«السودان على طريق المصالحة»... شهادة حية على الثورة

رصدها دبلوماسي موريتاني وقدّم لها الرئيس المالي الأسبق عمر كوناري

«السودان على طريق المصالحة»... شهادة حية على الثورة
TT

«السودان على طريق المصالحة»... شهادة حية على الثورة

«السودان على طريق المصالحة»... شهادة حية على الثورة

صدر أخيراً عن المركز الثقافي ببيروت كتاب «السودان على طريق المصالحة»، في نسخته العربية، للدبلوماسي الموريتاني محمد الحسن ولد لبّات، وهو وزير خارجية سابق في بلده. الكتاب جاء كشهادة حيّة من الكاتب عن تجربة المصالحة التي خاضها الفرقاء السياسيون في السودان إبّان الأحداث الدامية التي أعقبت ثورة إسقاط نظام عمر حسن البشير. وكان صاحب الكتاب هو الوسيط الرئيسي فيها منذ البداية وحتى تحقيق اتفاق المصالحة الذي تمخض عنه في الأخير تشكيلُ مجلس انتقالي للسيادة في البلاد. ومنذ الصفحات الأولى لهذا الكتاب، تبرز كلمات الإهداء المختصرة والمؤثرة إلى أرواح الضحايا ممن فقدوا حياتهم في مسيرة سلمية على طريق المصالحة والسلام.
الكتاب قدّمه الرئيس المالي الأسبق عمر كوناري، بكلمات عن أفريقيا والصراعات وعن السلام كحتمية لا بد من الوصول إليها عند كل معترك تخوضه الأمة الأفريقية في مسار بناء الوحدة والاستقرار، وقد خصّ السودان بكلمة مطولة عن تاريخه الضارب في القدم وعن حاضره الصعب الذي رأى أن معطياته ما فتئت تعبّر دائماً عن حالة الفشل الأفريقية في بناء مفهوم الدولة الموحدة على نحو صحيح، ثم ما لبث أن أثنى على تجربة الوساطة والوفاق السوداني الداخلي منبّهاً في الوقت نفسه إلى الحاجة الماسّة إلى استدعاء عنصر اليقظة كشرط ضروري للحفاظ على مكتسبات المصالحة وتعزيزها داخلياً، ومن ثمّ تعميم خلاصاتها الجوهرية على الصراعات الأفريقية الأخرى.
سياق الوساطة كان هو أول ما تطرق إليه المؤلف في مسار سرده لحيثيات الأزمة والمعطيات التي صاحبَتْها داخلياً وإقليمياً. فالحادي عشر من أبريل (نيسان) 2019 شكّل تاريخ انطلاق السرد مع وصول موسى فكي محمد رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، إلى الخرطوم بعد عشرة أيام فقط من حدث كبير هزّ السودان بأسره «إسقاط الرئيس عمر حسن البشير» بعد عقود طويلة من الحكم وبعد سلسلة من المظاهرات المطالبة برحيله وما تلا ذلك من مواجهات كانت في معظمها عنيفة وراح ضحيتها الكثير من الأبرياء.
يروي الكاتب تفاصيل تلك اللحظة الأولى والصادمة، حيث التوتر المشوب بالحذر يسيطر على المشهد العام، وحيث المخاوف مشتركة بين الفرقاء من جهة وبين وسطاء الحل من جهة أخرى، كما وصف الكاتب بدقّة ملامح اللحظة التي أرّخت لتعيينه رئيساً لفريق الاتحاد الأفريقي المكلف تنفيذ القرار الصادر عن مجلس السلم والأمن، وما أثاره هذا القرار في صميم كيانِه من مشاعر عميقة وهو يستحضر صورة السودان في ذهنه وارتباطَه بهذا البلد روحياً وثقافياً، وامتداد ذلك كله في أعماق وجدانه، إنها عناصر جعلت من المهمة التي أُنيطت به أكثر من مجرّد مهمّة رسمية صارمة القواعد.
وقد استفاض ولد لبّات في هذا الجزء من الكتاب في وصف الحياة السياسية السودانية واستعراض معطياتها الملتبسة وتسليط الضوء على شخوصها وثِقَل التيارات التي يمثلونها كمّاً وكيفاً. لقد وصف حالة الشلل التام التي كانت تسيطر على العاصمة عند لحظات التغيير الأولى تحت وقع مظاهرات حاصرت قطاع الدولة الرسمي والعسكري بصفة خاصة، مع سلسلة من المشاهد الدراماتيكية التي أعقبت قرار الإطاحة بالرئيس المخلوع على يد وزير دفاعه ابن عوف، والذي أُطيح به هو الآخر من رئاسة المجلس العسكري بعدها بساعات. ولأن السودانيين في صفوف الثورة -في تلك اللحظة الأوليّة- لم يكونوا على قدر كبير من الود مع الاتحاد الأفريقي، فقد كان لزاماً على ولد لبّات –كما يصف- أن يُنضِج الوساطة بأكثر من حيلة.
إنضاج الوساطة هو هدف محوري خصص له صاحب الكتاب فصلاً كاملاً، ويمكن إجمال أفكاره عموماً في رهان كسب ثقة الأطراف، وهو ما تأتّى للدبلوماسي الوسيط كما يبدو من خلال إقناع الفرقاء باستقلاليته عن الأجندات الخارجية وباحترامه الصارم لمرجعية الاتحاد الأفريقي وانحيازه للسودان عاطفياً مع استحضار كل ما يربط موريتانيا بالسودان روحياً على الأقل.
من جهة ثانية، أشار ولد لبّات إلى أهمية التراكم الذي حققه خلال مشاركته الفاعلة في وساطات سابقة بعدد من نقاط التوتر في القارة الأفريقية تحت إشراف كوكبة من الأسماء الدبلوماسية البارزة كنيلسون مانديلا، ورئيس بُتسوانا السابق كاتميلي ماسيري، ورئيس تنزانيا السابق جوليوس نيريري، وغيرهم، وهو ما سمح له بالوصول إلى خلاصات عزّزت ثقته الشخصية بجودة الوساطة الأفريقية وجعلته متشبعاً بدروس الإنضاج الضروري لأي تجربة وساطة كشرط أوّلي وحاسم لنجاحها.
ولعل أهم ما ساعد ولد لبّات في عميلة الإنضاج هذه هي القدرة على امتلاك الحكمة ومقاومة الرغبة في التسرع وشطط الاندفاع والتأنّي في كل شيء، حتى في تقديم الاقتراحات... لذا، فقد كان مقترح «مجلس السيادة» الشهير محطّ تأنٍّ بالغ من لدن ولد لبّات، وهو ما يستند بالطبع إلى شرط التعرّف الجيد على الأطراف، وإلى ضرورة إشعارهم بأهمية اللحظة التي يعيشونها ويشاركون في صنع ملامحها الحاسمة والمستقبلية.
في هذا السياق، يذكر ولد لبّات كيف كان حريصاً على تجنيب السودان الوقوع في السيناريوهات المظلمة التي تجعله ينزلق إلى قاع الفشل والاحتراب العنيف، ولعلّ النقطة الحاسمة في هذا الجانب كانت تتمثل أساساً في قدرة الوساطة على جعل الفرقاء يفكرون في نيات الحشود المجتمعة في الميدان، والتي لم تكن تحمل سوى أجندة واحدة هي إقامة نظام جديد على أنقاض الماضي بعد تخليصه من الشوائب والهنات. وهو أمر غير ممكن تماماً دون تواصل مباشر مع الحركات الثورية في الشارع ممثلة في إعلان قوى الحرية والتغيير، ودون إدراكٍ عميق كذلك لأهميّة عنصَرَي الأمن والدفاع في الحفاظ على السودان الآمن والمستقر، لذا فإن أي مساس بهما كان سيُدخل البلاد لا محالة في مهاوي النفق المظلم. وكان سيُخرج الوساطة بالطبع عن مسارها الصحيح.
وبالرجوع إلى مسارات الوساطة، يشير الكاتب إلى أهمية موافقة الطرفين المبدئية على الحوار والتفاوض بكثير من الحماس والاندفاع أحياناً، فكان ذلك مُفتتحاً مميزاً لفعل الوساطة بمعناه العملي. يشرح ولد لبّات كيف ما لبث هذا الحماس أن خفّ تحت وطأة التوترات والمخاوف المتبادلة من الطرفين، فمخاض مجلس السيادة لم يكن سلساً كما تخيّله الجميع، حتى أولئك المتفاوضون الذين كانوا يبشرون منذ اليوم الأول بسقف عالٍ من التفاهمات.
لكن الوصول إلى الاتفاق النهائي كان ثمرة الإرادة السودانية والوعي المتبادل، وثمرة كذلك للمرجعية الأفريقية في الوساطة مع دعم دبلوماسي عربي ثمّنه الكاتِب وأثنى عليه، مسجِّلاً في الآن نفسه شيئاً من الحزن إزاء غياب تعاون عربي أفريقي يليق بحجم الفرص الممكنة أمام الطرفين.
مسارات الوساطة التي قادت السودانيين إلى اتفاق تقاسم الحكم مبدئياً، فتحت الباب أيضاً أمام عدد كبير من تحدّيات المرحلة الانتقالية. ويرى ولد لبّاتْ أن مجمل هذه التحديات تنبع أساساً من النظام السياسي الجديد ومن طبيعة القوى السياسية الحاضرة في الساحة، ومن قضايا السلم والأمن، إضافةً إلى الدور المحوري للمحيط الإقليمي والدولي لا سيما في طريقة تعاطيه مع الحكم الانتقالي في السودان الجديد. وقد شدّد ولد لبّاتْ في هذا السياق على ضرورة تفادي الطابع الانتقامي في التعامل مع الأطياف السياسية المنتمية للسودان، وضرورة تجاوز الماضي الأليم بكيفية منصِفة وسليمة دون أن يمسّ ذلك بواجب المساءلة وعدم إفلات المجرمين من العقاب، لكن دون أن يؤدي ذلك في المقابل إلى شيطنة تيار سياسي بعينه أو تكريس اجتثاثه لما قد يحمله هذا المسار الخطير من آثار عكسية تنسف رؤية التغيير وتهددها بالفشل التام.
ويطرح ولد لبّاتْ في نهاية الكتاب تساؤلات حارقة حول المستقبل. تساؤلات تنطلق من تلك الأولويات التي قامت على أساسها قواعد المرحلة الانتقالية، وهي في ذات السياق أسئلة «حكيمة» تهدف إلى استخلاص الدروس من هذه التجربة من حيث طبيعة الوساطة الأفريقية - الأفريقية والنتائج التي تمخضت عنها... «أوليس التساؤل هو المقدمة الأولى للحكمة؟» يقول ولد لبّات في الصفحة الأخيرة من كتابه.
- كاتب من المغرب


