«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي

الركابي يعود إلى مدينته الأولى في عمله الجديد

«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي
TT

«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي

«خانة الشواذي»... رواية المنفى السياسي

في رواية «خانة الشواذي» للروائي عبد الخالق الركابي الصادرة عن المؤسسة العربية للنشر في بيروت عام (2019)، يعود بنا الروائي إلى مسقط رأسه، مدينته الأثيرة (بدرة) الحدودية المحاذية لإيران لتكون فضاءً لحركة الأحداث والصراعات التي ستشهدها الرواية، وبذا ستكون هي البنية المكانية المولدة للأحداث اللاحقة، وإن كانت تمتد مكانياً إلى مدينة بغداد أيضاً، كما تتحرك زمنياً عبر فترات زمنية مختلفة من تاريخ العراق، من خلال إشارات دالة تضيء تاريخية الزمان والمكان معاً.
ويبدو أن عودة عبد الخالق الركابي إلى مدينة بدرة، ليست من باب النوستالجيا الطفولية، بل لارتباط ذلك بعنوان الرواية، حيث اعتادت الحكومات العراقية المتعاقبة على إرسال المعارضين السياسيين إلى المنفى في مدينة بدرة. وهذه الثيمة، أعني حجز المنفيين في بدرة، كانت جوهر رواية عراقية سابقة هي «المبعدون» للروائي هشام توفيق الركابي، وهو ما يفتح الباب للحديث عن ظاهرة رواية المنفى في الأدب العراقي.
هذه الرواية، تختلف عن رواية «المبعدون» لأنها اكتفت بالتقاط أنموذج فردي واحد متمثل في وصول المنفية السياسية (ملاك عيسى) إلى بدرة لأسباب سياسية. وتتحرك الرواية بين جيلين أو أكثر، من أبناء بدرة، فهي، إلى حد ما، رواية أجيال.
يبدأ السرد الروائي من خلال شخصيات الجيل الأحدث من منطقة الحاضر، لكنه سرعان ما يعود لتقليب صفحات الذاكرة للتعريف بشخصيات الجيل الأول.
ويبدو أن الروائي كان قد وضع هيكلاً دقيقاً لروايته، يقرب من هيكل القصص البوليسية، ذلك أنه كان لا يقدم الحقائق في وقت مبكر، أو دفعة واحدة، بل يرجئها، لتشويق القارئ، ولأن موعد الكشف عنها لم يحن بعد. لذا كان المؤلف يطلق على ذلك مصطلح «كلمات متقاطعة»، أو «نصف الحقيقة»، أما النصف الآخر فكان يرجئه إلى الصفحات الأخيرة من الرواية، بعد أن راحت تتكشف تدريجياً الشفرات والرموز والأسرار الغامضة التي بقيت طيلة هذا الوقت مجهولة.
ورغم كون الرواية متعددة الأصوات (بوليفونية) تشارك في سرد أحداثها الكثير من الشخصيات الأساسية والثانوية في الرواية، إلا أن الراوي الرئيس المهيمن على السرد، وبطل الرواية هو (نزار) الطالب في أكاديمية الفنون، والذي يجمع بيديه كل خيوط السرد وأسراره.
ويبدو لي أن (نزار) ليس من أبناء مدينة بدرة، وإنما من إحدى قرى بعقوبة، وأن معظم المعلومات التي استقاها كانت من خلال خزين رسائل صديقه (طه طاهر) ابن مدينة بدرة، الذي هاجر إلى كندا، فضلاً عن ملف التحقيق مع والده (طاهر) الذي احتفظ به المحامي (نجيب بيك) وسلمه في النهاية إلى (نزار) وفيه الإجابات الحاسمة عن الكثير من الأسئلة والأسرار الغامضة التي لم يكشف عنها من قبل. ويمكن القول بأن (نزار) يعد أيضاً بمثابة مؤلف الرواية، لأنه كان دائماً يتحدث عن وجود مثل هذه الرواية والتي تتطلب روائياً محترفاً لكتابتها، وتحويل مادتها الخاصة إلى عمل فني مقبول، وهو ما يضع الرواية في فضاء الميتاسرد.
