«الربيع الماضي كانت أول مرة أشعر فيها بالتعب وبأني كبرت. ربما كان السبب هو الجو الفاسد الذي نعيشه في لوس أنجليس. ربما بسبب القضايا الفاسدة التي عملت عليها. غالبها مطاردة أزواج هاربين من زوجاتهم، ثم مطاردة زوجاتهم لكي يدفعن أتعابي. أو ربما لأنني، ببساطة، متعب، وأصبحت أكبر سناً».
هذه كلمات افتتاحية استلهمها فيلم «وداعاً يا حبِّي» لدك رتشاردز (1975) من كتابة المؤلف رايموند تشاندلر الذي أحال بطولة رواياته البوليسية لتحرٍّ مُتعَب اسمه فيليب مارلو.
فيلم دك رتشاردز الذي قام ببطولته روبرت ميتشوم ودار حول بحث مارلو عن امرأة قتلت وستقتل ثانية لكي تستأثر بغنيمة مسروقة، لم يكن الفيلم الوحيد من كتابة تشاندلر الذي كان كتاباً وتحوَّل إلى فيلم، وليس الوحيد الذي تم اقتباسه عن رواية «وداعاً يا حبِّي». في الواقع أول لقاء بين تشاندلر والسينما كان عبر «الصقر يستلم القيادة» (The Falcon Takes Over) سنة 1942. هناك تم استخدام شخصيات هذه الرواية بأسماء أخرى. فيلم آخر ظهر في العام ذاته بعنوان «وقت للقتل» (A Time to Kill) تم اقتباسه عن رواية أخرى كتبها تشاندلر بعنوان «النافذة العالية».
منذ ذلك الحين هناك نحو 40 فيلماً من كتابة تشاندلر المباشرة للسينما، أو اقتباساً عن رواياته. من بينها «ذا بلو داليا» (1946)، و«النوم الكبير» (1946)، و«مارلو» (عن رواية بعنوان «الأخت الصغيرة»، 1969). تشاندلر كتب كذلك سيناريو فيلم ألفرد هيتشكوك «غريبان في قطار» (1951).
وجدانيات
النبرة الحزينة لمطلع فيلم «وداعاً يا حبِّي» بدت طبيعية وفي محلها. التحري الخاص، مثل مارلو، ليس «سوبر هيرو» يمتلك قدرات سحرية تجعله ينتصر في كل مواجهة ويفوز بالتحديات بصرف النظر عن صعوباتها. على العكس، هو رَجُل يعمل في السلك الخصوصي من المهنة البوليسية، لا يحميه القانون ولا يتردد المجرمون في استهدافه. التحري الخاص يُضرب ويُصفع ويُخدع وقد يُخدَّر أو يُصاب بالرصاص ويُترك ليموت.
في «الاستعراض المتأخر» (The Late Show) لروبرت بنتون نتعرَّف على التحري الخاص إيرا وَلز (آرت كارني). متقدِّم في العمر. مفلس. يعرج من رصاصة أصيب بها منذ سنوات، ومصدوم لمقتل شريكه (هوارد دَف). يريد أن يعرف من القاتل، فيكتشف أكثر من ذلك؛ لكنه مثل ميتشوم في «وداعاً يا حبِّي» ومثل همفري بوغارت في «النوم الكبير» (عن رواية أخرى لتشاندلر) يُضرب ويُخدع ويجد نفسه مُهاناً.
«الاستعراض المتأخر» من إنتاج روبرت ألتمَن سنة 1977، الذي قام سنة 1973 بتحقيق فيلم آخر من تأليف تشاندلر هو «الوداع الطويل» (The Long Goodbye) حيث يقوم إليوت غولد بالبحث عن رجل مفقود، وبحثه يقوده إلى مجموعة من المواجهات، بعضها مع البوليس وبعضها مع العالم المحيط.
في هذه الأفلام الثلاثة هناك ما يكفي من الوجدانيات المتألمة لتأليف كتب حولها. وهي ليست الوحيدة ولا مجرد تنويعات محدودة في عالم الفيلم البوليسي. الحال هو أن هواة الفيلم البوليسي الجاد يفضلون الأفلام التي تقودها شخصيات رمادية في ماضيها إحباطات وفي مستقبلها أحلام خادعة. هذا – مثلاً - حال بيرت رينولدز في «حرارة» (1986) الذي هو فيلم بدأه دك رتشاردز وأكمله رينولدز بسبب خلاف بينهما.
