سعى الباحث المصري الدكتور علي بريشة، في كتابه «العالقون في العصور الوسطى... لماذا تقدموا وتخلفنا» إلى تحليل المشهد السياسي والعقلي والاجتماعي لدى الغرب والشرق، وفحص منتجات الحضارة بمعناها الواسع، من أجل استجلاء الأسباب التي تقف وراء تقدم الغرب، وقدرته المستمرة على تطوير آليات تدفع بمجتمعاته لمزيد من الترقي في سلم الحضارة، وتلك التي تكبل الشرق وتمنع أبناءه من تقديم منجزات علمية تدفع مجتمعاتهم خطوة للأمام، وتقيلها من عثراتها.
وقال بريشة في كتابه الذي صدر حديثاً عن «دار ميريت» إن «البوصلة... المطبعة... البارود» مثلت نقطة فارقة في تاريخ البشرية، وحملت حضارة الغرب بعيداً في سباق الحضارات، وجعلته ينطلق ويحلق ويتفوق ويسبق حضارات المشرق بأشواط، رغم أنها اكتشف هذا الثالوث الدافع للتقدم قبل الغرب بقرون، لكنها لم تستفد منه، ولم يؤثر في مسيرتها، ولم يكن له دور فاعل في تطور المجتمعات المشرقية.
إن السباق الحضاري بين الشرق والغرب منذ فجر التاريخ، كان يبدو متوازناً، كما يرى المؤلف، يتفوق المشرق أحياناً، وأحياناً أخرى الغرب، ومرة تتصادم الحضارتان، فينتصر الإسكندر على داريوس في موقعة أسوس، أو تنكسر أشرعة كليوباترا أمام أوكتافيوس في أكتيوم، وفي المقابل يمكن أن يمتد الشرق بحضارته وسيوفه فيجتاح طارق بن زياد «الأندلس»، أو يطرق سليمان القانوني أبواب فيينا. تصيب الشيخوخة حضارات الفراعنة وبلاد النهرين، فيتقدم الإغريق ليحملوا المشعل، وتغرق أوروبا في ظلام العصور الوسطى، فينير ابن سينا وابن رشد والفارابي وتلاميذهم للبشرية طريقها، وقد ظل هذا الوضع يسيطر على المسيرة الإنسانية لقرون، لكن فجأة، وفي مرحلة معينة من التاريخ حول الغرب جناحه إلى طائرة، ثم إلى صاروخ، وضمر جناح الشرق ليبدو مثل عضو منقرض في جسد البشرية، فماذا حدث ليظهر الأمر بين الشرق والغرب على هذا الحال؟
كان هذا هو السؤال المحوري الذي سعى بريشة في كتابه الذي يتكون من خمسة فصول الإجابة عنه، واستقصاء الأمر والبحث في الأسباب التي جعلت السباق الذي استمر آلاف السنين بين المعسكرين يتم حسمه في مائة عام، وفي البداية يقوم الباحث بتحديد الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، كنقطة للفصل بين العصور الوسطى وعصر النهضة من ناحية، وبين مرحلة العصور الحديثة من ناحية أخرى، ويذكر أن البعض يؤرخ للعصور الحديثة بعام 1453، باعتبار أنه العام الذي تم فيه اختراع المطبعة، فيما يشير آخرون إلى عام 1492م باعتباره العام الذي اكتشف فيه كولمبوس أميركا.
ويحلل بريشة في الباب الثاني من الكتاب «الجانب الآخر من المشهد... الثالوث المقدس الذي حكم أوروبا» عدداً من العناصر التي رآها مؤثرة في التقدم الغربي، منها ما يخص الاستقرار السياسي، وإمكانية انتقال السلطة من شخص لآخر، وقال إنها كانت تتم في سياق واحد فقط، وهو أن يكون الحاكم له حق في العرش، ومن الذين يجري في عروقهم الدم الأزرق، لم تكن هناك فرصة لأن يستولي صاحب قوة على عرش ملك بالسيف، مثلما كان يحدث في الشرق في دولة المماليك، أو في إسبانيا في زمن ملوك الطوائف، أو في العصر العباسي في عصر الدويلات.
وذكر الباحث أنه عند النظر إلى عمق العلاقة بين مكونات السلطة داخل المعسكرين الغربي والشرقي، يبدو المشهد مختلفاً قليلاً، فثنائية العمامة والسيف المشرقية نراها في أوروبا ثالوثاً مقدساً هو الصليب والتاج والذهب، وتمثل الأول سلطة الكنيسة والبابا، والثاني تمثله سلطة الإمبراطور الروماني والملوك، أصحاب الدم الأزرق والحق الإلهي في الحكم، أما الثالث فكان يمتلكه الملوك، والكنيسة، وكان حال توفره في يد الأفراد بعيداً عن سلطة الملوك والبابا قادراً على أن يكون لاعباً مستقلاً يؤسس دولاً كاملة، مثلما حدث في الدويلات الإيطالية، عندما أصبح التجار الأغنياء في البندقية وجنوة وفلورنسا وغيرها قادرين على إقامة حكومات خاصة أقرب إلى شركات استثمارية، وكانت أساطيلها يتم تأجيرها في الحملات الصليبية مقابل المال، ولم تكن سلطة التيجان المشاركة فيها ولا البابا قادرين على إجبار البنادقة أو الجنونيين على التعاون إلا بعد دفع إيجار الأساطيل التي تنقل الجنود.
