مراوغة السقوط في الأطر الجميلة

منى العساسي تجسدها بروايتها «ليالي الهدنة»

مراوغة السقوط في الأطر الجميلة
TT

مراوغة السقوط في الأطر الجميلة

مراوغة السقوط في الأطر الجميلة

يهيمن صراع العقل والعاطفة على أجواء رواية «ليالي الهدنة... مطارحات الألم» للروائية منى العساسي، التي ستصدر خلال الأيام المقبلة عن «دار ميريت للنشر» بالقاهرة. يتجسد هذا الصراع في اللعب على حبال الحلم والذاكرة، فكلاهما يحاول استعادة الآخر ويفيض عنه، في سياق لغة رومانتيكية صادمة في نعومتها، وزمن يتأرجح ما بين ماض مثقل بالألم والمرارة، تنفصل عنه البطلة بحثاً عن زمن آخر بديل، تمارس فيه حيويتها كأنثى، وتعيشه بروائحه وإيقاعه وتوتره الخاص كلحظة مراوغة، لكنه مع ذلك لا يسلم من السقوط في براثن واقع شرهٍ ومضطرب مليء بالمتناقضات والمفارقات الإنسانية.
الرواية قدم لها الروائي فتحي إمبابي بدراسة ضافية احتلت 23 صفحة من 152 صفحة يضمها الكتاب، مؤكداً على أن «ليالي الهدنة أنشودة من الألم والفقد والوحدة، تستخدم فيها الكاتبة تكنيك تيار الوعي، عبر لغة آسِرة، شفافة».
تعتمد الكاتبة على بنية المتتالية السردية لإدارة لعبتها، من منظور علاقة عاطفية مفترضة بين رجل خمسيني وامرأة شابة، تتشابه ظروفهما الاجتماعية إلى حد كبير، فكلاهما خاض تجربة الحياة الزوجية، عاشتها المرأة كسجن على مدى 15 عاماً وفرّت بطفلها الصغير، وهو أيضاً يعيش وحيداً تؤنسه صورة ابنته الشابة التي تعيش مع زوجته السابقة. تحت هذه المظلَّة يوحدهما الحب في لحظة، ويشتتهما، وكأنه لا زمن له، سوى بعثرة الزمن نفسه. لتومض مطارحات الألم بين ماضي اللحظة وحاضرها في الوقت نفسه، مفسحة المجال لآلية الذاكرة والحلم ليتناوبا رسم أغلب المشاهد والمواقف والرؤى، وتجتهد الكاتبة في خلق جسر شفيف بين الوعي واللاوعي عبر ضمير المتكلم الصريح على لسان الذات الساردة (الكاتبة) وضمير المخاطب المضمر في ثنايا لطشات التعليقات الخاطفة لذات أخرى تلعب دور المراقب الضمني للأحداث والمشاهد.
يقترن الحب دائماً بالسؤال عن الحب، كأنه حالة شائكة من الحنين الطافر الموجِع لواقع مفتقَد ووجود متخيل يشبه الحقيقة، والعكس صحيح أيضاً، ومنذ البداية تمارس الكاتبة نوعاً من التمويه الشفيف على أجواء عالمها، موظّفة بنية الإرجاء ليبدو الوجود كحقيقة ومثال أبعد من تخوم اللحظة الحسية العابرة، وتفسح الفرصة للصراع حتى يستوي في مَدّه وجذره العاطفي، ويصل إلى ذروته الدرامية بتلقائية مفاجئة وشيقة.
وعلى ذلك تبدأ الليالي الخمس والثلاثون من الليلة الثانية، تاركة الليلة الأولى معلّقة في سقف الصراع، تناوش خيال القارئ، فيبدو وكأنه طرف في اللعبة، أيضاً لا تسمي الكاتبة الشخوص التي تومض في الرواية بأسماء محددة سواء في الحلم أو الواقع، مستعيضة عن ذلك بالتعريف بالكنية والصفة، فتنعت البطل على سبيل المثال بـ«الرجل الخمسيني» أو «الكهل الخمسيني»، كما أننا لا نجد توصيفاً محدداً لماهية المكان والزمان، إنما ينبثق كلاهما من رحم لحظة