هل تعزز العزلة الإبداع حقاً؟

من أبرز صفات المبدعين قلة اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية

ليف أولمان
ليف أولمان
TT

هل تعزز العزلة الإبداع حقاً؟

ليف أولمان
ليف أولمان

في مذكراتها (أتغير) كتبت الممثلة ليف أولمان «لطالما اعتبرت الكتب كائنات حية بعد أن صادفت مؤلفين غيروا حياتي قليلاً، فبينما أمر بفترة ارتباك ما، أبحث عن شيء لا أستطيع تحديده، إذا بكتاب معين يظهر، ويتقدم مني كما يفعل صديق، يحمل بين دفتيه الأسئلة والأجوبة التي أفتش عنها».
وكما وصفت أولمان علاقتها بالكتب كان كتاب «فلسفة الوحدة» للفيلسوف النرويجي لارس سفيندسون الذي أجاب عن الكثير من أسئلة الوحدة والعزلة والفرق بينهما، كيف تكون وحيدا أو مستوحدا؟ لماذا يكون الشعور بالوحدة مؤلما للغاية؟ وسؤاله الذي استوقفني «هل العزلة في الصحراء أقل قسوة من العزلة بين البشر؟»
لقد تعرض العالم خلال الفترة الماضية إلى عزلة إجبارية في زمن جائحة «كوفيد - 19» فقد أصبحنا في مواجهة مع أنفسنا رغما عنا، واختفت تلك المشاغل الاجتماعية والالتزامات التي كانت تملأ أوقاتنا، وبقينا في المنازل نمارس العمل والدراسة عن بعد من خلال التطبيقات الإلكترونية، ورغم ادعائنا بالراحة والتخلص من عبء الواجبات الاجتماعية في فترة انتشار الفيروس، فإن تلك العزلة كانت مؤلمة للبعض، وذلك بسبب عدم امتلاكهم للشجاعة في مواجهة ذواتهم والتعرف على المشاعر الحقيقية التي تعترض الجميع دون استثناء في هذه الفترة.
الوحدة في مواجهة الذات
الوحدة الدائمة كما عرفها سفيندسون هي حالة يعاني فيها الشخص من الألم المستمر بسبب عدم وجود علاقات مرضية مع الآخرين، إن الوحدة تخبرنا شيئا عن أنفسنا وعن مكاننا في العالم، إذ إنها تخبرنا عن مدى أهمية وجودنا من عدمه، فهي ترتبط بشكل خاص بالعار وبالصعوبة التي يواجهها الناس في الاعتراف بالوحدة علنا، باختصار الوحدة هي ألم اجتماعي يشير إلى أن حياة الفرد الاجتماعية ليست مرضية، فنحن ماهرون بشكل مدهش في خداع الذات، ويمكننا الفرار من الآخرين بالابتعاد جسديا أو إيقافهم عقليا، لكننا لا نستطيع الهرب من أنفسنا ومواجهتها بالحقيقة. هكذا أصبح بقاؤنا في المنزل يشعرنا بنوع من التهديد، فقد فرضت علينا هذه المواجهة مع الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، وتعرض روتين حياتنا اليومي إلى ارتباك، وخلق بقاؤنا في المنزل لفترات طويلة الكثير من التساؤلات عن تلك المشاعر التي تعترضنا في هذه الفترة تحديدا، وسببت تلك العزلة المفروضة نوعا من الشعور بالوحدة والعزلة مع اكتشاف الفجوة الهائلة بيننا وبين أقرب الناس لنا.
يشير الفيلسوف وعالم الاجتماع جورج هربرت ميد، إلى أننا نخلق ذواتنا من خلال تفاعلنا مع أنفسنا، وبالتالي لا يمكننا بناء تمييز بين أنفسنا والآخرين، ومن هذا المنظور ترى أن الذات هي نتاج اجتماعي وليس فردياً، فأنت تتعرف على نفسك من خلال حكم الشخص الآخر عليك، والآخر هو شخص يحكم عليك، وأثناء ذلك نعلّم أنفسنا بأن نتصورها كما يفعل الآخرون ونحوِّلها من خلال تفاعلنا مع ذاتنا، وفي الوقت نفسه تحافظ النفس على استقلال معين فيما يتعلق بالآخرين، وتلك التجربة كما وصفها جورج هربرت تشكل علاقتك بالآخرين فهم يحكمون عليك، مع ذلك فأنت بحاجة لهم لأن الاعتراف الذي تطلبه يجب أن يأتي منهم، ولكي يكون لهذا الاعتراف قيمة يجب عليك أيضا الاعتراف بالآخرين، وتعتمد قيمة اعتراف الآخرين بك على حسب تقديرك له.
الإنسان المعاصر هو إنسان جماهيري واجتماعي بجدارة، لكنه في الوقت نفسه وحيد للغاية، كيف يكون الإنسان محاصرا داخل نفسه وعلى مسافة بعيدة جدا من أي شخص حوله. وقد عبر ديفيد ريزمان عن هذه الظاهرة بشكل لافت للنظر، في كتاب «الحشد المتوحد» قائلا: لقد أصبح الإنسان المعاصر أكثر نأيا عن الآخرين، وهو يواجه معضلة، فهو خائف من التواصل عن قرب مع الآخر، وهو خائف بالقدر نفسه من الوحدة وعدم وجود أحد يتواصل معه، إذ إن الإنسان يحتاج إلى الصداقة والحب في حياته، وأحد الأسباب التي تجعل العيشَ في عزلة صعبا، هو أن البشر مخلوقات اجتماعية، ولا يتم تثبيت هويتك الذاتية بعمق داخل نفسك وهي منفصلة عن الآخرين، بل يتم تثبيتها من خلال ارتباطك بالآخرين.كما ورد في كتاب «فلسفة الوحدة» أننا نطور العادات العاطفية عن طريق تغيير التقييمات الخاصة بنا بحيث يمكننا تغيير مشاعرنا، وتغيير ممارستنا وعاداتنا وبالتالي أيضا مشاعرنا، إن كل عواطفنا هي بالاستمرار عناصر التنظيم تجاه كل شيء وما تشعر به هو بالكاد نوع من الاختيار، ولكن هو نتيجة التصرفات سواء الفطرية أو المكتسبة، أنت لست مسؤولا عن الميل إلى الشعور بالوحدة لكنك مسؤول عن كيفية إدارتك لهذا الاتجاه، لذلك أنت مسؤول إلى حد ما عن وحدتك.

