيّا بامتياز. هل يتساءل التشيليون عن موت الشعر في بلادهم بعد موت نيرودا، أو الفرنسيّون بعد موت إيلوار، أو أراغون، أو المكسيكيون بعد موت باث؟ هل مات الشعر الإنجليزي بعد شكسبير؟ درويش شاعر عظيم متفرد لكن ما من شاعر أكبر من الشّعر نفسه. الشعر لا يموت، لا في فلسطين ولا في غيرها.

* ليسوا في جراب درويش
ونبه الناقد المقدسي، إبراهيم جوهر، من مخاطر أن «يجرنا» فخ «الشخص المعصوم»، مرّة أخرى، إلى شركه المميت. وقال: «إن درويش المتواضع: «لم يطلب منا ما ألزمنا أنفسنا به، فلزمنا ما لا يلزم. لن تقف الحياة بعد درويش، وما أتعسنا لو سمحنا لها بالتوقف، فالشعب الولاد والموهبة المتدفقة يواصلان البحث والكتابة والنشيد. درويش أتاحت له ظروفه المعيشية الخاصة، ما لم تتحه للآخرين من ذوي المواهب التي أسهمت في تشكيل المشهد الشعري الفلسطيني المعاصر. هل مات الشعر بعد درويش؟ وهل مات بعد المتنبي؟ وهل ماتت القضية الفلسطينية بعد عرفات؟».
وتابع جوهر: درويش مدرسة فنية بامتياز، والشعراء من بعده يواصلون القول والنشيد، ويزرعون بساتينهم الخاصة بورودهم التي تحمل بصماتهم الخاصة، وإن اختلطت، أحيانا، ببصمة درويشية. هو صاحب تجربة واستراتيجية فنية ظل وفيا لها، والشعراء من بعده يواصلون درب التعبير الفني. هو كان قد نادى منكرا: ارحمونا من هذا الحب القاسي. واليوم، كأني به يواصل النداء: ارحموني من هذا التقديس القاسي.
التجربة الدرويشية التي ترافقت مع ظرف تاريخي للقضية الفلسطينية السياسية، وتجربة الخروج من الوطن والعمل المباشر مع الثورة الفلسطينية في لبنان، أكسبته خبرة وشهرة وترويجا لم يحظ به غيره من مجايليه (سميح القاسم وتوفيق زياد، وغيرهما مثلا). وكان لذكاء درويش، وموهبته المميزة، ومواظبته على التجديد والتحدي، واشتغاله على لغته ورموزه، وتنقيبه عن الآثار الثقافية التاريخية التي تخدم مشروعه، دور كبير في الإدهاش والانتشار والنقد.
والشعراء الباقون حتى اليوم من الشباب ومن هم أسنّ منهم عمرا وتجربة، لن يكونوا في جراب درويش ولا تحت معطفه. وما أتعسهم لو فعلوا.

* قصيدته رسالة حياة
أما الشاعر نمر سعدي، المقيم في حيفا، الذي شارك في النقاش على «فيسبوك»، فتلقت «الشرق الأوسط» منه، المداخلة التالية: محمود درويش شاعر مذهل بحق. متمرِّس. أحد أجمل الشعراء الكونيين الممسوسين بإيقاع اللغة وجماليات الشعر الصافي. يصعب توصيفه والإلمام بجوانب عبقريته وإيقاع قصيدته وفرادته الشعرية. عاش قديس شعر ومات قديس شعر. كان الشعر يجري في مجرى نفسه وفي دورته الدموية. مَن مِن شعراء اليوم يخلص للشعر مثلما أخلص له درويش؟ من يجعل من القصيدة رسالة حياة؟
أهمية درويش تكمن في العروض، في وقت نجدُ فيه الأغلبية الساحقة من الشعراء العرب، مفتونين بقصيدة النثر التي لا أحاربها ولا أتخذ موقفا منها، فأنا حاولت أن أجرِّب كتابتها في أكثر من قصيدة وديوان. ولكنني أعتقد أنها أفقدت الشعر العربي الكثير من سحرهِ. من يتقن من الشعراء الشباب العروض اليوم؟ شعراء «التيك أوي» والنثريات الضحلة، و«فيسبوك»، والطنين الفارغ، لن يأتوا بمحمود درويش آخر، لأن الشعر لا يشكل لهم رسالة حياة. أنا أراهن على هذا الشيء، لأن الشاعر الحقيقي الموهوب، دائم البحث عن المعادلة الصعبة في كتابة القصيدة، وعن سماوات جديدة للتحليق بعيدا، وعن أرض جديدة لم تحرث. وكل ذلك من دون التخلِّي عن الموروث وجمالياته، وتجديد الإيقاع الشعري للبحور العربية، الذي أعتقد أن شيئا من أهمية محمود يكمن في هذا التجديد، بالإضافة إلى لغتهِ المنتقاة، وأساليب تعبيره اللافتة والجديدة. كيف نريد من شاعر لا يعرف البحور ولا الأوزان أن يكون محمود آخر؟ محمود كان يحثنا على الطيران في سماء الشعر، بينما نحن كنا نريد ملاصقة الأرض.