ليلية، تقبع فيها البطلة بركن قصي في ذاتها، تجعل منه مرآة ينعكس عليها العالم، كما تحب أن تراه وتشتهيه، تخاطب في ظلالها صورة حبيبها العاشق بلغة عاطفية لاعجة، تستحضره وهو يدخن، وهو يسمع الموسيقي، وهو يجلس في الشرفة أو على الأريكة، وترتب معه اللقاءات عبر الهاتف، وتبثه حرقتها وحنينها والخوف الذي يحاصرها بالضجر والقلق: «الخوف الذي يجعلك فريسة سهلة لكل عابر سبيل يبتزك باسم الحب، الخوف الذي يجعلك تبذل كل شيء، كل رخيص وغالٍ مقابل البقاء، مقابل القبول والحب غير المشروط. الخوف ذاته الذي يجعلني أحبك بكل هذا التطرف» (الليلة الخامسة).
ليس هناك وجود متعين بذاته ولذاته، إنما بالرغبة فيه، إلى حد الاشتهاء والفناء، وهو ما يشي أحياناً بمسحة صوفية تعززها إشارات خاطفة تتناثر في تفاصيل السرد، فتحضر ظلال لحكايات معينة من التراث الديني ذات نكهة عاطفية خاصة، ويحضر كافكا وبطل رواية «العطر»، ويحضر شعراء وموسيقيون. تقول في تضاعيف «الليلة الثامنة» محاولة الإيهام بطبيعة المكان: «الطرقات المزدحمة بمدينتك الصاخبة لا تشبه أبداً الطرقات الخالية بهذه البلدة الصغيرة التي لا تمنحني الكثير لأنشغل به»، «رجفات أوراق الشجر ورائحتها القوية على جانبي الطريق تمارس غوايتها، كأنها تتحرش بذاكرتي».ورغم ذلك تنأى الرواية عن طابع المتاهة السردية ابنة الخرافة والأسطورة غالباً، بينما تعلو متاهة الروح والجسد، بما ينطويان من تعارضات وفواصل زمنية سميكة.
ما الحب إذن: هل هو الانغمار في أشياء حين نعرفها نجهلها، وكيف يتجدد حين يشارف خط الزوال؟ ينعكس هذا التوتر في حزمة من الدوال الأساسية: الترقب والانتظار، اللهفة والحنين، اللذة والخوف، مرارة الألم والفقد، التشبث بالرائحة وتكثيفها، كأثر لوجود ما، مضى أو راهن. يتم ذلك في سباق محموم مع فكرة التبعثر، يطال الذات والمكان والزمان، فكأننا إزاء محاولة مستميتة للإمساك بلحظات تتجمع، لتتشتت، تبدو كإطار فارغ لحريتين تتصارعان من أجل الوصول لأسرع نقطة يمكن منها الخروج بأمان، بعيداً عن قسوة التجربة واللعبة.
زمن ليلي ابن لحظته، حيث كل شيء يشتعل ويفور في الداخل، اختارته الكاتبة بوعي شديد لتكثف الإحساس بالوحدة والعجز والوجود الناقص المشوَّه، فالليل صيّاد أشباح يصبح فيه الوضوح قناعاً للعمى.
واللافت أنه حين تخف وتيرة الحلم والذاكرة من فضاء اللعبة، يتحول صراع العقل والعاطفة إلى صراع بين الذكورة والأنوثة؛ بين طرف يريدها علاقة قوية ومتأججة دوماً فوق السطح، وآخر يريدها هادئة تجري ببطء فوق السطح وفي الأعماق، محكومة بنظرة عقلانية لزمنها العابر وسياق واقعها المعقد. لكن الطرف الأول المتجسد في صورة المرأة الشابة يظل هو الأكثر سطوةً وحضوراً، بينما لا يحضر الطرف الآخر إلا من خلالها، لذلك يظل نقطة غائمة بين حبال الحلم والذاكرة، ونوبات الهذيان والشطح العاطفي الحارق، وهو ما يجعلنا أحياناً أمام شكل من أشكال بنية الرسائل، بين طرفين مرسل ومسقبِل، لكن كليهما غائب وحاضر في الوقت نفسه، ما يذكرنا بمناخات مسرح العبث واللامعقول، والمطاردات الكابوسية في الحلم والواقع التي تصل إلى حد الهوس واللاجدوى، حيث لا معنى لشيء.
