الإعلام الإسرائيلي ينشغل بتفجير بيروت كما لو كان حدثاً محلياً

وسط مشاعر تراوحت بين التعاطف والتشفّي

إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني
إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني
TT

الإعلام الإسرائيلي ينشغل بتفجير بيروت كما لو كان حدثاً محلياً

إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني
إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني

لو كان شاعرنا محمود درويش حياً، لكنت أخاله ينظر إلى بيروت، ويعيد تلك الصرخة التي أطلقها يوماً، فصاح: «ارحمونا من هذا الحب». وتكون صيحته هذه المرة باسم بيروت، عاصمة النور التي انفجرت فيها الأنوار حارقة.
محبو بيروت كثيرون، وحبهم كدخان الانفجار حارق وخانق. حتى إسرائيل دخلت إلى عاصفة هذا الحب. وإعلامها المتنوع والمتضارب والمتناقض، نال منه «طرطوشة» كبيرة. ولم تبقَ أي وسيلة منه، قنوات التلفزيون والإذاعات والصحف والشبكات الاجتماعية، العبرية منها وغير العبرية (ايديش وإنجليزي وعربي وروسي ...)، كلها انضمت إلى تغطية الأحداث وتحليلها وتفسيرها والدخول في «رياضة» توجيه السهام ضد اللاعبين الكثيرين فيها.
لم تخلُ تلك التغطية من حب حقيقي عبر عنه بعض الناس المخلصين للإنسانية، لكنها كانت فائضة أيضاً بأولئك الذين يجعلهم الحب يحضنون «حضن الدب»، الذي يشدك إلى صدره حتى تلفظ روحك، وكانت عارمة بصب الزيت على النار والتلهي بأخبار وصور الجثامين الممزقة والرؤوس الطائرة والأطراف المتناثرة والبيوت والعمارات المهدمة والمظاهرات الاحتجاجية الغاضبة والتجاذبات السياسية الملتهبة.
كما في كل مكان في عالمنا وأكثر، انشغل الإعلام الإسرائيلي بأحداث بيروت كما لو أنها حدث محلي. فالمدينة الجريحة تقع على بعد خبطة عصا من حيفا، وما بعد بعد حيفا.
دوي الانفجار في مرفأ بيروت، هز كثيراً من المشاعر في البيئة الفلسطينية، ليس فقط في الجليل الذي يتشابه مع الجنوب والشمال والجبل والبقاع في لبنان، بل في كل بقعة فلسطينية أخرى. إذ خرج محبو لبنان الكثيرون هنا بالمشاعل والشموع ذات الأنوار الحزينة، في يافا والناصرة والقدس، فشاهدها الإسرائيليون واهتموا بها، بعضهم بصدق إنساني وبعضهم بشيء من التشفي.
بيروت لم تعلم أن من تسبّب في إضاءة مبنى بلدية تل أبيب بالعلم اللبناني، هم فلسطينيو يافا، الذين فرض على مدينتهم أن تكون جزءاً منها، ولهم ممثلون في إدارة البلدية مارسوا حقهم في طلب التضامن مع بيروت فاستجاب لهم رئيس البلدية. ولقد احتلت الصورة عناوين الإعلام الإسرائيلي، قبل أن يعلموا بالجدل الذي ثار في عالمنا العربي حول الموضوع، وقبل أن يسمعوا أن هناك عرباً اعتبروا الأمر «دموع التماسيح».
كثير من الإسرائيليين تحدثوا عن بيروت في الإعلام، من خلال معرفتهم الطويلة بها. بعضهم أمضوا فيها أياماً كثيرة، عندما حاصروها عسكرياً واحتلوا أجزاء منها (1982) وعندما تسللوا إليها في عمليات استخبارية أو عمليات اغتيال لشخصيات بارزة فيها، مثل إيهود باراك الذي تخفى بلباس امرأة في أبريل (نيسان) 1973 وهو يقود عملية اختاروا لها اسم «ربيع الشباب في بيروت» لاغتيال القادة الفلسطينيين كمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار.
وكانت هناك تصريحات تعاطف مع بيروت حتى من نجل آرئيل شارون، الجنرال الإسرائيلي الذي قبل أن يصل إلى منصب رئيس حكومة كان يقف على أحد مرتفعات بيروت، وهو يشهد على قيام حلفائه بتنفيذ مجازر صبرا وشاتيلا، بعد خروج مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية إلى شتات جديد.
بعضهم عرفوا بيروت أيضاً من خلال القراءة والدراسة عن تاريخها وأمجادها، وفكرها وثقافتها، وأناقتها، وجمالها، وحبها للحياة وللرفاه وللعمل والنجاح. والإذاعات العبرية الإسرائيلية بثت في ذلك اليوم عدة أغانٍ لبنانية، فكنت تسمع أنغام أغنية فيروز والرحابنة «من قلبي سلام لبيروت»، في شوارع رمات غان وإيلات وبيتح تكفا ومستوطنة أرئيل.