في هذا المثال، نجد رينولدز رجلاً معنياً بهموم أصدقائه واللاجئين إليه للمساعدة. في الوقت ذاته هو الحالم يوماً بالانتقال للعيش في إيطاليا. مشروع حياة لا يدري إذا كان سيتحقق.
أو أن الحزن الدفين داخل شخصيات التحري الخاص هو انعكاس لوحدته من ناحية، وموقف من عالم يراه على حقيقته، يتجاوز الأخيار والأشرار ليصب في دائرة اجتماعية واسعة.
في «تشايناتاون» لرومان بولانسكي (1974) لعب جاك نيكولسن الدور الأول بمهارة. في مطلع الفيلم هو إنسان ساخر سريع النكتة، يبدو كما لو أنه مستمتع بوظيفته. مع امتداد الأحداث ينتهي إلى رجل يكتشف أن العالم من حوله يخفي حقائق مخيفة، مثل القدرة على التلاعب بمصائر البشر تحت عذر النظام الاقتصادي.
في «طلقة تحذير» (Warning Shot) لبَز كوليك (1967) نجد الممثل ديفيد جنسن في دور التحري الذي عليه إثبات أن الرجل الذي قتله كان ينوي قتله. هو واثق من أن ذلك الرجل سحب مسدسه؛ لكن في غمرة المفاجأة وتحت ظلام الليل لم يستطع أن يجد المسدس الذي هو دليل براءته، وهو المسدس الذي كاد القتيل أن يستخدمه.
ليس أن شخصية جنسن في هذا الفيلم هي شخصية تحرٍّ خاص آخر (الفيلم مأخوذ عن رواية كتبها ويت ماسترسون بعنوان 711- Office Needs Help)؛ بل هو شرطي رسمي، كذلك حال رتشارد ودمارك في فيلم «ماديغان» لدون سيغال (1968) و«الشرطي الضاحك» لستيوارت روزنبرغ (1973).
في «بوليت» لبيتر ياتس (1968) هو تحرٍّ رسمي أيضاً (ستيف ماكوين) مصمم على النيل من قتلة شاهد عيان تعرضوا له كذلك لتصفيته. خلال ذلك يقاوم ضغوطاً سياسية وعاطفية كبيرة.
تحويل متاعب التحري الخاص لتكون كذلك وقائع ودوافع التحري الرسمي أمر ممكن. كل ما تحتاجه في الحالتين شخصية رجل يمتلك مخزوناً من التصميم والعناد ممتزجاً بأحلام غير محققة، وبسلسلة من المواجهات التي يكتشف من خلالها أن المجرم ليس وحده الذي يستحق العقاب؛ بل المحيط الاجتماعي الذي يضغط على جميع من فيه بلا استثناء.
لكن الفارق الأساسي هو أن التحري الخاص ليس لديه التزام صوب من هو أعلى منه في السلك البوليسي، وعليه بالتالي تبرير كل شيء والتعامل مع القوانين الداخلية. هذا يمنحه حرية أوسع بكثير من مجرد رجل قانون. كذلك يعرِّضه لحالات من الخطر تستفيد الدراما فيها من حقيقة أن التحري الخاص ليس لديه من يدافع عنه أو يحميه.
هذا ورد في «أنجل هارت» لألان باركر، عندما يكتشف ميكي رورك أن من أسند إليه المهمة التي يعمل عليها هو المجرم ذاته.
وفي كثير من الأحيان، نجد أن عالم التحري الخاص يقوده للاحتكاك بالسياسيين الفاسدين، ما يمنح الأفلام بعداً مثيراً آخر. هذا متوفر في «الشيطان يرتدي ثوباً أزرق» لكارل فرانكلين (1995) الذي قام دنزل واشنطن ببطولته. كما في فيلم ألان ج. باكولا «كلوت» (1971)، عندما يتدخل التحري الخاص (دونالد سذرلاند) للدفاع عن امرأة (جين فوندا) يهددها قاتل منتمٍ إلى شخصية سياسية.
عدا رايموند تشاندلر، كتب لفيف كبير جداً من الروائيين الأميركيين قصص التحري الخاص، من بينهم داشل هامت، وجون ماكدونالد، ووولتر موسلي، وروس ماكدونالد، ونايو مارش، وميكي سبيلان، وغالبيتهم أدرك سريعاً قيمة النبرة الحزينة لأبطالهم، كما في المحيط الذي يعيشون فيه.