وفي هذه النقطة يضع بريشة يده على خلاف جوهري في علاقة المال بالسلطة بين الجانبين، ويقول: رغم أن بلاد المشرق الإسلامي كانت أكثر ثراءً بشكل عام من بلاد الغرب الأوروبي، إلا أن طبيعة النظام السياسي في بلاد المشارق جعل للمال سلطة محدودة وغير مؤثرة في السياسة الداخلية، فالسلطة المطلقة كانت قادرة على إعادة توزيع الثروة كلما أرادت، وكان الحاكم يستطيع بقوة السيف أن يرفع الضرائب كما يريد، يصادر الأموال والممتلكات إذا غضب، ويمنح الإقطاعيات والأراضي إذا رضي، أما في أوروبا فقد كان التجار الأثرياء قادرين على التصرف بشكل مستقل كسلطة موازية لسلطتي التاج والصليب، وكان حق الملك المطلق في فرض الضرائب مزعجاً للنبلاء يحاولون التملص منه، وليست مصادفة أن يشهد القرن الثالث عشر في إنجلترا ميلاد وثيقة «الماجنا كارتا» (1215م)، وبمقتضاها التزم الملك جون بقواعد تحد من سلطته المطلقة في إعلان الضرائب متى شاء بعد أن ضاق النبلاء بتمويل حروبه وهزائمه.
وتحدث المؤلف في فصل بعنوان «القرن الرابع عشر... نقطة الانفصال» عما سماه «الموت الأسود»؛ ذلك الوباء الذي اجتاح العالم بين عامي «1347 - 1353» وقتل الملايين من سكانه شرقاً وغرباً، وقال إنه أحدث نوعاً من الحراك الاجتماعي في الغرب الأوروبي، ومنح المحظوظين الذين نجوا قدرة على إعادة توزيع الثروة فيما بينهم بشكل أفضل.
وذكر أن الوباء أصاب كل قطاعات المجتمع في أوروبا بما فيها الجيش، وأدى إلى اختراق النخب العسكرية ودفع دماء جديدة لخدمة السيف من أبناء الطبقات الدنيا، فأصبحوا قادرين على التحرك والثورة عند اللزوم، وبدأ المفكرون والفلاسفة في الحديث عن «عقد اجتماعي» يؤسس للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وراح العقل الأوروبي يعيد النظر في المسلمات السياسية والعلمية والاجتماعية والدينية، ويمنح قوى المجتمع المختلفة أهمية موازية لقوى الصليب والتاج والذهب، وبرزت قوة العنصر الرابع (المجتمع) وكان له دور كبير في تشكيل منظومة السياسة والفكر والعقل المتوارثة.
وقال «بينما كانت البندقية تنتعش انتعاشاً سريعاً بفضل تعاون جميع طبقاتها تعاوناً منظماً قائماً على الإخلاص للمصلحة العامة في سبيل إعادة التجارة والرخاء المادي»، كانت الثورات تجتاح جنوة، وصارت مسرحاً لعشر ثورات في فترة لا تزيد على خمس سنين (1390 - 1394)، وفي فلورنسا مركز صناعة أفخر الثياب والأصواف في أوروبا تشكلت نقابة خاصة بعمالها، وخلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، اندلعت ثورات الفلاحين والطبقات الفقيرة لتعيد ضخ دماء جديدة في الحراك الاجتماعي، وتحول أبناؤها إلى علماء وفلاسفة ومخترعين وشعراء ومبدعين.
أما على الجانب الآخر من البحر المتوسط، فقد تأثرت المجتمعات المشرقية بالموت الأسود أيضاً، ولكن بطريقة مختلفة تماماً، فبعد موت نصف السكان، لم ينتج عن ذلك حراك اجتماعي أو إعادة توزيع للثروة، فالسلطة والثروة كانت في يد أصحاب السيف من المماليك، والنقص الذي حدث في الجيش جرى تعويضه بطريقة تلقائية بشراء مماليك جدد، ما يعني أن العامة لم تدخل في اللعبة ولم تستفد مما جرى، والنتيجة أن كل التغيير تركز في قمة السلطة، وانحصر في زوال دولة المماليك البحرية وبداية عصر المماليك الجراكسة 1385، كما حدث في مصر.
وفي فصل بعنوان «بريق البشر... الفن يقود المواجهة»، تحدث المؤلف عن القرن الخامس عشر في أوروبا، وذكر أن البشر العاديين كانوا مصدر البريق في أهم الأحداث، وقد كان قرن مطبعة جوتنبرج وعالم كولومبوس الجديد، والمغامرين البرتغاليين دياز ودا جاما ومايكل أنجلو وليوناردو دافنشي وكوبر نيكوس وإرازموس وتوماس مور ونيكولو مكيافيلي.
وفي الفصل الخامس، تحدث المؤلف عما سماه متلازمة الجندي الياباني هيرو أونودا، الذي ظل يقاتل بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولم يصدق أنها انتهت، وأن بلاده استسلمت بعد هزيمتها، وقال بريشة إن مجتمعاتنا المشرقية تعاني من «متلازمة الجندي الياباني» في بنيتها السياسية والاجتماعية والفكرية، وتخوض حروباً منتهية الصلاحية على كل الجبهات.
«العالقون في العصور الوسطى»... أسباب صعود الغرب وتراجع الشرق؟
علي بريشة يدرس أسبابهما السياسية والاجتماعية في كتاب جديد
«العالقون في العصور الوسطى»... أسباب صعود الغرب وتراجع الشرق؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة