«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي

الركابي يعود إلى مدينته الأولى في عمله الجديد

«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي
TT

«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي

«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي

في رواية «خانة الشواذي» للروائي عبد الخالق الركابي الصادرة عن المؤسسة العربية للنشر في بيروت عام (2019)، يعود بنا الروائي إلى مسقط رأسه، مدينته الأثيرة (بدرة) الحدودية المحاذية لإيران لتكون فضاءً لحركة الأحداث والصراعات التي ستشهدها الرواية، وبذا ستكون هي البنية المكانية المولدة للأحداث اللاحقة، وإن كانت تمتد مكانياً إلى مدينة بغداد أيضاً، كما تتحرك زمنياً عبر فترات زمنية مختلفة من تاريخ العراق، من خلال إشارات دالة تضيء تاريخية الزمان والمكان معاً.
ويبدو أن عودة عبد الخالق الركابي إلى مدينة بدرة، ليست من باب النوستالجيا الطفولية، بل لارتباط ذلك بعنوان الرواية، حيث اعتادت الحكومات العراقية المتعاقبة على إرسال المعارضين السياسيين إلى المنفى في مدينة بدرة. وهذه الثيمة، أعني حجز المنفيين في بدرة، كانت جوهر رواية عراقية سابقة هي «المبعدون» للروائي هشام توفيق الركابي، وهو ما يفتح الباب للحديث عن ظاهرة رواية المنفى في الأدب العراقي.
هذه الرواية، تختلف عن رواية «المبعدون» لأنها اكتفت بالتقاط أنموذج فردي واحد متمثل في وصول المنفية السياسية (ملاك عيسى) إلى بدرة لأسباب سياسية. وتتحرك الرواية بين جيلين أو أكثر، من أبناء بدرة، فهي، إلى حد ما، رواية أجيال.
يبدأ السرد الروائي من خلال شخصيات الجيل الأحدث من منطقة الحاضر، لكنه سرعان ما يعود لتقليب صفحات الذاكرة للتعريف بشخصيات الجيل الأول.
ويبدو أن الروائي كان قد وضع هيكلاً دقيقاً لروايته، يقرب من هيكل القصص البوليسية، ذلك أنه كان لا يقدم الحقائق في وقت مبكر، أو دفعة واحدة، بل يرجئها، لتشويق القارئ، ولأن موعد الكشف عنها لم يحن بعد. لذا كان المؤلف يطلق على ذلك مصطلح «كلمات متقاطعة»، أو «نصف الحقيقة»، أما النصف الآخر فكان يرجئه إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، بعد أن راحت تتكشف تدريجياً الشفرات والرموز والأسرار الغامضة التي بقيت طيلة هذا الوقت مجهولة.
ورغم كون الرواية متعددة الأصوات (بوليفونية) تشارك في سرد أحداثها الكثير من الشخصيات الأساسية والثانوية في الرواية، إلا أن الراوي الرئيس المهيمن على السرد، وبطل الرواية هو (نزار) الطالب في أكاديمية الفنون، والذي يجمع بيديه كل خيوط السرد وأسراره.
ويبدو لي أن (نزار) ليس من أبناء مدينة بدرة، وإنما من إحدى قرى بعقوبة، وأن معظم المعلومات التي استقاها كانت من خلال خزين رسائل صديقه (طه طاهر) ابن مدينة بدرة، الذي هاجر إلى كندا، فضلاً عن ملف التحقيق مع والده (طاهر) الذي احتفظ به المحامي (نجيب بيك) وسلمه في النهاية إلى (نزار) وفيه الإجابات الحاسمة عن الكثير من الأسئلة والأسرار الغامضة التي لم يكشف عنها من قبل. ويمكن القول بأن (نزار) يعد أيضاً بمثابة مؤلف الرواية، لأنه كان دائماً يتحدث عن وجود مثل هذه الرواية والتي تتطلب روائياً محترفاً لكتابتها، وتحويل مادتها الخاصة إلى عمل فني مقبول، وهو ما يضع الرواية في فضاء الميتاسرد.
