مراوغة السقوط في الأطر الجميلة

منى العساسي تجسدها بروايتها «ليالي الهدنة»

مراوغة السقوط في الأطر الجميلة
TT

مراوغة السقوط في الأطر الجميلة

مراوغة السقوط في الأطر الجميلة

يهيمن صراع العقل والعاطفة على أجواء رواية «ليالي الهدنة... مطارحات الألم» للروائية منى العساسي، التي ستصدر خلال الأيام المقبلة عن «دار ميريت للنشر» بالقاهرة. يتجسد هذا الصراع في اللعب على حبال الحلم والذاكرة، فكلاهما يحاول استعادة الآخر ويفيض عنه، في سياق لغة رومانتيكية صادمة في نعومتها، وزمن يتأرجح ما بين ماض مثقل بالألم والمرارة، تنفصل عنه البطلة بحثاً عن زمن آخر بديل، تمارس فيه حيويتها كأنثى، وتعيشه بروائحه وإيقاعه وتوتره الخاص كلحظة مراوغة، لكنه مع ذلك لا يسلم من السقوط في براثن واقع شرهٍ ومضطرب مليء بالمتناقضات والمفارقات الإنسانية.
الرواية قدم لها الروائي فتحي إمبابي بدراسة ضافية احتلت 23 صفحة من 152 صفحة يضمها الكتاب، مؤكداً على أن «ليالي الهدنة أنشودة من الألم والفقد والوحدة، تستخدم فيها الكاتبة تكنيك تيار الوعي، عبر لغة آسِرة، شفافة».
تعتمد الكاتبة على بنية المتتالية السردية لإدارة لعبتها، من منظور علاقة عاطفية مفترضة بين رجل خمسيني وامرأة شابة، تتشابه ظروفهما الاجتماعية إلى حد كبير، فكلاهما خاض تجربة الحياة الزوجية، عاشتها المرأة كسجن على مدى 15 عاماً وفرّت بطفلها الصغير، وهو أيضاً يعيش وحيداً تؤنسه صورة ابنته الشابة التي تعيش مع زوجته السابقة. تحت هذه المظلَّة يوحدهما الحب في لحظة، ويشتتهما، وكأنه لا زمن له، سوى بعثرة الزمن نفسه. لتومض مطارحات الألم بين ماضي اللحظة وحاضرها في الوقت نفسه، مفسحة المجال لآلية الذاكرة والحلم ليتناوبا رسم أغلب المشاهد والمواقف والرؤى، وتجتهد الكاتبة في خلق جسر شفيف بين الوعي واللاوعي عبر ضمير المتكلم الصريح على لسان الذات الساردة (الكاتبة) وضمير المخاطب المضمر في ثنايا لطشات التعليقات الخاطفة لذات أخرى تلعب دور المراقب الضمني للأحداث والمشاهد.
يقترن الحب دائماً بالسؤال عن الحب، كأنه حالة شائكة من الحنين الطافر الموجِع لواقع مفتقَد ووجود متخيل يشبه الحقيقة، والعكس صحيح أيضاً، ومنذ البداية تمارس الكاتبة نوعاً من التمويه الشفيف على أجواء عالمها، موظّفة بنية الإرجاء ليبدو الوجود كحقيقة ومثال أبعد من تخوم اللحظة الحسية العابرة، وتفسح الفرصة للصراع حتى يستوي في مَدّه وجذره العاطفي، ويصل إلى ذروته الدرامية بتلقائية مفاجئة وشيقة.
وعلى ذلك تبدأ الليالي الخمس والثلاثون من الليلة الثانية، تاركة الليلة الأولى معلّقة في سقف الصراع، تناوش خيال القارئ، فيبدو وكأنه طرف في اللعبة، أيضاً لا تسمي الكاتبة الشخوص التي تومض في الرواية بأسماء محددة سواء في الحلم أو الواقع، مستعيضة عن ذلك بالتعريف بالكنية والصفة، فتنعت البطل على سبيل المثال بـ«الرجل الخمسيني» أو «الكهل الخمسيني»، كما أننا لا نجد توصيفاً محدداً لماهية المكان والزمان، إنما ينبثق كلاهما من رحم لحظة