يقف عبيدل (38 عاماً)؛ وهو عامل من الجنسية البنغلاديشية، أمام أحد المستشفيات الميدانية التي تقدّم خدمات طبية بمنطقة مار مخايل في بيروت، وهو يسند بيده اليسرى اليمنى المغطاة من وسطها بقطعة شاش وينتظر دوره. جروحه بسيطة، أو ربما كانت بسيطة لو تمّت معالجتها على الفور، ولكنّه لم يذهب إلى المستشفى فور إصابته في الانفجار الذي هزّ مرفأ بيروت، فالتهبت جراحه.
«كنت في منطقة برج حمود، وقع الزجاج عليّ»؛ يقول مشيراً إلى يده، ويضيف، مستعيناً ببعض الكلمات العربية التي يعرفها، أنه خاف الذهاب إلى المستشفى لأنه لا يملك المال، ولأن أوراقه غير قانونية.
قصص كثيرة يرويها هؤلاء العمال عن خوف يشبه الخوف الذي عاشه اللبنانيون ولكنه يبقى مضاعفاً، فمنهم من تذكر فجأة أنه لا يجيد لغة هذا البلد ولا لغة أخرى غير لغة بلاده، ومنهم من كان همه الهروب فقط خوفا من أن يكتشف أحد من القوى الأمنية أو الجيش أن أوراقه غير قانونية، فكان كلّ همّه أن يختبئ، ومنهم من خاف الذهاب إلى المستشفى لأنه لا يملك المال، أما الخوف الأكبر؛ فكان من الموت من دون أن يتعرّف أحدهم على الجثة كما قال أحد العمال بعربية مكسرة: «أهلي ليسوا هنا. من سيخبر عن اسمي».
ويراجع عشرات العاملين والعاملات يومياً الخيام الميدانية التي نصبت في الساحات القريبة من مكان الانفجار، معظمهم لم يتلق العلاج المناسب رغم قرار وزارة الصحة معالجة جميع الضحايا على نفقتها من دون التمييز بين لبناني وغير لبناني، ولكنّ هذا التعميم لم يصل إليهم بطبيعة الحال، فقرر معظمهم «العضّ على الجرح» أو مداواته منزلياً؛ تماماً كما فعل حمزة (عامل من الجنسية البنغلاديشية/ 32 عاماً) الذي أصيب بمنطقة النبعة في وجهه ويده وقرر معالجة جراحه أو ربما كسوره بعد مضي أسبوع من الانفجار في إحدى العيادات الميدانية لأنها مجانية.
وأودى الانفجار بحياة 11 عاملاً من الجنسيات البنغلاديشية والفيليبينية والإثيوبية؛ بعض جّثث هؤلاء سُلّم إلى أقرباء لهم أو كفلاء، وبعضها إلى سفارات بلادهم، وبعض آخر لا يزال ينتظر من يتعرّف عليه، كما أوضح مصدر في وزارة الصحة.
وعلى عكس عبيدل وحمزة، لم يكن خوف ماغديس (24 عاماً)؛ وهي عاملة إثيوبية في أحد محال التجميل بالجميزة، من الذهاب إلى المستشفى؛ بل من أن تموت قبل أن يصل أحد إليها.
«سمعت صوتاً قوياً وزجاجاً يتكسّر، وفجأة هرب الجميع وتركوني وحدي على أرض المحل، لا أعرف ماذا يحدث ولماذا لا أستطيع التحرك». تقول ماغديس بصوت متقطع، مضيفة: «لم أكن أفكر بشيء سوى أنني وحيدة ومتروكة ومنسية كأنني لا شيء».
استطاعت ماغديس أن تذهب إلى المستشفى بعدما ساعدتها صديقتها، ولكنّها لم تستطع الحصول على علاج فوري رغم أنّ إصابتها كانت بالرأس. «خذي حبة (بنادول) وينتهي الأمر. إصابتك طفيفة»؛ هكذا أخبرها أحد العاملين في مستشفى قصدته، ومن ثم أضاف: «اذهبي إلى مستشفى (رفيق الحريري) أفضل لك». تركت هذا المستشفى وتوجهت إلى آخر حيث حصلت على العلاج.
تعدّ ماغديس بيروت مدينتها الثانية، فهي تعمل فيها منذ أكثر من 7 سنوات... تأسف لأنها سمعت هذه الكلمات ولكنها تقول مبتسمة: «بيروت جميلة وستعود أجمل، ناسها جميلون أيضاً، وهم هؤلاء الذين ساعدوني للوصول إلى مستشفى في آخر المطاف، وليسوا من عدّ، ربما، أنني لست أولوية في تلقي العلاج لأنني إثيوبية».
مئات العمال فقدوا أماكن سكنهم أو تضررت بعد الانفجار، لا سيما هؤلاء الذين يسكنون في مناطق قريبة من المرفأ، كالنبعة وسن الفيل وكرم الزيتون، وهم الذين يعانون أصلاً من مشكلات تفاقمت مع أزمة الدولار ومن ثمّ انتشار وباء «كورونا»؛ الأمر الذي دفع بعدد كبير منهم إلى العودة إلى بلادهم، ومن بقي منهم فإمّا لأنه لا يملك ثمن التذكرة كما حال عبيدل، وإما لأنه يعيش على «الحلو والمر» مع اللبنانيين، كما قالت ماغديس.
خوف أجانب مصابين بانفجار بيروت حال دون تلقيهم العلاج فوراً
خوف أجانب مصابين بانفجار بيروت حال دون تلقيهم العلاج فوراً
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة