كسلا... المدينة الفاتنة تقاوم «الفتنة»

صراعات القبائل تحيل حاضرة شرق السودان الخضراء لكوم رماد

الدخان يتصاعد في مدينة كسلا بعد اشتباكات قبلية (صورة متداولة على شبكة الانترنت)
الدخان يتصاعد في مدينة كسلا بعد اشتباكات قبلية (صورة متداولة على شبكة الانترنت)
TT

كسلا... المدينة الفاتنة تقاوم «الفتنة»

الدخان يتصاعد في مدينة كسلا بعد اشتباكات قبلية (صورة متداولة على شبكة الانترنت)
الدخان يتصاعد في مدينة كسلا بعد اشتباكات قبلية (صورة متداولة على شبكة الانترنت)

دوماً، يستعيد السودانيون أسطورة «تاجوج» حسناء شرق السودان الفاتنة، وجميلته الشهيرة التي اغتيلت بسبب «حسنها» في نواحي «جبل التاكا» بمدينة كسلا، كي لا يفتتن بها الرجال، ودفنت هناك فصار مرقدها عند سفح جبل «التاكا»، «مزاراً» ترتاده طالبات الخصب من بنيات ونساء السودان.
ومثلما اغتيلت أجمل النساء في تاريخ الشرق أو السودان لا لسبب إلا لكونها جميلة، فإن مدينة «كسلا» هي الأخرى ولكونها جميلة، «مهددة» وتحيط بها أيدٍ تخبئ الخناجر وتشهر الأسلحة النارية، لاغتيال «حسن» المدينة، لكنها بـ«جمالها تقاوم».
لم يشفع لكسلا جمالها واعتدال مناخها وخضرتها الأبدية، وأنها من بين أجمل مدن البلاد، ولم تكسبها القصائد والأغنيات، وسيرة مأوى العشاق والمحبين، وحديثي الزواج الذين يرتادونها لقضاء شهر العسل، بين خضرتها وماءها العذب المتحدر من جبالها الشهيرة «التاكا وتوتيل»، فاشتعل فيها الاقتتال الإثني الكامن.
وشهدت كسلا الأسابيع الماضية صدامات قبلية وعرقية، أدت لمقتل نحو ستة أشخاص، وجرح العديدين، وإحراق أعداد كبيرة من المتاجر والمساكن، كأن الخنجر «القميء» الذي اغتال تاجوج امتد هو الآخر ليسلب المدينة خضرتها، ويكسيها بالسواد.
اضطر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لإرسال وفد وزاري برئاسة وزير الداخلية الطريفي إدريس، وبرفقته وزير الإعلام فيصل صالح، ووزيرة الشباب آلاء البوشي، ومدير الشرطة وعدد من قادة الأجهزة الأمنية والإعلامية، للاطلاع على الأوضاع على الأرض.
تعود حكاية الدم، إلى إصدار حمدوك لمرسوم رئاسي بتعيين والي «حاكم» للولاية، من المدنيين الذين نصت الوثيقة الدستورية على حكمهم لولايات البلاد الثمانية عشر، في 23 يوليو (تموز) الماضي، ومن بينهم حاكم ولاية كسلا شرقي البلاد صالح عمار.
انقسم المجتمع الكسلاوي حيال الوالي الجديد، أيدته قوى إعلان الحرية والتغيير والمكونات المدنية في كسلا، والمكونات الإثنية الأخرى إلى جانب قبيلته «بني عامر» بمن فيهم رجل القبائل القوى «سليمان بيتاي» المنتمي للمجموعة البجاوية. وعارضته بقوة مجموعة «البجا» التي يقودها الناظر «سيد محمد الأمين ترك» ويساعده مساعد الرئيس المعزول الأسبق «موسى محمد أحمد»، وتوعدت بتفجير الولاية حال إصرار حكومة حمدوك على الوالي صالح عمار.
حطت الطائرة الصغيرة التي كانت تقل الفريق الوزاري القادم لتقصي أبعاد النزاع بمطار المدينة، فوجدت نفسها محاصرة بالخضرة والغيوم والسحاب والمطر، وحسن المناخ واعتداله، لكنها مشحونة بالتوتر والقلق والخوف اللافت.
بدت كسلا خاوية على عروشها نهار «الجمعة» الماضي، واضطر الموكب الوزاري للسير في طرق فرعية، متجنباً الطريق الرئيسي الذي تسيطر عليه مجموعة من المحتجين، برغم حظر التجوال المفروض هناك منذ أيام، ورغم الحراسة المشددة والعربات المسلحة التي كانت ترافقه.
اجتمع وفد حمدوك مطولاً مع اللجنة الأمنية للولاية، وقياداتها في تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير ولجان المقاومة، وقرر رئيس الوفد وزير الداخلية الطريفي إدريس تمديد حظر التجوال لثلاثة أيام قابلة للتجديد، ووجه بتطبيق القانون وفرض هيبة الدولة.
وقال الطريفي للصحافيين إن السلطات شكلت قيادة متقدمة لمتابعة الوضع الأمني واتخاذ ما يلزم من قرارات، وإنه وجه بمحاسبة كل من أخفق من المسؤولين أو القوات النظامية، أو شارك في أحداث العنف التي شهدتها المدينة، إلى جانب التعزيزات التي وصلت المدينة.
واستمعت «الشرق الأوسط» لمواطنين وشهود على الأحداث، أجمعوا على أن تفريط وتباطؤ القوات الأمنية في التصدي للتفلتات فاقهم الأزمة، وهو ما أرجعه وزير الإعلام المتحدث باسم الحكومة فيصل محمد صالح لـ«فجوة» بين القوات النظامية والمواطن بسبب ترسبات سابقة، ودعا لمناقشات تشارك فيها القوى السياسية والاجتماعية وقيادات الأجهزة الأمنية لإزالة الجفوة وحالة عدم الثقة، وتابع: «اللوم الذي ظلت تتعرض له هذه القوات جعلها في كثير من الأحيان تُحجم عن التدخل ومعالجة الأوضاع بصورة جذرية»، وهو ما أشار إليه عدد من المواطنين، وقالوا لـ«الشرق الأوسط» إن قادة عسكريين رفضوا التدخل قائلين: «هذه المدنية التي (الدايرنها) – تريدونها».
وأوضح صالح أن الأزمة ليست أمنية فقط بل أزمة سياسية واجتماعية، تحتاج لجهد كبير لمواجهتها، ووضع معالجات سريعة وعاجلة، متوقعاً اتخاذ قرارات جوهرية بشأن كسلا ووضع الوالي صالح عمار.
وتبادلت إثنيتا بني عامر والبجا، المواكب والمسيرات المتضادة، خلال ثلاثة أيام، وذكر تقرير رسمي صادر عن أمانة حكومة الولاية أمس، إن الهدندوة «إحدى قبائل البجا»، لم تنصع لخط سير الموكب المحدد من قبل سلطات الأمن، واتجهت لمركز المدينة، وحاول بعض المتفلتين الاعتداء على متاجر ومحلات «بني عامر»، فتصدى البعض لهم، وأدى الصدام لإحراق المتاجر ومقتل عدد من المحتجين. وحمّلت تقارير أن ناظر البجا «سيد محمد الأمين ترك» مع مساعد البشير الأسبق «موسى محمد أحمد» المسؤولية عن الصدام، وقالت إن سيارته انحرفت عن قصد عن المسار وتبعها باقي الموكب، ما أربك القوات الأمنية، وأدى للانفلات.
وتتساكن في ولايات شرق السودان منذ قرون، مجموعات البجا ومجموعات البني عامر، وهي مجموعات ذات امتدادات داخل دولة إريتريا المجاورة، وظلت تتبادل الاتهامات كل ضد الأخرى بشأن تبعيتها للسودان أو إريتريا، يجعل التخلف الاقتصادي والتهميش الذي تعيشه الولاية أداة لتفاقم الصراع وتحويله لقنبلة موقوتة قد تنفجر دون إنذار.
مأساة كسلا، تماثل مأساة حسنائها «تاجوج»، أشهر قصة حب في السودان، وتماثل قصة المجنون والعامرية، وربما روميو وجولييت، فـ«تاجوج والمحلق» أشهر عاشقين سودانيين على مر التاريخ.
قتل رجل من القبائل تاجوج بعد أن رأى رجال قبيلته يقتتلون عليها، فخاف على قومه الهلاك فنحرها، وجن المحلق بعد طلاقها منه وزواجها من آخر، ومات وجداً وحباً، فتحولت حكاية الحب لتراجيديا عشق أبدية.
ربما تواجه كسلا المصير ذاته، لم يشفع غزل الشعراء في حسنها وجمالها، مثلها مثل «تاجوجها»، لأن الكل يدّعي أنها مدينته والآخر دخيل، ولا سبيل لاغتيالها من وجدان السودانيين الذين تغنوا لها: «كسلا أشرقت بها شمس وجدي. وهي في الحق جنة الإشراق»، فهل يفلح الجمال في حربه مع القبح فتحقن الدماء... أم يظل الشرق ثغرة قد يؤتى منها السودان؟ هذا ما تحدده الأيام القليلة القادمة.