البروفسور دان شفطان، البروفسور الذي يكتب دراسات في الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية ويقود كلية أبحاث الأمن القومي في جامعة حيفا، ويطل من مكتبه على البحر نفسه الذي تلاطم أمواجه شواطئ بيروت، يكتب عن بيروت الانفجار وما بعد الانفجار بكلمات قاسية جارحة، لكن لا بد من قراءتها، حتى نفهم كيف ينظرون إلى جروحنا فيقول (صحيفة اليمين الإسرائيلي الحاكم «يسرائيل هيوم» 11/ 8/ 2020): «خراب بيروت سببه إهمال سائب يمكن أن يحصل في كل مكان. مصيبة بيروت ليست الانفجار وثمنه الرهيب، بل حقيقة أنه حتى بعد إعادة الإعمار ليس للبنان احتمال قريب لتوفير جودة حياة دائمة وأمل في الامتناع عن المصائب المنتظمة التي يتميز بها تاريخه في الأجيال الأخيرة. فهذه تنشأ عن الثقافة الفاسدة التي تبناها أبناؤه. مصيبته ليست نتاج المواد القابلة للانفجار التي خزنت في الميناء، بل وليدة المواد السامة التي تراكمت في رأسه وفي قلبه. فقد اشتكت المغنية اللبنانية المحبوبة فيروز (نهاد حداد) (1983) بمدينتها المحبوبة، وتساءلت: كيف أصبح طعمها طعم النار والدخان؟ ولماذا أطفئت قناديلها؟. الجواب الجزئي يوجد في أغنيتها عن (أجراس العودة) في الطريق إلى يافا وبيسان، وإعجابها بناصر في الخمسينات. مؤخراً (2013) قضى ابنها، منتجها الموسيقي والناطق الشخصي بلسانها (في اقتباس نفي بشكل غير مقنع) بأن فيروز تحب حسن نصر الله ولو أنها كانت مكان الأسد لكانت تصرفت مثله بالضبط. في الخمسينات درجنا في إسرائيل على التعاطي مع لبنان كـ(سويسرا الشرق الأوسط). بعد وقت قصير من ذلك صار يشبه الصومال. بعد أن أعيد بناء بيروت مادياً، جلب عليها اللبنانيون مرة أخرى خراباً سياسياً واقتصادياً أعمق بلا قياس من دمار الانفجار. وفي نظرة إلى الوراء تبين أن بيروت كان يمكنها أن تزدهر كجزيرة لا سياسية في الهلال الخصيب، حتى بالمعنى الشامل والمفتوح للكلمة، مثل الإسكندرية وبخلاف بغداد، في ظروف الحكم العثماني والاستعماري. مؤشرات التسامح والارتياح للأطر الاجتماعية والسياسية لم تنجُ من الثقافة السياسية للقومية العربية مع مجيء القوى العظمى. ومن اللحظة التي صممت فيها هذه مصيرها، حسم مصير الانفتاح في المجال العام وصعد نجم الراديكالية البائسة. لو كانت بيروت فقدت ارتياحها وتسامحها في صالح إطار وطني حديث، لكان يمكن إعفاء النفس من الأشواق للصيغة السابقة كحنين شبه (استشراقي) لنظام اجتماعي وسياسي انقضى زمنه. غير أن كل الآليات القمعية - منظومة الولاء القبلي والعوالم الإقطاعية - بقيت على حالها، بل وتعاظمت بمعونة القوة السيادية. صحيح أنه في بيروت تعززت صورة (الحياة الطيبة) التي ضللت الكثيرين، ولكن هذه لم تكن إلا غطاء لامعاً لكيان عفن في قلبها، حيث يعشعش الفيروس الذي يقود هذا المجتمع المرة تلو الأخرى لخرابه».
ومثل شفطان قرأنا كثيرين وسمعنا وشاهدنا آخرين في إسرائيل، بعضهم ممن كان ولا يزال لهم باع طويل ومساهمة غير قليلة في مأساة بيروت ولبنان برمته، لكنهم يصيبون كبد الحقيقة عندما يشيرون إلى من يغذي هذه المأساة ويوفر لها السلاح والذخيرة.
د. تسفي برئيل، محرر الشؤون العربية في صحيفة «هآرتس» يكتب (11/8/2020): «كل قرار سيتم اتخاذه لا يمكن أن يكون مفصولاً عن الأصوات العالية التي تسمع في الشوارع. فالشعب اللبناني سبق وأثبت قوته على تغيير الواقع من خلال المظاهرات - هو الذي تسبب بانسحاب القوات السورية من لبنان في 2005 وهو الذي أدى إلى إسقاط حكومات. هذا الجمهور يعمل الآن مثل برلمان بديل يشرف على ويراقب نشاطات كل حكومة سيتم تشكيلها. في الوقت نفسه، بدون مساعدة منظمة وثابتة ودون شبكة أمان اقتصادية برعاية دولية، فإن لبنان يمكن أن يتحول إلى ساحة منافسة دولية فيها دول مثل الصين وروسيا وإيران وتركيا ستحاول أن تجد لنفسها مواقع اقتصادية، وفي الأصل سياسية، مثلما حدث في سوريا ومثلما يحدث الآن في ليبيا».