ومن الملاحظ أن الروائي قد آثر أن يضع هندسة سردية خاصة لروايته من خلال عملية التمفصل الروائي تساهم في تحقيق الوظائف الأساسية للسرد، وفي مقدمتها التمهيد لخلق الجو الروائي، والتعريف بالشخصيات الأساسية، والإيماء إلى عناصر الصراع داخل الرواية، وتصعيد هذا الصراع تدريجياً نحو الذروة climax، وأخيراً السير بالسرد نحو انحلال الذروة Anti - Climax. ولذا وجدنا المؤلف يقسم روايته إلى أربعة أبواب أساسية، سرد هذه الأبواب الأربعة يتم من خلال شاشة وعي بطل الرواية (نزار)، وكل باب من هذه الأبواب يحتوي على مجموعة من الفصول التي يتناوب على سرده عدد من الرواة.
هذه الهندسة الروائية ليست اعتباطية، وإنما مدروسة جيداً. إذ يقتصر الباب الأول «كلمات متقاطعة» على التعريف بالعالم الروائي وشخصياته، ليضع القارئ داخل المشهد الحقيقي، وليكون قادراً على سبر أغوار الأحداث الأساسية المتصاعدة في الرواية. ويكون الإيقاع الروائي في هذا الباب هادئاً وبطيئاً من خلال الاعتماد على الوصف والتعريف والإضاءة.
أما الباب الثاني «حب خلف الأسلاك» فيشهد تصعيداً جزئياً في الأحداث الروائية، حيث يلقي المؤلف حجراً ليحرك البركة الساكنة. ويتمثل هذا الحجر بوصول منفية سياسية هي (ملاك عيسى) إلى بدرة، وهو حدث استثنائي في تاريخ المدينة يستقطب اهتمام الناس، ويلفت نظرهم إلى موضوع النفي السياسي الذي صار يشمل المرأة، بالإضافة إلى الرجل. ويبدأ الإيقاع السردي في هذا الباب بالتوتر والشد والتصاعد تدريجياً.
أما في الباب الثالث «نصف الحقيقة» فيضعنا المؤلف في ذروة الحدث الروائي وصراعاته، لكنه يخفي نصف الحقيقة الأخرى في جزء من اللعبة التي تعتمدها القصة البوليسية عادة بالإبطاء والمواربة والإرجاء حيث تميز الإيقاع الروائي هنا بالتسارع والتفجر أحياناً.
ويأتي الباب الرابع والأخير «الماضي حاضراً» ليضع النقاط على الحروف ويستكمل النصف الآخر من الحقيقة، من خلال تقديم تأويل وتفسير للكثير من النقاط الغامضة التي حيرت القارئ. وينحو الإيقاع الروائي في هذا الباب إلى الاستقرار الجزئي تماماً مثل «القرار» في مقطوعة موسيقية.
يبدأ الروائي روايته باستهلال مثير وواعد، كنا نتوقع أن نجد له مثيلاً في الفصول التالية، وأن لا يظل يتيماً ومحدوداً. إذْ نجد في هذا الاستهلال نمطين من السرد: سرد بالكاميرا السينمائية، وسرد بالكتابة الروائية:
«وتتبعت عدسة الكاميرا الحفرة حتى سويت بالأرض، فلم تعد تتميز عنها إلا بنوع التراب في تناقضه مع حفرة الأعشاب، وقام المصور بعدها بحركة بطيئة من عدسته استعرض بها المقبرة التي بدت أقرب إلى حديقة». (ص 7) ونكتشف لاحقاً أن هذا السرد بالكاميرا كان جزءاً من فيديو عن عملية دفن (طه) في إحدى المقابر الكندية.
ثم ينتقل السرد، ربما عبر (عين كاميرا) أخرى إلى بطل الرواية وراويها الأساسي (نزار) وهو جالس خلف مكتبه في شارع حيفا ببغداد، بعد مرحلة التغيير بعد الاحتلال، يتأمل شاشة اللابتوب وهو يستذكر صديقه (طاهر) الذي هاجر إلى كندا، من خلال توظيف ضمير المتكلم (أنا) الأوتوبيوغرافي، والذي ميز سرده في الأبواب الأربعة.