مقالات ذات صلة

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط
كتب «أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

«أبريل الساحر»... نساء إنجليزيات يهربن من الواقع لـ«تحقيق الروح»

عن دار «الكرمة» بالقاهرة، صدرت رواية «أبريل الساحر» للكاتبة البريطانية إليزابيث فون أرنيم، التي وُصفت من جانب كبريات الصحف العالمية بأنها نص مخادع وذكي وكوميدي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ

د. ربيعة جلطي (الجزائر)
ثقافة وفنون قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

قراءات في قصص وروايات لكتاب عرب

عن دار «طيوف» بالقاهرة صدر كتاب «مرايا الفضاء السردي» للناقدة المصرية دكتورة ناهد الطحان، ويتضمن دراسات ومقالات نقدية تبحث في تجليات السرد العربي المعاصر

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الكاتب السعودي فيصل عباس مع السفير البريطاني نيل كرومبتون خلال الأمسية الثقافية

أمسية ثقافية بمنزل السفير البريطاني في الرياض للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني»

أقام السفير البريطاني في الرياض أمسية ثقافية في منزله بالحي الدبلوماسي للاحتفال بإطلاق كتاب «حكايا عربي أنغلوفوني» للكاتب السعودي ورئيس تحرير صحيفة «عرب نيوز».

«الشرق الأوسط» (الرياض)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!