بيانات أممية: غرق 500 مهاجر أفريقي إلى اليمن خلال عام

رغم المخاطر وسوء المعاملة يواصل المهاجرون التدفق إلى الأراضي اليمنية (الأمم المتحدة)
رغم المخاطر وسوء المعاملة يواصل المهاجرون التدفق إلى الأراضي اليمنية (الأمم المتحدة)
TT

بيانات أممية: غرق 500 مهاجر أفريقي إلى اليمن خلال عام

رغم المخاطر وسوء المعاملة يواصل المهاجرون التدفق إلى الأراضي اليمنية (الأمم المتحدة)
رغم المخاطر وسوء المعاملة يواصل المهاجرون التدفق إلى الأراضي اليمنية (الأمم المتحدة)

على الرغم من ابتلاع مياه البحر نحو 500 مهاجر من القرن الأفريقي باتجاه السواحل اليمنية، أظهرت بيانات أممية حديثة وصول آلاف المهاجرين شهرياً، غير آبهين لما يتعرضون له من مخاطر في البحر أو استغلال وسوء معاملة عند وصولهم.

ووسط دعوات أممية لزيادة تمويل رحلات العودة الطوعية من اليمن إلى القرن الأفريقي، أفادت بيانات المنظمة الدولية بأن ضحايا الهجرة غير الشرعية بلغوا أكثر من 500 شخص لقوا حتفهم في رحلات الموت بين سواحل جيبوتي والسواحل اليمنية خلال العام الحالي، حيث يعد اليمن نقطة عبور رئيسية لمهاجري دول القرن الأفريقي، خاصة من إثيوبيا والصومال، الذين يسعون غالباً إلى الانتقال إلى دول الخليج.

وذكرت منظمة الهجرة الدولية أنها ساعدت ما يقرب من 5 آلاف مهاجر عالق في اليمن على العودة إلى بلدانهم في القرن الأفريقي منذ بداية العام الحالي، وقالت إن 462 مهاجراً لقوا حتفهم أو فُقدوا خلال رحلتهم بين اليمن وجيبوتي، كما تم توثيق 90 حالة وفاة أخرى للمهاجرين على الطريق الشرقي في سواحل محافظة شبوة منذ بداية العام، وأكدت أن حالات كثيرة قد تظل مفقودة وغير موثقة.

المهاجرون الأفارقة عرضة للإساءة والاستغلال والعنف القائم على النوع الاجتماعي (الأمم المتحدة)

ورأت المنظمة في عودة 4.800 مهاجر تقطعت بهم السبل في اليمن فرصة لتوفير بداية جديدة لإعادة بناء حياتهم بعد تحمل ظروف صعبة للغاية. وبينت أنها استأجرت لهذا الغرض 30 رحلة طيران ضمن برنامج العودة الإنسانية الطوعية، بما في ذلك رحلة واحدة في 5 ديسمبر (كانون الأول) الحالي من عدن، والتي نقلت 175 مهاجراً إلى إثيوبيا.