* كاتبة وتشكيلية وأكاديمية في جامعة البحرين
*وحدي... ولستُ وحيدا!
تؤمن الثقافات القائمة على التدين، بأن العزلة مهمة من أجل تحقق الإلهام والتنوير، فيكتب أوشو «التأمل هو فن الاستمتاع بالوحدة» وقد درست الأبحاث الحديثة الرابط بين العزلة والتركيز الذهني، فأثناء العزلة الاجتماعية تحدث حالة الراحة الدماغية، التي تسير جنبا إلى جنب مع ما يصاحب العزلة من هدوء وسكون، ولا بد أنك لاحظت حين يحضر شخص آخر بجوارك لا يستطيع دماغك إلا أن يعيره بعض الانتباه.
الكاتبة سوزان كين مؤلفة كتاب «الصمت: قوة الانطوائيين في عالم لا يتوقف عن الكلام» تنتمي إلى ذلك الطراز، الذي لا يحب الأجواء الاجتماعية الصاخبة، وتميل إلى ممارسة أنشطتها بشكل منفرد. فمن أبرز صفات المبدعين هي قلة اهتمامهم بالمخالطة الاجتماعية، هذا ما أظهره بحث عالم النفس الإبداعي غريغوري فيست، الذي أجراه على عدد من العلماء والفنانين، يصف «فيست» حالة الفنانين الذين يعكفون على عملهم بشكل منفرد: «الفنانون يحاولون فهم عالمهم الداخلي والكثير من التجارب الشخصية الداخلية، التي يحاولون التعبير عنها، وإضفاء معنى عليها من خلال فنهم، فالعزلة تتيح للمرء التفكر وإمعان النظر، وهذا من ضرورات العملية الإبداعية».
ولذلك، من الأهمية بمكان أن نتعلم كيف نتسامح مع الشعور بالوحدة فهي ليست أمراً سيئاً على الدوام، وبسبب ظروف الحياة والعمل ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت الضوضاء في كل مكان وأصبحنا نفتقد قضاء وقت قصير مع أنفسنا، لهذا يقتضي أن نحول تلك الوحدة إلى عزلة اختيارية، فأدمغتنا بحاجة إلى الراحة وهذا أمرٌ عادي يقره علماء النفس، حيث يصرح فيست «يوجد خطر لدى الناس الذين لم يمارسوا الوحدة أو العزلة على الإطلاق» لتكون العزلة سببا للراحة والإنتاجية والإبداع.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!