* ما زال سيد المشهد
واكتفى القاص زياد خداش، المقيم في رام الله، فشارك بفقرة قصيرة لكنها دالة، قائلا: «علينا أن نعترف أن محمود درويش، صاحب موهبة كبيرة جدا، وأنه عبقري بالفعل ولا ذنب له في عبقريته، وليس من المفروض أن يعتذر عنها. شخصيا، لا أذهب الآن إلى الأمسيات الشعرية بذات الحماسة المجنونة التي كانت ترافقني إلى أمسيات محمود. نعم لم يأت حتى الآن، من يشدني إلى المطلق بذلك السحر المحمودي. وهذا لا يعني أنني لا أتمنى أن يأتي، بالعكس، المشهد ناقص جدا من دون عبقريات أخرى، لكن هذا هو الواقع.

* أنا وترانسترومر
ومن استوكهولم، تلقت «الشرق الأوسط» من الشاعر الفلسطيني الشاب، غياث المدهون، المداخلة التالية: القول: إن درويش كان شاعرا فريدا هو كلام سليم، أما أن الشعر الفلسطيني دفن برحيل درويش فهو كلام معيب، وفي الحقيقة، انتقاص من الشعر الفلسطيني الموجود قبل درويش وقبل القضية الفلسطينية أساسا، وهو جزء من الشعر العربي قبل ترسيم الحدود بعد سايكس بيكو. أعتقد أننا لفهم ما الذي أوصلنا إلى طرح سؤال من الصعب مجرد التفكير فيه في لغات أخرى، رغم أن وجود شعراء وفلاسفة وأدباء وموسيقيين وفنانين عباقرة يموتون، يجب علينا أن نعي ذكورية الشعر العربي ككل، ومقاييسه النقدية المرتبطة بالفحولة الشعرية، والعقلية المهزومة التي تبحث عن بطل أو قائد في أي مجال حتى في الشعر، وتفشي ظاهرة الشاعر النجم التي لم يعد لها وجود في أي من اللغات تقريبا، أما المأساة الأساسية فهي العقلية الأبوية التي تحكم علاقات الشعراء أنفسهم، والتراتبية البطريركية التي تتحكم بوسطنا الأدبي. إن أي شخص مضطلع بأمر الشعر، باستطاعته ملاحظة أنه من المستحيل إقامة أمسية شعرية لشعراء عرب من دون أن تكون البطريركية سيدة الموقف. فالمشكلة تبدأ من ترتيب صعود الشعراء إلى المنبر: الشعراء الأقل أهمية في بداية الأمسية وهكذا وصولا إلى الختام مع الشاعر الأهم. أما إعلان الأمسية المطبوع فبالعكس، فالشاعر الأهم يجب أن يُكتب اسمه أولا، ثم تأتي الأسماء الأخرى من الأهم إلى الأقل أهمية. أما المأساة فهي من سوف يقرأ مع من في الأمسية نفسها، وهل هو من مستواه.
من خلال الاطلاع المتواضع والاحتكاك المباشر مع شعراء من العالم، أتاحتهما لي المشاركة في المهرجانات الشعرية، والعمل المباشر مع شعراء من جنسيات مختلفة، بدأت أكتشف أننا أمة فريدة من نوعها. قبل حصول الشاعر السويدي، توماس ترانسترومر، على جائزة نوبل للآداب بسنة واحدة، شاركنا معا في حفل تكريم الشاعر فرج بيرقدار الذي أقامه نادي القلم العالمي في استوكهولم. كنا شاعرين لا غير: شاعر شاب مغمور الذي هو أنا، وترانسترومر. هل يرضى أحد شعرائنا الكبار أن يقرأ شعره بأمسية مشتركة مع شاعر شاب؟ هذا إن كان يقبل أساسا أن يقرأ مع شاعر آخر في أمسية.
الجواب لست متأكدا منه، لكنني متأكد أن الشعر السويدي لن يموت بموت ترانسترومر.



