غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟

شهادات وأدلّة جديدة عن فظائع وتجاوزات ارتكبها

غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟
TT

غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟

غيفارا الرمز... هل كان نقياً؟

نشرت الصحف الأرجنتينية مطالع هذا الشهر إعلاناً لبيع شقّة في العاصمة بوينوس آيريس، تزيد مساحتها عن 200 متر مربّع في الطابق الثاني من مبنى أنيق صّممه آليخاندرو بوستيّو أشهر مهندس معماري في الأرجنتين، ويقع في أحد الأحياء السكنية الراقية، لكن من غير الإشارة إلى أن هذه الشقّة كانت مسقط رأس أرنستو تشي غيفارا الذي عاش فيها الأشهر الأولى من حياته.
الشقّة معروضة للبيع بمبلغ 400 ألف دولار بعد أن فشلت محاولات أصحابها لتحويلها إلى متحف أو مركز ثقافي، بسبب من اعتراض الجيران وعدد من المنظمات غير الحكومية التي تدعو منذ سنوات إلى إعادة نظر جذرية في السرديّات التاريخية التي بُنيت عليها أسطورة الثائر الأرجنتيني الذي أراد تغيير أميركا اللاتينية من فوّهة البندقيّة.
عشرات الكتب والأبحاث صدرت في السنوات الأخيرة تطرح صورة مختلفة جداً عن تلك التي راجت حول أشهر ثائر في التاريخ الحديث، وتتضمّن شهادات موثّقة على ألسنة من كانوا ضحايا ذلك الذي طوال عقود وقع تحت سحر شخصيته ثوّار وحالمون بعالم أفضل والعديد من المخرجين السينمائيين والكتّاب والصحافيين في جميع أنحاء العالم. ومع كل شهادات وأدلّة جديدة عن الفظائع والتجاوزات التي ارتكبها تشي، يبهت البريق الذي رافق مسيرته النضاليّة، وتسقط الهالة عن هامة الرجل الذي دخل الأسطورة منذ لحظة إعدامه في أدغال بوليفيا بعد أن أمضى حياته محاولاً نشر الثورة والفكر الماركسي من أميركا اللاتينية إلى آسيا وأفريقيا.
اللافت أن الناشطين البيئيين ودعاة السلم ومناهضي الأنظمة القائمة الذين يستحضرون اليوم رمزية غيفارا ويرفعونها شعاراً لحركاتهم ونضالهم، لا يستوفون الشروط والمواصفات التي حددّها تشي في أدبيّاته الثورية لذلك «الإنسان الجديد» الذي «ينبغي أن يندفع بقوّة الحقد إلى النضال»، وأن يكون مستعداً أن يتحوّل في اللحظة الحاسمة إلى «آلة باردة وانتقائية للقتل»، كما جاء في الرسالة الأخيرة التي وجهها إلى رفاقه في عام 1967.
لكن الجدل حول «نقاوة» غيفارا الثورية ليس مستجدّاً، بل هو يعود إلى بدايات انحراف الثورة الكوبية نحو التوتاليتارية بعيد اغتيال تشي عندما قرّر فيديل كاسترو الاصطفاف في المعسكر السوفياتي، ثم بلغ ذروته عندما اضطرت كوبا إلى تقديم «تنازلات» لاقتصاد السوق بعد أن جفّت فجأة ينابيع الكرملين التي كانت تضخّ النظام بالمساعدات. ومنذ سنوات تشهد الأوساط الفكرية والأكاديمية في أميركا اللاتينية نقاشاً حاداً بين الذين يعتبرون غيفارا محرِّراً وشهيداً ثورياً، ويرسمون له صورة «كيخوتية» مستعدّة لمواجهة طواحين الإمبريالية أينما كان، وأولئك الذين يرون فيه تجسيداً لفشل النموذج الذي حاول أن يفرضه ذلك الثائر الذي ارتقى إلى رتبة «كوماندانتي» في جبال سييرا مايسترا.
في العام الماضي وقّع أكثر من 20 ألف شخص عريضة تطالب بإزالة كل النصب واللوحات التذكارية المخصصة لتكريم غيفارا في مسقط رأسه بمدينة روزاريو. وفي عام 2018 عندما نظمّت بلدية العاصمة الفرنسية معرضاً حول «تشي في باريس» طلب مجموعة من المفكّرين والأكاديميين سحبها فوراً، لكن رئيسة البلدية الاشتراكية آنا إيدالغو، وهي إسبانية الأصل، رفضت الطلب، وقالت إن «المعرض هو تكريم من باريس لرمز الثورة التي تحوّل إلى أيقونة رومانسية».
في كتابه «وجه تشي المخفي»، يقول الباحث الكوبي المنشقّ خاكوبو ماكوفير، إن غيفارا كان يصرّ على حضور أعمال تنفيذ أحكام الإعدام رمياً بالرصاص التي كانت تحصل خلال السنة الأولى التي تلت الثورة، وأن الكوبيّين كانوا يطلقون عليه لقب «الجزّار». ويذكّر بالخطاب الشهير الذي ألقاه عام 1964 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة كمندوب لكوبا، وما تلاه من حق الردّ على مداخلات عدد من الوفود الأميركية اللاتينية، حيث قال: «لقد أعدمنا، وما زلنا نعدم وسنواصل الإعدام طالما هو ضروري».
