«أنت ما تأكله»

المطبخ الهندي وفلسفة الـ«أيورفيدا»

«أنت ما تأكله»
TT

«أنت ما تأكله»

«أنت ما تأكله»

لماذا يستخدم كثير من الهنود السمن في الصيف والزيت في الشتاء؟ ولماذا تتضمن الوجبة الهندية المثالية والصحية الأرز والسلطة والعدس والخضراوات والبروتينات واللبن والمخلل والحلو؟ ولماذا تعتمد المطابخ الهندية المتنوعة على التوابل كثيراً؟ ولماذا يطبخ الهنود طعامهم ويحضرونه كما يطبخون ويحضرون؟ الجواب يكمن في منظومة أو فلسفة الـ«أيورفيدا (Ayurveda)» التي تعدّ، برأي الخبراء والفلاسفة والمؤرخين، الأكثر تأثيراً على الطعام الهندي، وليس البرياني أو الكباب الذي جلبه المغول كما يعتقد بعض الناس.
تعرّف «الموسوعة الحرة» الـ«أيورفيدا» كلاسيكياً بأنها «منظومة من تعاليم الطب التقليدي التي نشأت في شبه القارة الهندية وانتشرت إلى مناطق أخرى من العالم في شكل من أشكال الطب البديل». يتكون الاسم من كلمتي «أيور» التي تعني «حياة»، و«فيدا» التي تعني «علم»، وعلى هذا الأساس يكون معنى الاسم: «علم الحياة».
فلسفة الطعام الهندية في الواقع تقوم على فلسفة الـ«أيورفيدا» التي تحكم العادات الغذائية الهندية. فجميع التوابل المستخدمة في الأطعمة الهندية هي في الأساس من الأعشاب التي لها آثار علاجية على الجسم. وهذه الفلسفة التي تعود أصولها إلى أكثر من 1000 قبل الميلاد، تتعامل مع المجالات المتعلقة بالحياة الصحية والطويلة للبشر.
لا ترتبط فلسفة الـ«أيورفيدا» بالأدوية الطبيعية والعلاج فقط؛ بل تغطي كامل جوانب الحياة، وهي الفلسفة التي تقول: «إننا نعيش لنأكل، لا إننا نأكل لنعيش». كما تتناول جوانب الصحة العقلية والبدنية، وتشير إلى أن خلاص الناس يكمن في الحياة الصحية، والحياة الصحية تتضمن تناول الأطعمة الجيدة والعيش وفق قواعد السلوك الأخلاقية. ولهذا تعود العبارة الشهيرة «أنت ما تأكله» إلى تعاليم «الأيورفيدية».
ويقال إن الفلسفة البسيطة التي تعتمد عليها المطابخ الهندية وتقول: «تناول ما هو متوفر في الموسم بحب واحترام، وشارك الطعام مع الناس، واستمتع بالحياة إلى أقصى حد»، فلسفة «أيورفيدية» في جوهرها، ولا تزال انعكاساً لتأثيرها على عالم المطبخ والطعام حتى يومنا هذا.
وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن فلسفة الـ«أيورفيدا» ترتكز على نظرية «العناصر الخمسة العظمى» المكونة للكون وجسم الإنسان؛ وهي: الماء والنار والتراب والأثير والهواء.
كما تركز الـ«أيورفيدا» على أهمية توازن الأخلاط أو القوى أو العناصر الثلاثة التي تتحكم في الجسم وهي: Vaat (الهواء في الجو - أي الريح)، وPitta (النار في الماء - أي الصفراء) وKaf (الماء في التراب - أي البلغم). ومعاناة الإنسان من الأمراض المختلفة ليست إلا انعكاساً لخلل في هذه العناصر. وحسب «الموسوعة الحرة»؛ فإن «كل إنسان - من وجهة نظر الـ(أيورفيدا) - يتكون من مزيج فريد من هذه الأخلاط بنسب متفاوتة».كما تصنف الـ«أيورفيدا» الطعام الهندي إلى مذاقات ستة، وكما هي الحال مع العناصر الثلاثة؛ «فأي انحراف لهذه المذاقات الستة في الغذاء سيؤدي إلى خلل في عناصر الجسم، وكل عنصر مسؤول عن بعض الأمراض».
والمذاقات هي: المرّ؛ (تعدّ أطعمة هذا المذاق مساعدة على تسهيل الهضم وتنقية الدم وعلى رأسها التوابل). – الحلو (هذا النوع من المذاق يقوي الأنسجة ويؤدي إلى الانسجام العقلي أو الذهني. وتدخل الأطعمة مثل الأرز والسمن والفواكه إلى جانب الحلوى في قائمة هذا الفئة) – اللاذع (الطعم اللاذع يساعد على عسر الهضم وتحسين التمثيل الغذائي. ويدخل في هذه الفئة البصل والفلفل والثوم) - المالح (الملح يحفز الهضم. فهو يزيل العوائق في الجهاز العصبي للجسم، وبالتالي ينظف الجسم من خلال التعرق) القابض - القاسي (الأطعمة التي تدخل في هذه الفئة مثل البطاطا والتفاح تساعد في علاج القرحة في الجسم) - الحامض (يساعد الطعم الحامض على الهضم وعلى تمكين القلب من العمل بانتظام ومن أغذية هذه الفئة اللايم والتمر هندي).وتصنف الـ«أيورفيدا» أيضاً الطعام على أساس خصائصه التالية:

«راسا»:
هذا النوع من الغذاء يكون عادة شهياً ولذيذاً، وترتكز وجباته على جوهر التغذية والحيوية. وتعني كلمة «راسا» السنسكريتية «المذاق» أو «الرحيق الإلهي» و«العصارة»، و«جوهر» أو «حيوية» في أحد المواد.