في غبار كل هذا تطل الغيرة والرغبة في الاستحواذ، فتتصور البطلة أن امرأة أخرى ستخطف منها حبيبها الخمسيني. فيما يوسع الهذيان من فجوة الحب، ويصبح مرادفاً للجنون والانتحار، وإدمان عقاقير الهلوسة: «بحثتْ عن شيء يخلصها من مخالب الفكر والأرق التي مزقتها، تناولت حبّة من منتجات (الزوبيكلون)، وتمددت فوق السرير كجثة تائهة في المصباح المتدلي فوقها من سقف الغرفة، تتصبب عرقاً، وضجيج أنفاسها يذكرها بأنين فتاة وحيدة في غرفة بمشفى حدودي، تفصلها عنه سبع سنوات عجاف تقتات فيها بقايا حب، وآلاف الأميال ومئات التعرجات الأرضية غارقة في دمائها»، وهي الفتاة نفسها التي تطاردها في الليلة التالية، بإيقاع قاسٍ يكثف شعورها الحاد بالفصام: «أشعر أن هناك فتاة أخرى داخلي تعشق الظلام، تستيقظ في جسدي بعد أن أنام، وتعبث بتركيبتي النفسية، تعيد هيكلة أفكاري وقناعاتي، وتمنحني صيغة جديدة لقبول كل ما أعتبره مُحرَّماً، أو مذموماً، تجعل الهواجس المرعبة شهية لذيذة كنوع الشيكولاتة المفضل لدي، وتسحبني في طرق ملتوية ومتشابكة حتى لا أستطيع العودة».
كما تعبر بوضوح عن سيكولوجية الاضطراب النفسي قائلة: «أُفضّل تلك العلاقات المعقدة التي لا أعرف فيها طعم الراحة والاستقرار، فكل لحظة تمر بمثابة حدث منفرد لا بد أن يصدر ضجة، لا ترضيني العلاقات الهادئة التي أغفو وأستيقظ فيها على نفس درجة الثبات، على نفس الروتين والأحداث».
تعي البطلة حقيقة لعبتها وما تنطوي عليه من مخاطر، وتحتال عليها حتى بالصمت أحياناً متسائلة: «كيف أنهي تلك المهزلة؟»، ولأنها اعتادت ألا جدوى للسؤال أو الإجابة، لا تملك سوى الرثاء لنفسها، معرية تناقضات واقعها بقسوة: «في أوطاننا هناك رجال للحب فقط، ونساء أيضاً للحب فقط... وهناك أيضاً رجال ونساء للزواج فقط، وقَلّما تجد من يصلح لسواهما معا، الشيء المقزز أنهم أدمنوا أن يكونوا مدعين زائفين لتستمر هذه اللعبة» (الليلة 24).
وفي معرض الرثاء المشوب بالتهكم والسخرية توجه خطابها للعاشق: «بصراحة، الأيام ثقيلة دونك أيها السيد، ألا تمنح قلبي سلاماً، كي يهدأ؟» (25) «أي هدنة تلك وأنا فيك سجينة!» (29).
هنا تبلغ نشوة التحدي بالتهيؤ للخروج النهائي من اللعبة، ويصل الصراع بسلاسة لذروته درامياً، موحداً فعل الحب بالتحرر من الهشاشة والضعف: «سأعلق جثتك على باب ذاكرتي، لتبقى هكذا كسوط جلاد يوجعني كلما التفت نحوك بعين ضعفي». (ليلة فقدت ترتيبها).
وهكذا، إنه بطل صنعته الكاتبة بخيالها الشاسع، وبدهاء فني حولته إلى دمية عارية على مسرح مكشوف، وشَرَك للسقوط في الأطر المرعبة الجميلة، لا لتمارس نوازع الثأر والانتقام، وإنما لتفكّك لغز الألم الكامن تحت قشرة الوجود، وتختبر قدرتها على الخروج وتحمل براءة الرعب، ومواصلة الحياة بعيداً عن واقع أصبح الخيال أكثر إنسانية وصدقاً من دبيبه الرتيب.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.