ومن الملاحظ أن الروائي قد آثر أن يضع هندسة سردية خاصة لروايته من خلال عملية التمفصل الروائي تساهم في تحقيق الوظائف الأساسية للسرد، وفي مقدمتها التمهيد لخلق الجو الروائي، والتعريف بالشخصيات الأساسية، والإيماء إلى عناصر الصراع داخل الرواية، وتصعيد هذا الصراع تدريجياً نحو الذروة climax، وأخيراً السير بالسرد نحو انحلال الذروة Anti - Climax. ولذا وجدنا المؤلف يقسم روايته إلى أربعة أبواب أساسية، سرد هذه الأبواب الأربعة يتم من خلال شاشة وعي بطل الرواية (نزار)، وكل باب من هذه الأبواب يحتوي على مجموعة من الفصول التي يتناوب على سرده عدد من الرواة.
هذه الهندسة الروائية ليست اعتباطية، وإنما مدروسة جيداً. إذ يقتصر الباب الأول «كلمات متقاطعة» على التعريف بالعالم الروائي وشخصياته، ليضع القارئ داخل المشهد الحقيقي، وليكون قادراً على سبر أغوار الأحداث الأساسية المتصاعدة في الرواية. ويكون الإيقاع الروائي في هذا الباب هادئاً وبطيئاً من خلال الاعتماد على الوصف والتعريف والإضاءة.
أما الباب الثاني «حب خلف الأسلاك» فيشهد تصعيداً جزئياً في الأحداث الروائية، حيث يلقي المؤلف حجراً ليحرك البركة الساكنة. ويتمثل هذا الحجر بوصول منفية سياسية هي (ملاك عيسى) إلى بدرة، وهو حدث استثنائي في تاريخ المدينة يستقطب اهتمام الناس، ويلفت نظرهم إلى موضوع النفي السياسي الذي صار يشمل المرأة، بالإضافة إلى الرجل. ويبدأ الإيقاع السردي في هذا الباب بالتوتر والشد والتصاعد تدريجياً.
أما في الباب الثالث «نصف الحقيقة» فيضعنا المؤلف في ذروة الحدث الروائي وصراعاته، لكنه يخفي نصف الحقيقة الأخرى في جزء من اللعبة التي تعتمدها القصة البوليسية عادة بالإبطاء والمواربة والإرجاء حيث تميز الإيقاع الروائي هنا بالتسارع والتفجر أحياناً.
ويأتي الباب الرابع والأخير «الماضي حاضراً» ليضع النقاط على الحروف ويستكمل النصف الآخر من الحقيقة، من خلال تقديم تأويل وتفسير للكثير من النقاط الغامضة التي حيرت القارئ. وينحو الإيقاع الروائي في هذا الباب إلى الاستقرار الجزئي تماماً مثل «القرار» في مقطوعة موسيقية.
يبدأ الروائي روايته باستهلال مثير وواعد، كنا نتوقع أن نجد له مثيلاً في الفصول التالية، وأن لا يظل يتيماً ومحدوداً. إذْ نجد في هذا الاستهلال نمطين من السرد: سرد بالكاميرا السينمائية، وسرد بالكتابة الروائية:
«وتتبعت عدسة الكاميرا الحفرة حتى سويت بالأرض، فلم تعد تتميز عنها إلا بنوع التراب في تناقضه مع حفرة الأعشاب، وقام المصور بعدها بحركة بطيئة من عدسته استعرض بها المقبرة التي بدت أقرب إلى حديقة». (ص 7) ونكتشف لاحقاً أن هذا السرد بالكاميرا كان جزءاً من فيديو عن عملية دفن (طه) في إحدى المقابر الكندية.
ثم ينتقل السرد، ربما عبر (عين كاميرا) أخرى إلى بطل الرواية وراويها الأساسي (نزار) وهو جالس خلف مكتبه في شارع حيفا ببغداد، بعد مرحلة التغيير بعد الاحتلال، يتأمل شاشة اللابتوب وهو يستذكر صديقه (طاهر) الذي هاجر إلى كندا، من خلال توظيف ضمير المتكلم (أنا) الأوتوبيوغرافي، والذي ميز سرده في الأبواب الأربعة.