«فيريا»:
هذا هو الغذاء الذي يوفر قوة للجسم. اللحوم توفر الطاقة والحيوية ولهذا أعطيت للملوك والمحاربين.

«بريباف»:
هذا هو الغذاء الذي لديه بعض التأثيرات المحددة على الجسم، ويعنى بالآثار الساخنة والباردة للأغذية على الجسم.
لكن الأمر لا يتوقف على التصنيف؛ إذ إن الـ«أيورفيدا» «تتحدث عن مدى اختلاف الأذواق عند طهيها بالحب وعند طهيها في مزاج غاضب. ربما هذا هو السبب في أن الطعام المطبوخ في المنزل المصنوع باحترام وحب هو دائماً أفضل الأطعمة اللذيذة». ولذلك لا تزال ربات البيوت، على الرغم من وجود الخدم والطباخين في بيوتهن، يفضلن طهي طعام العائلة بأيديهن. ولا عجب في أن يكون هناك في معظم الفنادق قسم في القائمة يسمى «غار كا خانا»، أي «الطعام المنزلي».
وحسب الـ«أيورفيدا»؛ فإن اللحوم والأطعمة الغنية بالتوابل تكتنز قوة من العنف؛ وعلى هذا «يعتقد أن الناس سيكونون أكثر عدوانية» إذا كانوا يعيشون على هذا النوع من الأطعمة.
كما أن الأطعمة أو المواد الغذائية الغنية بالزيوت والتوابل والأطعمة المطبوخة جداً والأطعمة القديمة والأطعمة غير النظيفة تكون مرغوبة عادة من قبل الجهلة. وينطبق هذا على الأطعمة الحديثة والمعلبة والمثلجة والسريعة؛ لأنه جرى تحضيرها في وقت طويل قبل تناولها.
وبشكل عام تعلم الـ«أيورفيدا» «البشر متابعة نقاء الحياة، واحترام الطعام والأوقات التي يجب أن يؤكل فيها. إنها تعلمنا أن نأكل طعاماً مغذياً، وأن نمارس اليوغا والتأمل لتطهير عقولنا وأجسادنا وأرواحنا».
ولا عجب في أن يشهد عالم المطبخ والطبخ والطعام هذه الأيام عودة إلى الـ«أيورفيدا» في كثير من مدن العالم الكبرى، خصوصاً في أستراليا. فمن شأن الوعي والاهتمام الحالي والكبير من قبل عامة الناس بالأطعمة الصحية التي تغذي الروح والجسد وتحافظ على التوازن بينهما، أن ينعش هذه الفلسفة الطبية والغذائية القديمة ويعطيها زخماً لقرون مقبلة.



«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
TT

«أبو حصيرة» من غزة إلى القاهرة

توابل  فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)
توابل فلسطينية تعزز مذاق الأسماك (الشرق الأوسط)

من غزة إلى القاهرة انتقل مطعم «أبو حصيرة» الفلسطيني حاملاً معه لمساته في الطهي المعتمد على التتبيلة الخاصة، وتنوع أطباقه التي تبدأ من زبدية الجمبري والكاليماري إلى الفسيخ بطريقة مختلفة.

وتعتبر سلسلة المطاعم التي تحمل اسم عائلته «أبو حصيرة» والمنتشرة بمحاذاة شاطئ غزة هي الأقدم في الأراضي الفلسطينية، لكن بسبب ظروف الحرب اتجه بعض أفراد العائلة إلى مصر؛ لتأسيس مطعم يحمل الاسم العريق نفسه، وينقل أطباق السمك الحارة المميزة إلى فضاء جديد هو مدينة القاهرة، وفق أحمد فرحان أحد مؤسسي المطعم.

«صينية السمك من البحر إلى المائدة»، عنوان إحدى الأكلات التي يقدمها المطعم، وهي مكونة من سمك الـ«دنيس» في الفرن بالخضراوات مثل البقدونس والبندورة والبصل والثوم والتوابل، وإلى جانب هذه الصينية تضم لائحة الطعام أطباق أسماك ومقبلات منوعة، تعتمد على وصفات قديمة وتقليدية من المطبخ الفلسطيني. وتهتم بالنكهة وطريقة التقديم على السواء، مع إضفاء بعض السمات العصرية والإضافات التي تناسب الزبون المصري والعربي عموماً؛ حيث بات المطعم وجهة لمحبي الأكلات البحرية على الطريقة الفلسطينية.

