أستراليون في الشبكات الإرهابية.. والعائدون أخطر

حادثة احتجاز الرهائن الإرهابية تعيد للذاكرة أحداث 2002 و2005 التي تعرض فيها أستراليون لهجمات إرهابية

أستراليون في الشبكات الإرهابية.. والعائدون أخطر
TT

أستراليون في الشبكات الإرهابية.. والعائدون أخطر

أستراليون في الشبكات الإرهابية.. والعائدون أخطر

لا يمكن وصف حادثة احتجاز الرهائن التي وقعت مطلع الأسبوع الماضي في سيدني الأسترالية، والتي نفذها الإيراني هارون مؤنس، بالسيناريو الشائع في تاريخ الجهاديين الأستراليين.
فقد قام مؤنس، يوم الاثنين 15 ديسمبر (كانون الأول)، باحتجاز سبعة عشر شخصا كرهائن في مقهى «ليندت» في سيدني طوال ست عشرة ساعة، وانتهت الأزمة باقتحام قوات الأمن الخاصة الأسترالية المقهى ومقتل الإرهابي ورهينتين. أما مُنفذ هذا العمل فصنف «كشخص مختل عقليا وخطير عمد إلى اعتقال رهائن بعد أن فشل باستئناف حكم سابق صادر بحقه»، وفق الخبير الأسترالي رودجر شاناهان، الباحث في مركز «لوي للسياسة الدولية» في مداخلة لصحيفة «الشرق الأوسط».
«مؤنس كان يعرف باسم محمد حسن منطقي في إيران، غيّر اسمه في ما بعد، وهو معروف لدى الشرطة، هرب إلى أستراليا عام 1996، وكان يملك في إيران وكالة سفريات، حيث كان ملاحقا بتهم الاحتيال والنصب»، وفق رئيس الشرطة الإيرانية إسماعيل أحمدي مقدم. والحال أن تصرفات هارون مؤنس يمكن وصفها بناء على المعلومات المتواترة عنه بأنها غاية في التناقض. فمن غير المألوف أن نجد إيرانيا يؤيد تنظيم داعش، بما أن الإيرانيين ينتمون بأغلبية ساحقة إلى الطائفة الشيعية، في حين يغلب السنة على مقاتلي «داعش» الذين يعتبرون أنفسهم في عداء مع الشيعة. كما أن السلطات والقوات المسلحة الإيرانية تجهد في العراق للقضاء على «داعش»، وتؤيد نظام الأسد في سوريا. ويشرح الخبير شاناهان أن مؤنس حصل على «وضع (لاجئ) في أستراليا قبل بضع سنوات، وهو لا يملك أي مؤهلات رسمية في العلوم الدينية، وكان يبعث برسائل كراهية لأسر جنود أستراليين قتلوا في أفغانستان، وسبق أن تم اعتقاله بتهم خطرة تتعلق بالقتل والاعتداء الجنسي، غير أنه لاحقا أخلي سبيله بكفالة».
وهذه ليست المرة الأولى التي يقع فيها الأستراليون ضحية الأعمال الإرهابية، إذ سبق لأستراليا أن تكبدت خسائر بشرية جسيمة جراء عمليات إرهابية، كانت أولاها خلال هجوم نفذ في جزيرة بالي الإندونيسية في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 2002 أسفر عن مقتل نحو مائتي شخص بينهم ثمانية وثمانون أستراليا، ومن ثم في عام 2005 حين شهدت الجزيرة الإندونيسية نفسها سلسلة من الهجمات أدت إلى مقتل عشرين شخصا بينهم أربعة أستراليين وإصابة مائة وتسعة عشرين جريحا منهم تسعة عشر أستراليا. فضلا عن ذلك، واجهت البلاد عددا من التهديدات الإرهابية، ففي عام 2005 ألقي القبض على خمسة رجال، وتراوحت الأحكام بحقهم بالسجن ما بين 23 و28 عاما بتهمة التخطيط لتنفيذ سلسلة من الهجمات في سيدني. وعثر المحققون حينها على أسلحة وذخائر وأدلة لصنع أسلحة كيميائية وأشرطة فيديو لعمليات قطع الرأس. وفي عام 2009، ألقي القبض على أربعة رجال كانوا على صلة بمنظمة «شباب» الصومالية اشتبه فيهم في التحضير لهجمات إرهابية ضد منشآت عسكرية في منطقة سيدني، وحكم على ثلاثة منهم بالسجن لمدة ثمانية عشر عاما. وفي نهاية شهر سبتمبر (أيلول) من العام الحالي، إبان مناشدة الدولة الإسلامية المسلمين قتل الرعايا الغربيين، قام شاب اشتبه ارتباطه «بالإرهاب» بطعن اثنين من ضباط الشرطة قبل إطلاق النار عليه.
وعلى الرغم من أن «الزي الجهادي الإسلامي كان مجرد واجهة تضليلية لمؤنس» وفق شاناهان، فإن المخابرات الأسترالية تشعر بالقلق من وجود خلايا جهادية على أراضيها. وقد شددت حكومة رئيس الوزراء الأسترالي توني أبوت قوانين مكافحة الإرهاب، كما نقلت في أوائل سبتمبر مستوى تحذيرها من «المتوسط» إلى «مرتفع» للمرة الأولى منذ عام 2013، وهو الإجراء الذي يشير إلى احتمال وقوع هجوم إرهابي.