ومن هذه اللحظة، وبحضور (اللابتوب) تبدأ تتشكل فصول هذه الرواية، وهي تجمع بين الماضي والحاضر من جهة وبين جيل الآباء، وجيل الأبناء والأجداد، من جهة أخرى، ولتنقل صفحات حية من تاريخ العراق السياسي الحديث وبشكل خاص المنفى السياسي فيه.
ومن باب الوفاء لذكرى صديقه الراحل (طه طاهر) شعر (نزار) بمسؤوليته في إنجاز ترميم لوحته الفنية المتميزة التي تعرضت إلى السرقة والتلف بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وأيضاً في إنجاز كتابة الرواية التي وعد بها صديقه (طه).
وتحيل عملية ترميم اللوحة وإعدادها للعرض في معرض فني شامل للرواد، مكانة خاصة، حيث نشاهد (نزار) وهو منهمك ليل نهار لإنجاز عملية صيانة اللوحة. ومثلما أطلت هذه اللوحة على المشهد الروائي منذ البداية، فإنها عادت إلى لعب دور أكبر في نهاية الرواية، وخاصة عند عرضها في المعرض الفني الشامل، حيث أثارت الإعجاب، ولفتت انتباه المحامي (نجيب بك) من خلال اللقاء التلفزيوني الذي أجراه التلفزيون مع (نزار) والذي استغرق ثلاث دقائق، حيث أدى اهتمام المحامي (نجيب بك) إلى كشف الحقائق المجهولة عن مصير (طاهر) وبراءته، استناداً إلى ملف التحقيق الذي سلمه المحامي إلى نزار، ليكون المادة الأساسية للباب الرابع والأخير من الرواية والموسوم بـ«الماضي حاضراً» والذي عمد فيه المؤلف إلى استحضار الماضي المندرس ووضعه على منصة الحاضر، وربما يمكن القول، تأويلياً، إن الدور الذي لعبته لوحة (طاهر) الفنية شبيه إلى حد ما بدور لوحة (الموناليزا) لدافنشي في رواية (شفرة دافنشي) للروائي (دان براون)، فكلتاهما مهدت الطريق لفك الشفرات السرية الغامضة في الروايتين.
ورغم النسق الخطي المتصاعد لحركة الأحداث الروائية، إلا أن الزمن كان غالباً ما يتعرض لانكسارات وانقطاعات وارتدادات بفعل سرد الذاكرة الذي استحضر أكثر من فترة زمنية منصرمة ومنسية.
لقد كان الروائي عبد الخالق الركابي يحرك الأحداث والحبكات والشخصيات الروائية وفق تراتب خاص تمليه ضرورات السرد والتصعيد المستمر للصراع الروائي. وكانت أغلب أشكال السرد والاستذكار يتم من خلال وعي الشخصيات القصصية المختلفة، وهو وعي مبأر، لأنه يستغور الأعماق الداخلية لهذه الشخصيات التي كانت تقدم وجهات نظرها تجاه الأحداث والواقع الاجتماعي.
ومع أن السرد المهيمن في الرواية هو سرد بطلها (نزار)، الذي هو راويها الضمني، ووكيل المؤلف، إلا أن الكثير من شخصيات الرواية الرئيسة والثانوية قد أسهمت بفاعلية في صياغة نسيج الرواية، مما يجعل الرواية متعددة الأصوات (بوليفونية) لأنها أفسحت المجال للأصوات الأخرى لتعبر عن وجهات نظر بوسائل مختلفة.
هذا ويستدرجنا عنوان الرواية «خانة الشواذي» بوصفه عتبة نصية دالة، كما يذهب إلى ذلك الناقد الفرنسي جيرار جينيت، إلى الطبيعة السياسية لهذه الرواية خاصة عندما يوضع أحد المنفيين فيها. ومصطلح «خانة الشواذي» مصطلح شعبي عراقي يوظف للإشارة إلى المقاعد الخلفية في الحافلات القديمة، ويخصص عادة للفقراء، حيث يعاني الجالسون فيها من اهتزازات الحافلة ومطبات الطريق، وأحياناً يتقافزون مثل القرود أو «الشواذي». (ص 23)
- ناقد عراقي



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.