كيف يتفادى الناشرون قيود منصات «التواصل» على المحتوى السياسي؟

كيف يتفادى الناشرون قيود منصات «التواصل» على المحتوى السياسي؟
TT

كيف يتفادى الناشرون قيود منصات «التواصل» على المحتوى السياسي؟

كيف يتفادى الناشرون قيود منصات «التواصل» على المحتوى السياسي؟

تزامناً مع انتشار الصراعات والأزمات والأحداث السياسية، تزايدت الشكاوى من حذف منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي بحجة «تعارضها مع أو انتهاكها لمعايير النشر على تلك المنصات»، الأمر الذي جدّد الجدل حيال مدى تأثر المواقع الإخبارية بقيود منصات «التواصل» على المحتوى السياسي، وكيف يتفادى الناشرون الخوارزميات لعدم حذف تقاريرهم عن النزاعات والحروب.

وحقاً، طوال السنة تصاعدت شكاوى ناشرين وصُناع محتوى من القيود المفروضة على نشر المحتوى السياسي، لا سيما في فترات الأحداث الكبرى خلال «حرب غزة»، من بينها أخيراً قتل رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» يحيى السنوار، ولقد شكا صحافيون ومنصات إخبارية من «حذف» منشوراتهم و«تقييد» صفحاتهم بسبب نشرهم محتوى عن مقتل السنوار. خبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط» أكدوا أن منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما تلك التابعة لشركة «ميتا»، زادت من قيودها على نشر المحتوى السياسي، واقترحوا وسائل عدة للالتفاف حول تلك القيود: أبرزها الالتزام بالمعايير المهنية، وبناء استراتيجيات جديدة للترويج للمحتوى لا تعتمد بشكل كلي على وسائل التواصل الاجتماعي.

الدكتورة مي عبد الغني، أستاذة الإعلام في جامعة بنغازي والباحثة في الإعلام الرقمي، أرجعت استمرار منصات التواصل الاجتماعي في حذف بعض المنشورات والحسابات إلى «تعارض تلك المنشورات مع المصالح السياسية للشركات المالكة للمنصات». وأردفت أن «تحكم المنصات في المحتوى المنشور يزداد في أوقات الحروب والأزمات وفترات التوتر العالمي، على غرار الحرب الدائرة منذ أكثر من سنة في غزة».

وأوضحت مي عبد الغني أنه «على مدار العام الماضي تعرض المحتوى العربي لأشكال عدة من التقييد ومنع وصول المحتوى وإيقاف البث المباشر، وحذف وحظر المنشورات وحتى إيقاف الحسابات... من الطبيعي أن ينعكس ذلك على حسابات المواقع الإخبارية العربية، لكونها معنية بنقل ما يحدث في المنطقة من زاوية قد تتعارض مع مصالح وتوجهات الجهات المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي».

لمواجهة هذه القيود اقترحت الباحثة والأكاديمية «استخدام أساليب عدة من بينها تقطيع الكلمات، أو استخدام أحرف لاتينية في الكتابة أو صور، مع محاولة اختيار الألفاظ بشكل دقيق للتحايل على خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي».

في المقابل، يرى الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، خالد البرماوي، أن «كُل طُرق التحايل لتفادي قيود منصات التواصل على نشر المحتوى، ليست إلا حلولاً مؤقتة... وهذه الطرق عادةً ما تُكتَشف بعد فترة، ما يجعلها عديمة الفاعلية في منع الحذف».

وأضاف البرماوي: «على المواقع الإخبارية أن تبني استراتيجيتها الترويجية بعيداً عن منصات التواصل الاجتماعي بحيث تكون لها وسائلها الخاصة للترويج، مهما تطلب ذلك من وقت ومجهود». ولذا اقترح أن «تلجأ المواقع الإخبارية إلى تنويع حساباتها على المنصات، بعمل حسابات مختلفة للأخبار والمنوعات والرياضة، إضافة إلى ممارسة الضغط على وسائل التواصل الاجتماعي لتقليل القيود المفروضة على نشر المحتوى الإخباري».

ويوضح محمد فتحي، الصحافي المتخصّص في الإعلام الرقمي، أنه منذ بدء «حرب غزة» أدخلت منصات التواصل الاجتماعي سياسات وقيوداً تؤثر على ظهور المحتوى المتعلق بالحرب، وهو ما «عرّض تلك المنصات لانتقادات عدة واتهامات بالتضليل».

وأكد فتحي أنه «إذا أراد الناشر الاستفادة من المنصات، فيجب عليه مراعاة معاييرها وسياستها... بينما على ناشري المحتوى الموازنة بين المنصات المختلفة، فلكل منصة سياسة خاصة بها، وما يصلح للنشر على (يوتيوب) قد لا يناسب (فيسبوك)». واختتم بالتشديد على «ضرورة مراعاة المعايير المهنية وتدقيق المعلومات عند النشر كوسيلة لتفادي الحذف... فالالتزام بالمهنية غالباً ما يكون الحل الأمثل لمواجهة أي قيود».