ليلية، تقبع فيها البطلة بركن قصي في ذاتها، تجعل منه مرآة ينعكس عليها العالم، كما تحب أن تراه وتشتهيه، تخاطب في ظلالها صورة حبيبها العاشق بلغة عاطفية لاعجة، تستحضره وهو يدخن، وهو يسمع الموسيقي، وهو يجلس في الشرفة أو على الأريكة، وترتب معه اللقاءات عبر الهاتف، وتبثه حرقتها وحنينها والخوف الذي يحاصرها بالضجر والقلق: «الخوف الذي يجعلك فريسة سهلة لكل عابر سبيل يبتزك باسم الحب، الخوف الذي يجعلك تبذل كل شيء، كل رخيص وغالٍ مقابل البقاء، مقابل القبول والحب غير المشروط. الخوف ذاته الذي يجعلني أحبك بكل هذا التطرف» (الليلة الخامسة).
ليس هناك وجود متعين بذاته ولذاته، إنما بالرغبة فيه، إلى حد الاشتهاء والفناء، وهو ما يشي أحياناً بمسحة صوفية تعززها إشارات خاطفة تتناثر في تفاصيل السرد، فتحضر ظلال لحكايات معينة من التراث الديني ذات نكهة عاطفية خاصة، ويحضر كافكا وبطل رواية «العطر»، ويحضر شعراء وموسيقيون. تقول في تضاعيف «الليلة الثامنة» محاولة الإيهام بطبيعة المكان: «الطرقات المزدحمة بمدينتك الصاخبة لا تشبه أبداً الطرقات الخالية بهذه البلدة الصغيرة التي لا تمنحني الكثير لأنشغل به»، «رجفات أوراق الشجر ورائحتها القوية على جانبي الطريق تمارس غوايتها، كأنها تتحرش بذاكرتي».ورغم ذلك تنأى الرواية عن طابع المتاهة السردية ابنة الخرافة والأسطورة غالباً، بينما تعلو متاهة الروح والجسد، بما ينطويان من تعارضات وفواصل زمنية سميكة.
ما الحب إذن: هل هو الانغمار في أشياء حين نعرفها نجهلها، وكيف يتجدد حين يشارف خط الزوال؟ ينعكس هذا التوتر في حزمة من الدوال الأساسية: الترقب والانتظار، اللهفة والحنين، اللذة والخوف، مرارة الألم والفقد، التشبث بالرائحة وتكثيفها، كأثر لوجود ما، مضى أو راهن. يتم ذلك في سباق محموم مع فكرة التبعثر، يطال الذات والمكان والزمان، فكأننا إزاء محاولة مستميتة للإمساك بلحظات تتجمع، لتتشتت، تبدو كإطار فارغ لحريتين تتصارعان من أجل الوصول لأسرع نقطة يمكن منها الخروج بأمان، بعيداً عن قسوة التجربة واللعبة.
زمن ليلي ابن لحظته، حيث كل شيء يشتعل ويفور في الداخل، اختارته الكاتبة بوعي شديد لتكثف الإحساس بالوحدة والعجز والوجود الناقص المشوَّه، فالليل صيّاد أشباح يصبح فيه الوضوح قناعاً للعمى.
واللافت أنه حين تخف وتيرة الحلم والذاكرة من فضاء اللعبة، يتحول صراع العقل والعاطفة إلى صراع بين الذكورة والأنوثة؛ بين طرف يريدها علاقة قوية ومتأججة دوماً فوق السطح، وآخر يريدها هادئة تجري ببطء فوق السطح وفي الأعماق، محكومة بنظرة عقلانية لزمنها العابر وسياق واقعها المعقد. لكن الطرف الأول المتجسد في صورة المرأة الشابة يظل هو الأكثر سطوةً وحضوراً، بينما لا يحضر الطرف الآخر إلا من خلالها، لذلك يظل نقطة غائمة بين حبال الحلم والذاكرة، ونوبات الهذيان والشطح العاطفي الحارق، وهو ما يجعلنا أحياناً أمام شكل من أشكال بنية الرسائل، بين طرفين مرسل ومسقبِل، لكن كليهما غائب وحاضر في الوقت نفسه، ما يذكرنا بمناخات مسرح العبث واللامعقول، والمطاردات الكابوسية في الحلم والواقع التي تصل إلى حد الهوس واللاجدوى، حيث لا معنى لشيء.