«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل
TT

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

«هوامش على دفتر الثقافة» يحتفي بشعراء الحزن الجميل

في كتابه «هوامش على دفتر الثقافة» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يستعرض الشاعر عزمي عبد الوهاب العديد من قضايا الإبداع والأدب، لكنه يفرد مساحة مميزة لمسألة «الحزن»، وتفاعل الشعراء معها في سياق جمالي إنساني رهيف. ويشير المؤلف إلى أن ظاهرة الحزن لم تعد ترتبط بأسباب عرضية، أو بحدث يهم الشاعر، ويدفعه إلى الحزن كما كان الحال في الشعر العربي القديم.

ومن بين بواعث الحزن ومظاهره في الشعر قديماً، أن يفقد الشاعر أخاً أو حبيبة، فيدعوه هذا إلى رثاء الفقيد بقصائد تمتلئ بالفقد والأسى، مثل الخنساء في رثاء شقيقها، وأبي ذؤيب الهذلي في رثاء أبنائه، وجرير في رثاء زوجته، وهناك من يشعر بقرب الموت فيرثي نفسه، كما فعل مالك بن الريب، وقد يعاني الشاعر مرضاً، فيعبر عن ألمه.

أما في الشعر الحديث، فيعد الحزن ظاهرة معنوية تدخل في بنية العديد من القصائد، وقد استفاضت نغمتها، حتى صارت تلفت النظر، بل يمكن أن يقال إنها صارت محوراً أساسياً في معظم ما يكتبه الشعراء المعاصرون حتى حاول بعض النقاد البحث في أسباب تعمق تلك الظاهرة في الشعر العربي. ومن أبرزهم دكتور عز الدين إسماعيل الذي يعزو أسباب الظاهرة إلى تنامي الشعور بالذات الفردية بدلاً من الجماعية، وهذا ما يقودنا إلى الحديث عن «اغتراب» الإنسان المبدع؛ إذ يأخذ أشكالاً متعددة، ولعل أقسى أشكال ذلك الاغتراب ما عبر عنه أبو حيان التوحيدي بقوله: «أغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه».

ذكر إسماعيل عدة أسباب للحزن منها تأثر الشاعر العربي الحديث بأحزان الشاعر الأوروبي وبالفنين الروائي والمسرحي، وقد توصل إلى أن أحزان الشاعر مصدرها المعرفة، وكأن شاعرنا الحديث تنقصه أسباب للحزن وبالتالي يعمد إلى استيرادها أوروبياً من شعراء الغرب.

وفي كتابه «حياتي في الشعر» يواجه صلاح عبد الصبور مقولات النقاد حول أنه شاعر حزين، موضحاً أن هؤلاء يصدرون عن وجهة نظر غير فنية، لا تستحق عناء الاهتمام مثل آراء محترفي السياسة أو دعاة الإصلاح الأخلاقي التقليديين. وانبرى عبد الصبور لتفنيد النظريات التي يأتي بها هؤلاء النقاد لمحاكمة الشعر والشاعر قائلاً: «لست شاعراً حزيناً لكني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني ولأني أحمل بين جوانحي، كما قال شيللي، شهوة لإصلاح العالم، وهي القوة الدافعة في حياة الفيلسوف والنبي والشاعر، لأن كلاً منهم يرى النقص فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجهد في أن يرى وسيلة لإصلاحه».