العودة الطوعية

مع تأكيد منظمة الهجرة الدولية أنها تعمل على توسيع نطاق برنامج العودة الإنسانية الطوعية من اليمن، مما يوفر للمهاجرين العالقين مساراً آمناً وكريماً للعودة إلى ديارهم، ذكرت أن أكثر من 6.300 مهاجر من القرن الأفريقي وصلوا إلى اليمن خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهو ما يشير إلى استمرار تدفق المهاجرين رغم تلك التحديات بغرض الوصول إلى دول الخليج.

وأوضح رئيس بعثة منظمة الهجرة في اليمن، عبد الستار إيسوييف، أن المهاجرين يعانون من الحرمان الشديد، مع محدودية الوصول إلى الغذاء والرعاية الصحية والمأوى الآمن. وقال إنه ومع الطلب المتزايد على خدمات العودة الإنسانية، فإن المنظمة بحاجة ماسة إلى التمويل لضمان استمرار هذه العمليات الأساسية دون انقطاع، وتوفير مسار آمن للمهاجرين الذين تقطعت بهم السبل في جميع أنحاء البلاد.

توقف رحلات العودة الطوعية من اليمن إلى القرن الأفريقي بسبب نقص التمويل (الأمم المتحدة)

ووفق مدير الهجرة الدولية، يعاني المهاجرون من الحرمان الشديد، مع محدودية الوصول إلى الغذاء، والرعاية الصحية، والمأوى الآمن. ويضطر الكثيرون منهم إلى العيش في مأوى مؤقت، أو النوم في الطرقات، واللجوء إلى التسول من أجل البقاء على قيد الحياة.

ونبه المسؤول الأممي إلى أن هذا الضعف الشديد يجعلهم عرضة للإساءة، والاستغلال، والعنف القائم على النوع الاجتماعي. وقال إن الرحلة إلى اليمن تشكل مخاطر إضافية، حيث يقع العديد من المهاجرين ضحية للمهربين الذين يقطعون لهم وعوداً برحلة آمنة، ولكنهم غالباً ما يعرضونهم لمخاطر جسيمة. وتستمر هذه المخاطر حتى بالنسبة لأولئك الذين يحاولون مغادرة اليمن.

دعم إضافي

ذكر المسؤول في منظمة الهجرة الدولية أنه ومع اقتراب العام من نهايته، فإن المنظمة تنادي بالحصول على تمويل إضافي عاجل لدعم برنامج العودة الإنسانية الطوعية للمهاجرين في اليمن.

وقال إنه دون هذا الدعم، سيستمر آلاف المهاجرين بالعيش في ضائقة شديدة مع خيارات محدودة للعودة الآمنة، مؤكداً أن التعاون بشكل أكبر من جانب المجتمع الدولي والسلطات ضروري للاستمرار في تنفيذ هذه التدخلات المنقذة للحياة، ومنع المزيد من الخسائر في الأرواح.

الظروف البائسة تدفع بالمهاجرين الأفارقة إلى المغامرة برحلات بحرية خطرة (الأمم المتحدة)

ويقدم برنامج العودة الإنسانية الطوعية، التابع للمنظمة الدولية للهجرة، الدعم الأساسي من خلال نقاط الاستجابة للمهاجرين ومرافق الرعاية المجتمعية، والفرق المتنقلة التي تعمل على طول طرق الهجرة الرئيسية للوصول إلى أولئك في المناطق النائية وشحيحة الخدمات.

وتتراوح الخدمات بين الرعاية الصحية وتوزيع الأغذية إلى تقديم المأوى للفئات الأكثر ضعفاً، وحقائب النظافة الأساسية، والمساعدة المتخصصة في الحماية، وإجراء الإحالات إلى المنظمات الشريكة عند الحاجة.

وعلى الرغم من هذه الجهود فإن منظمة الهجرة الدولية تؤكد أنه لا تزال هناك فجوات كبيرة في الخدمات، في ظل قلة الجهات الفاعلة القادرة على الاستجابة لحجم الاحتياجات.