على رأس قائمة أطباقه السمك المشوي بتتبيلة خاصة، وزبدية الجمبري بصوص البندورة والتوابل وحبات القريدس، وزبدية الجمبري المضاف إليها الكاليماري، والسمك المقلي بدقة الفلفل الأخضر أو الأحمر مع الثوم والكمون والليمون، وفيليه كريمة مع الجبن، وستيك، وجمبري بصوص الليمون والثوم، وجمبري بالكريمة، وصيادية السمك بالأرز والبصل والتوابل.

فضلاً عن قائمة طواجن السمك المطهو في الفخار، يقدم المطعم قائمة متنوعة من شوربات السي فود ومنها شوربة فواكه البحر، وشوربة الكريمة.

يصف محمد منير أبو حصيرة، مدير المطعم، مذاق الطعام الفلسطيني لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً: «هو أذكى نكهة يمكن أن تستمتع بها، ومن لم يتناول هذا الطعام فقد فاته الكثير؛ فالمطبخ الفلسطيني هو أحد المطابخ الشرقية الغنية في منطقة بلاد الشام، وقد أدى التنوع الحضاري على مر التاريخ إلى إثراء نكهته وطرق طبخه وتقديمه».

أطباق سي فود متنوعة يقدمها أبو حصيرة مع لمسات تناسب الذوق المصري (الشرق الأوسط)

وأضاف أبو حصيرة: «وفي مجال المأكولات البحرية يبرز اسم عائلتنا التي تتميز بباع طويل ومميز في عالم الأسماك. إننا نتوارثه على مر العصور، منذ بداية القرن الماضي، ونصون تراثنا الغذائي ونعتبر ذلك جزءاً من رسالتنا».

«تُعد طرق طهي الأسماك على الطريقة الغزاوية خصوصاً حالة متفردة؛ لأنها تعتمد على المذاق الحار المميز، وخلطات من التوابل، والاحتفاء بالطحينة، مثل استخدامها عند القلي، إضافة إلى جودة المكونات؛ حيث اعتدنا على استخدام الأسماك الطازجة من البحر المتوسط المعروفة»، وفق أبو حصيرة.

وتحدث عن أنهم يأتون بالتوابل من الأردن «لأنها من أهم ما يميز طعامنا؛ لخلطتها وتركيبتها المختلفة، وقوتها التي تعزز مذاق أطباقنا».

صينية أسماك غزوية يقدمها أبو حصيرة في مصر (الشرق الأوسط)

لاقت أطباق المطعم ترحيباً كبيراً من جانب المصريين، وساعد على ذلك أنهم يتمتعون بذائقة طعام عالية، ويقدرون الوصفات الجيدة، والأسماك الطازجة، «فنحن نوفر لهم طاولة أسماك يختارون منها ما يريدون أثناء دخول المطعم».

ولا يقل أهمية عن ذلك أنهم يحبون تجربة المذاقات الجديدة، ومن أكثر الأطباق التي يفضلونها زبدية الجمبري والكاليماري، ولكنهم يفضلونها بالسمسم أو الكاجو، أو خليط المكسرات، وليس الصنوبر كما اعتادت عائلة أبو حصيرة تقديمها في مطاعمها في غزة.

كما انجذب المصريون إلى طواجن السي فود التي يعشقونها، بالإضافة إلى السردين على الطريقة الفلسطينية، والمفاجأة ولعهم بالخبز الفلسطيني الذي نقدمه، والمختلف عن خبز الردة المنتشر في مصر، حسب أبو حصيرة، وقال: «يتميز خبزنا بأنه سميك ومشبع، وأصبح بعض الزبائن يطلبون إرساله إلى منازلهم بمفرده أحياناً لتناوله مع وجبات منزلية من فرط تعلقهم به، ونلبي لهم طلبهم حسب مدير المطعم».

تحتل المقبلات مكانة كبيرة في المطبخ الفلسطيني، وهي من الأطباق المفضلة لدى عشاقه؛ ولذلك حرص المطعم على تقديمها لزبائنه، مثل السلطة بالبندورة المفرومة والبصل والفلفل الأخضر الحار وعين جرادة (بذور الشبت) والليمون، وسلطة الخضراوات بالطحينة، وبقدونسية بضمة بقدونس والليمون والثوم والطحينة وزيت الزيتون.

ويتوقع أبو حصيرة أن يغير الفسيخ الذي سيقدمونه مفهوم المتذوق المصري، ويقول: «طريقة الفسيخ الفلسطيني وتحضيره وتقديمه تختلف عن أي نوع آخر منه؛ حيث يتم نقعه في الماء، ثم يتبل بالدقة والتوابل، ومن ثم قليه في الزيت على النار».

لا يحتل المطعم مساحة ضخمة كتلك التي اعتادت عائلة «أبو حصيرة» أن تتميز بها مطاعمها، لكن سيتحقق ذلك قريباً، حسب مدير المطعم الذي قال: «نخطط لإقامة مطعم آخر كبير، في مكان حيوي بالقاهرة، مثل التجمع الخامس، أو الشيخ زايد».