يتحدث الشاعر أيضاً عن قضيتين أثارهما بعض النقاد عن شعره، أولاهما أن حزن هذا الجيل الجديد من الشعراء المعاصرين حزن مقتبس عن الحزن الأوروبي، وبخاصة أحزان اليوميات. وكذلك قولهم إن الشعراء يتحدثون عن مشكلات لم يعانوها على أرض الواقع كمشكلة «غياب التواصل الإنساني» من خلال اللغة، كما تتضح عند يوجين يونيسكو أو «الجدب والانتظار» عند صمويل بيكيت وإليوت، أو «المشكلات الوجودية» عند جان بول سارتر وكامو، وبخاصة «مشكلة الموت والوعي».

وشرح عبد الصبور كيف أن الحزن بالنسبة إليه ليس حالة عارضة، لكنه مزاج عام، قد يعجزه أن يقول إنه حزن لكذا ولكذا، فحياته الخاصة ساذجة، ليست أسوأ ولا أفضل من حياة غيره، لكنه يعتقد عموماً أن الإنسان «حيوان مفكر حزين».

ويضيف عبد الصبور: «الحزن ثمرة التأمل، وهو غير اليأس، بل لعله نقيضه، فاليأس ساكن فاتر، أما الحزن فمتقد، وهو ليس ذلك الضرب من الأنين الفج، إنه وقود عميق وإنساني».

لكن ما سبب الحزن بشكل أكثر تحديداً عن الشاعر صلاح عبد الصبور؟ يؤكد أنه هو نفسه لا يستطيع الإجابة ويقول: «أن أرد هذا الحزن إلى حاجة لم أقضها، أو إلى فقد شخص قريب، أو شقاء طفولة، فذلك ما لا أستطيعه».

ومن أشهر قصائد صلاح عبد الصبور في هذا السياق قصيدة تحمل عنوان «الحزن» يقول في مطلعها:

«يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت

ولم ينر وجهي الصباح»

لقد حاول التحرر فيها من اللغة الشعرية التقليدية عبر لغة يراها أكثر مواءمة للمشهد، لكن كثيرين اعترضوا على تلك اللغة، في حين أنه كان يريد أن يقدم صورة لحياة بائسة ملؤها التكرار والرتابة. ويؤكد الناقد د. جابر عصفور أن السخرية والحزن كلاهما ركيزتان أساسيتان في شعر عبد الصبور، وهو ما جعل عصفور يسأل الأخير في لقاء جمعهما: «لماذا كل هذا الحزن في شعرك؟» فنظر إليه عبد الصبور نظرة بدت كما لو كانت تنطوي على نوع من الرفق به ثم سأله: «وما الذي يفرح في هذا الكون؟».

وتحت عنوان «ظاهرة الحزن في الشعر العربي الحديث»، يوضح الباحث والناقد د. أحمد سيف الدين أن الحزن يشكل ظاهرة لها حضورها وامتدادها في معظم التجارب الشعرية الحديثة، خلافاً لما كان عليه الحال في الشعر العربي القديم. ويميز سيف الدين بين حزن الإنسان العادي وحزن المبدع الذي يتسم بحساسية خاصة، حيث يستطيع أن يحول حزنه وألمه إلى مادة إبداعية.

ويلفت الكتاب إلى أن هناك أسباباً متنوعة للحزن، منها أسباب ذاتية يتعرض لها الشاعر في حياته كالمرض أو الفقر أو الاغتراب. أيضاً هناك أسباب موضوعية تتصل بالواقع العربي، وما فيه من أزمات ومشكلات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن ثم، فالحزن ليس فقط وعاء الشعر، إنما هو أحد أوعية المعرفة الإنسانية في شمولها وعمقها الضارب في التاريخ.