لكن رغم ذلك ما زالت صورة غيفارا وأسطورته الثورية مصدر إلهام لكثيرين، كما أن مسيرته القصيرة التي قطعها مقتله المبكّر عندما كان يسعى إلى إشعال وقود تمرّد آخر في بوليفيا بعد أن اكتفى بمرور سريع في الطبقة العليا من هرم السلطة، ما زالت تحيطه بهالة لن يكون من السهل إطفاء وهجها.
ومع اشتداد الحملة الهادفة إلى إبراز الأوجه غير المشرقة في شخصية غيفارا ومسيرته الثورية، نشطت الجهات التي ما زالت تعتبره أيقونة الثورة العالمية بامتياز في استحضار المزيد من الأدلّة والوثائق التي تعزّز أسطورة الثائر الذي ما زال مصدر إلهام للكثيرين في شتى أنحاء العالم.
وفي مطلع هذا الشهر، صدر الجزء الأخير من سلسلة «مشروع تشي غيفارا للنشر» التي تضمّ 20 مجلّداً، وهو عبارة عن مجموعة من الرسائل التي يُنشر معظمها لأول مرة، بعضها موجّه إلى أولاده وأفراد أسرته، والبعض الآخر إلى رفاقه في النضال الثوري وفي طليعتهم فيديل كاسترو.
يقول تشي في رسالة إلى ابنه الأصغر «تاتيكو» كتبها من أدغال بوليفا ومؤرخة عام 1977: «عليك الآن أن تنضج وتكبر حتى يشتدّ عودك، وسنرى بعد ذلك. إن كانت الإمبريالية ما زالت تهيمن على العالم، سنخرج معاً لنقاتلها، وإن كانت قد لفظت أنفاسها سنذهب مع كاميلو - ابنه البكر - في عطلة إلى القمر».
وإلى زوجته آلييدا مارش، كتب في رسالته الأخيرة لها يقول: «ثمّة أيام يتساقط فيها الحنين على جوارحي كالأزاميل، ويتملكّني.. خصوصاً فترة أعياد الميلاد ورأس السنة، وأتوق إلى طقوس دمعك يلمع تحت السماء المرصّعة بنجوم جديدة تذكّرني بالنذر القليل الذي حظيت به من هذه الحياة على الصعيد الشخصي».
وتتضمن المجموعة رسائل تكشف التطور الفكري والسياسي لغيفارا ومعلومات مهمة عن السنوات الأولى للثورة الكوبية، عندما كان يتولّى فيها مناصب قيادية كان لها تأثير مباشر على مستقبلها، إضافة إلى أخرى تتناول جوانب غير معروفة عن علاقاته الأسرية وصداقاته. وهي مبوّبة على ثلاثة أقسام:
الأول، رسائل مرحلة الشباب (1947 - 1956) التي بدأت مع انخراطه في النضال الثوري حتى النصر الكبير والحاسم في معركة «سانتا كلارا» التي انتهت بسقوط نظام باتيستا.
الثاني، رسائل الفترة التي تولّى فيها مناصب رسمية (1959 - 1965) كوزير للصناعة وحاكم للمصرف المركزي، وتتضمّن معلومات قيّمة عن مشاركاته في الندوات الاقتصادية والسياسية التي غالباً ما كان يوجّه فيها انتقادات لرفاقه وفي طليعتهم فيديل كاسترو.
والثالث، رسائل مرحلة التضامن الدولي (1965 - 1967) التي بدأت بالفشل الذريع الذي أصاب محاولته مساعدة ثوّار الكونغو، وانتهت في بوليفيا، حيث فشل الثوار أيضاً في قلب النظام الذي كان مدعوماً من الولايات المتحدة، وحيث كتب «يوميّات المعركة» الشهيرة قبل اعتقاله وإعدامه رمياً بالرصاص.
ولعلّ الرسالة الأهمّ في هذا المجلّد هي تلك التي وجهها إلى فيديل عشيّة سفره إلى أفريقيا، لينضمّ إلى ثوّار الكونغو ويستهلّها بقوله: «ثمّة بلاد أخرى في العالم تحتاج إلى جهودي المتواضعة...»، التي كان كاسترو يقتبس منها في خطبه من غير أن يشير إلى المصدر.
وفي الرسالة الأخيرة الموجهة إلى فيديل قبل أن ينتقل غيفارا من الكونغو إلى بوليفيا يقول: «ارتكبنا الكثير من الأخطاء، في الاقتصاد، كما في السياسة، بسبب من الارتجال في تطبيق أفكارنا ونظرياتنا، وأيضاً بسبب من إصرارنا على وضع أهداف يستحيل تحقيقها».
وعندما كان تشي ينتظر في تانزانيا تدبير انتقاله إلى بوليفيا كتب إلى صديقه آرماندو هارت المسؤول عن التنظيم في الحزب الشيوعي يقول: «خلال هذه (العطلة) الطويلة قررت أن أخوض غمار الفلسفة بعد سنوات من التوق والتردد، لكني اصطدمت بصعوبة غير متوقعة، وهي أني لم أعثر على منشورات فلسفية سوى المجلدات السوفياتية التي تمنعك من التفكير... لقد أنجزنا الكثير، وأعتقد أنه سيأتي يوم لا بد أن نبدأ فيه بالتفكير».


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.