وفي محاولة لمنع وصول الطامحين إلى الجهاد إلى سوريا أو العراق، أصدرت قوانين جديدة حظرت السفر إلى بلدان تعتبر معاقل للإرهاب الدولي.
تعد أستراليا حليفا رئيسيا للولايات المتحدة، فهي كانت جزءا من «التحالف» الذي شن هجمات على أفغانستان والعراق، ودخلت في «الحرب على الإرهاب» التي أطلقتها الولايات المتحدة، ومؤخرا شاركت في الضربات ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا. غير أن أستراليا تعد أيضا البلد الأول من حيث توريد الجهاديين من خارج منطقة الشرق الأوسط، مع تورط نحو 150 أستراليا في الشبكات الإرهابية في سوريا والعراق حسب مجلة «التايمز». ووفقا للأرقام الرسمية، توجه ما يقارب السبعين مواطنا أستراليا للقتال مع الجماعات الإرهابية عاد عشرون منهم إلى أستراليا، ويوجد نحو مائة آخرين يقدمون الدعم المالي أو المساعدة لتجنيد المقاتلين في صفوف الحركات الجهادية، علما بأن نحو 60 في المائة من هؤلاء المجاهدين هم من الجنسية اللبنانية.
عديدة هي الأسباب التي تفسر هذه النزعة لدى الأستراليين من أصل لبناني. ففي الثمانينات والتسعينات شهدت أستراليا إعادة هيكلة اقتصادية واستبدلت وظائف التصنيع التي لا تتطلب مهارات متقدمة بالخدمات المالية، مما أثر على موجة المهاجرين اللبنانيين الجدد.. «فالمهاجرون اللبنانيون في الثمانينات لم يتمكنوا من الاندماج في النسيج الاجتماعي في البلد واللحاق بالحراك الاجتماعي الصاعد، على عكس من سبقوهم الذين انتقلوا إلى أستراليا في الستينات والسبعينات. فكثير من أفراد الجيل الثاني ولدوا في كنف أسرة كان الأب فيها عاطلا عن العمل»، وفق بول طبر، المختص في هجرة اللبنانيين إلى أستراليا من الجامعة اللبنانية الأميركية، في تصريحه لـ«الشرق الأوسط».
ويتمثل السبب الثاني في تاريخ بعض الأشخاص الإجرامي الذي يسهم في تحولهم إلى الجهاد. فالسجون الأسترالية، أضف إليها بعض العوامل الهيكلية في نظام السجن، تلعب دورا في انتشار الفكر المتطرف، إذ، وفقا لطبر، يوضع عادة جميع المسلمين بغض النظر عن خلفياتهم الجرمية في السجن معا لأغراض لوجيستية بما أن الأكثرية تتبع نظاما غذائيا حلالا. ولتسهيل عملية توزيع الطعام يجد المجرمون الذين ارتبكوا مخالفات بسيطة أنفسهم في نفس الزنزانات مع أشخاص يتبنون وجهات نظر وعقائد راديكالية، مما يجعل من عملية تلقين الفكر المتطرف أمرا سهلا.
فضلا عن ذلك، قد يعزى انتشار الفكر المتطرف إلى العلاقات الأسرية القائمة بين جيل الجهاديين المؤيدين لتنظيم القاعدة والجيل الجديد من الجهاديين الذين يتدفقون إلى سوريا، وفقا لشاناهان. ذلك أن عديد من الأشخاص المتهمين بدعم «داعش» في أستراليا تربطهم علاقة عائلية وثيقة بأشخاص لعبوا دورا في الشبكات الإرهابية، فمحمد العمر على سبيل المثال هو ابن شقيق محمد علي العمر، أحد الذين شملتهم تحقيقات بندنيس عام 2009.
والجدير ذكره أن قسما كبيرا من اللبنانيين المتورطين في الشبكات الإرهابية في أستراليا هم من السنة من شمال لبنان، المعقل الرئيسي للسلفية في البلد. فهذه المنطقة شهدت العديد من الهجمات الإرهابية منذ عام 2000 حين وقعت مواجهات في منطقة الضنية بين الجيش اللبناني وجماعة التكفير والهجرة. ولاحقا بين يونيو (حزيران) وسبتمبر 2007 خاض الجيش اللبناني حربا ضد «فتح الإسلام» في مخيم نهم البارد، كما نجح الجيش مؤخرا في تفكيك العديد من الشبكات الإرهابية التابعة لمتمردين سوريين في شمال لبنان.
تميزت عملية احتجاز الرهائن في سيدني بحدث استثنائي آخر. ذلك أنه وكرد على الاتهامات التي وجهت ضد الإسلام بعد هذه الحادثة، وضع الأستراليون غير المسلمين أيديهم بأيدي المسلمين، واقترح سكان إحدى المدن الأسترالية على سكان مسلمين مرافقتهم خلال رحلاتهم بواسطة وسائل النقل العام.. وتم إطلاق هذه المبادرة من قبل مستخدم على «تويتر» تحت هاشتاج «#illridewithyou»، وتم تناقلها عشرات آلاف المرات.
* باحثة زائرة في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.