في غبار كل هذا تطل الغيرة والرغبة في الاستحواذ، فتتصور البطلة أن امرأة أخرى ستخطف منها حبيبها الخمسيني. فيما يوسع الهذيان من فجوة الحب، ويصبح مرادفاً للجنون والانتحار، وإدمان عقاقير الهلوسة: «بحثتْ عن شيء يخلصها من مخالب الفكر والأرق التي مزقتها، تناولت حبّة من منتجات (الزوبيكلون)، وتمددت فوق السرير كجثة تائهة في المصباح المتدلي فوقها من سقف الغرفة، تتصبب عرقاً، وضجيج أنفاسها يذكرها بأنين فتاة وحيدة في غرفة بمشفى حدودي، تفصلها عنه سبع سنوات عجاف تقتات فيها بقايا حب، وآلاف الأميال ومئات التعرجات الأرضية غارقة في دمائها»، وهي الفتاة نفسها التي تطاردها في الليلة التالية، بإيقاع قاسٍ يكثف شعورها الحاد بالفصام: «أشعر أن هناك فتاة أخرى داخلي تعشق الظلام، تستيقظ في جسدي بعد أن أنام، وتعبث بتركيبتي النفسية، تعيد هيكلة أفكاري وقناعاتي، وتمنحني صيغة جديدة لقبول كل ما أعتبره مُحرَّماً، أو مذموماً، تجعل الهواجس المرعبة شهية لذيذة كنوع الشيكولاتة المفضل لدي، وتسحبني في طرق ملتوية ومتشابكة حتى لا أستطيع العودة».
كما تعبر بوضوح عن سيكولوجية الاضطراب النفسي قائلة: «أُفضّل تلك العلاقات المعقدة التي لا أعرف فيها طعم الراحة والاستقرار، فكل لحظة تمر بمثابة حدث منفرد لا بد أن يصدر ضجة، لا ترضيني العلاقات الهادئة التي أغفو وأستيقظ فيها على نفس درجة الثبات، على نفس الروتين والأحداث».
تعي البطلة حقيقة لعبتها وما تنطوي عليه من مخاطر، وتحتال عليها حتى بالصمت أحياناً متسائلة: «كيف أنهي تلك المهزلة؟»، ولأنها اعتادت ألا جدوى للسؤال أو الإجابة، لا تملك سوى الرثاء لنفسها، معرية تناقضات واقعها بقسوة: «في أوطاننا هناك رجال للحب فقط، ونساء أيضاً للحب فقط... وهناك أيضاً رجال ونساء للزواج فقط، وقَلّما تجد من يصلح لسواهما معا، الشيء المقزز أنهم أدمنوا أن يكونوا مدعين زائفين لتستمر هذه اللعبة» (الليلة 24).
وفي معرض الرثاء المشوب بالتهكم والسخرية توجه خطابها للعاشق: «بصراحة، الأيام ثقيلة دونك أيها السيد، ألا تمنح قلبي سلاماً، كي يهدأ؟» (25) «أي هدنة تلك وأنا فيك سجينة!» (29).
هنا تبلغ نشوة التحدي بالتهيؤ للخروج النهائي من اللعبة، ويصل الصراع بسلاسة لذروته درامياً، موحداً فعل الحب بالتحرر من الهشاشة والضعف: «سأعلق جثتك على باب ذاكرتي، لتبقى هكذا كسوط جلاد يوجعني كلما التفت نحوك بعين ضعفي». (ليلة فقدت ترتيبها).
وهكذا، إنه بطل صنعته الكاتبة بخيالها الشاسع، وبدهاء فني حولته إلى دمية عارية على مسرح مكشوف، وشَرَك للسقوط في الأطر المرعبة الجميلة، لا لتمارس نوازع الثأر والانتقام، وإنما لتفكّك لغز الألم الكامن تحت قشرة الوجود، وتختبر قدرتها على الخروج وتحمل براءة الرعب، ومواصلة الحياة بعيداً عن واقع أصبح الخيال أكثر إنسانية وصدقاً من دبيبه الرتيب.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.