ومن هذه اللحظة، وبحضور (اللابتوب) تبدأ تتشكل فصول هذه الرواية، وهي تجمع بين الماضي والحاضر من جهة وبين جيل الآباء، وجيل الأبناء والأجداد، من جهة أخرى، ولتنقل صفحات حية من تاريخ العراق السياسي الحديث وبشكل خاص المنفى السياسي فيه.
ومن باب الوفاء لذكرى صديقه الراحل (طه طاهر) شعر (نزار) بمسؤوليته في إنجاز ترميم لوحته الفنية المتميزة التي تعرضت إلى السرقة والتلف بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. وأيضاً في إنجاز كتابة الرواية التي وعد بها صديقه (طه).
وتحيل عملية ترميم اللوحة وإعدادها للعرض في معرض فني شامل للرواد، مكانة خاصة، حيث نشاهد (نزار) وهو منهمك ليل نهار لإنجاز عملية صيانة اللوحة. ومثلما أطلت هذه اللوحة على المشهد الروائي منذ البداية، فإنها عادت إلى لعب دور أكبر في نهاية الرواية، وخاصة عند عرضها في المعرض الفني الشامل، حيث أثارت الإعجاب، ولفتت انتباه المحامي (نجيب بك) من خلال اللقاء التلفزيوني الذي أجراه التلفزيون مع (نزار) والذي استغرق ثلاث دقائق، حيث أدى اهتمام المحامي (نجيب بك) إلى كشف الحقائق المجهولة عن مصير (طاهر) وبراءته، استناداً إلى ملف التحقيق الذي سلمه المحامي إلى نزار، ليكون المادة الأساسية للباب الرابع والأخير من الرواية والموسوم بـ«الماضي حاضراً» والذي عمد فيه المؤلف إلى استحضار الماضي المندرس ووضعه على منصة الحاضر، وربما يمكن القول، تأويلياً، إن الدور الذي لعبته لوحة (طاهر) الفنية شبيه إلى حد ما بدور لوحة (الموناليزا) لدافنشي في رواية (شفرة دافنشي) للروائي (دان براون)، فكلتاهما مهدت الطريق لفك الشفرات السرية الغامضة في الروايتين.
ورغم النسق الخطي المتصاعد لحركة الأحداث الروائية، إلا أن الزمن كان غالباً ما يتعرض لانكسارات وانقطاعات وارتدادات بفعل سرد الذاكرة الذي استحضر أكثر من فترة زمنية منصرمة ومنسية.
لقد كان الروائي عبد الخالق الركابي يحرك الأحداث والحبكات والشخصيات الروائية وفق تراتب خاص تمليه ضرورات السرد والتصعيد المستمر للصراع الروائي. وكانت أغلب أشكال السرد والاستذكار يتم من خلال وعي الشخصيات القصصية المختلفة، وهو وعي مبأر، لأنه يستغور الأعماق الداخلية لهذه الشخصيات التي كانت تقدم وجهات نظرها تجاه الأحداث والواقع الاجتماعي.
ومع أن السرد المهيمن في الرواية هو سرد بطلها (نزار)، الذي هو راويها الضمني، ووكيل المؤلف، إلا أن الكثير من شخصيات الرواية الرئيسة والثانوية قد أسهمت بفاعلية في صياغة نسيج الرواية، مما يجعل الرواية متعددة الأصوات (بوليفونية) لأنها أفسحت المجال للأصوات الأخرى لتعبر عن وجهات نظر بوسائل مختلفة.
هذا ويستدرجنا عنوان الرواية «خانة الشواذي» بوصفه عتبة نصية دالة، كما يذهب إلى ذلك الناقد الفرنسي جيرار جينيت، إلى الطبيعة السياسية لهذه الرواية خاصة عندما يوضع أحد المنفيين فيها. ومصطلح «خانة الشواذي» مصطلح شعبي عراقي يوظف للإشارة إلى المقاعد الخلفية في الحافلات القديمة، ويخصص عادة للفقراء، حيث يعاني الجالسون فيها من اهتزازات الحافلة ومطبات الطريق، وأحياناً يتقافزون مثل القرود أو «الشواذي». (ص 23)
- ناقد عراقي



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!