يرونها «بيروت الجديدة»... لبنانيون محبطون يعيدون بناء حياتهم في دبي

صورة تم التقاطها بطائرة «درون» تُظهر أثر الدمار في ميناء بيروت بعد 4 أيام من الانفجار (إ.ب.أ)
صورة تم التقاطها بطائرة «درون» تُظهر أثر الدمار في ميناء بيروت بعد 4 أيام من الانفجار (إ.ب.أ)
TT

يرونها «بيروت الجديدة»... لبنانيون محبطون يعيدون بناء حياتهم في دبي

صورة تم التقاطها بطائرة «درون» تُظهر أثر الدمار في ميناء بيروت بعد 4 أيام من الانفجار (إ.ب.أ)
صورة تم التقاطها بطائرة «درون» تُظهر أثر الدمار في ميناء بيروت بعد 4 أيام من الانفجار (إ.ب.أ)

بعد ثلاثة أيام من الانفجار الضخم الذي دمّر أجزاء كبيرة من بيروت، استقلّ علي حمّود الطائرة متجهاً إلى دبي. عندما ارتفعت قليلاً، نظر بأسى من نافذتها إلى الركام المنتشر في كل مكان متحسراً على بلد ترك فيه عائلة وأصدقاء وحياة مليئة بسلسلة طويلة من خيبات الأمل.
وقرّر المهندس التقني (30 عاماً) مغادرة المدينة التي ولد وتربّى فيها للعيش والعمل في دبي بعد الانفجار الذي قضى على آخر آماله في حياة مزدهرة وآمنة.
وقال حمّود لوكالة الصحافة الفرنسية بعيد وصوله إلى الإمارات هذا الأسبوع: «الأمر ليس سهلاً أبداً، لكن كان علي أن أغادر... أشعر أنني خنت المدينة التي أحب حتى الموت، لكن لم يبق لي شيء هناك إلا الكآبة».
وأضاف الشاب الذي خسر عمله قبل عام بسبب الأوضاع الاقتصادية في لبنان: «الآن أستطيع أن أبدأ سيرة مهنية، وأن أعيش بسلام وأُعين عائلتي عبر إرسال الأموال».
وعلى غرار كثيرين من أبناء وطنه الباحثين عن الأمن والاستقرار، تقدّم حمّود بطلب عمل في دبي لينضم إلى آلاف اللبنانيين الذين يعملون في إمارة تحوّلت على مر السنين إلى وطن جديد يذكّرهم بتاريخ مزدهر في بيروت لم يعرفوه إلا من خلال روايات آبائهم وأمهاتهم.
وتسبب عصف الانفجار في عنبر يحتوي على 2750 طناً من نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت الأسبوع الماضي بتدمير أحياء برمُتها في المدينة الغنية بالتاريخ والمعروفة بمطاعمها وحياتها الليلية الصاخبة.
وألقى الانفجار الضوء على الفساد المستشري والاستهتار وقلة المسؤولية بين الطبقة الحاكمة في لبنان، بعدما تبيّن أنّ المسؤولين اللبنانيين كانوا على علم بوجود «قنبلة موقوتة» في قلب بيروت وبين سكانها لأكثر من ست سنوات.
وقال حمّود إن هدفه الأول بعد وصوله إلى دبي «التغلب على الشعور بالندم الناجم عن مغادرتي».
لكن حتى قبل الانفجار، كان لبنان في حالة من الانهيار غير المسبوق.
فالبلد الشرق أوسطي يعاني منذ أشهر من أزمة اقتصادية عميقة هي الأكثر فداحة منذ الحرب الأهلية (1975 - 1990)، وسط معدلات تضخم مرتفعة جداً وقيود صارمة على سحوبات الودائع المصرفية زادت من معدّلات الفقر وتسببت بغضب ومظاهرات في الشارع.
ويحكم لبنان المتعدّد المذاهب والأديان نظام محاصصة طائفية وسياسية تتمسك به طبقة سياسية لم تتغير منذ عقود ومن أركانها أمراء الحرب الأهلية الذين خلعوا ملابسهم العسكرية وتسلّموا المناصب السياسية.
ويتّهم لبنانيون كثر الطبقة الحاكمة بالفساد والعجز والسرقة وتفضيل مصالحها الشخصية على مصلحة البلد الذي يسكنه نحو ستة ملايين شخص، مما حرم لبنان الذي شهد خلال السنوات الأخيرة حرباً بين «حزب الله»، المكون السياسي القوي والذي يحتفظ بترسانة عسكرية ضخمة، وإسرائيل، واغتيالات وأزمات سياسية حادة، من تطوير الخدمات وبناه التحتية، لا سيما قطاع الكهرباء، ومن كل مشاريع التنمية.
وقال فراس رشيد (31 عاماً) المقيم في دبي منذ 2016 والذي يعمل في مجال المبيعات: «لا يمكن أن تتخيل كمية الغضب التي تعتريني... سرقونا والآن يقتلوننا!».
ومنذ انتهاء الحرب الأهلية، خسرت بيروت التي لطالما عُرفت بجامعاتها ومستشفياتها شيئاً فشيئاً هويتها التي طبعتها قبل عام 1975 وجعلتها عاصمة الحريات السياسية والاجتماعية والترفيه.
وغادر على مر السنوات مئات آلاف اللبنانيين من أطباء ومهندسين ومدرّسين وغيرهم بحثاً عن حياة أكثر استقراراً في دول الخليج وأوروبا وغيرها.
ويقول مسؤولون لبنانيون إنّ نحو 350 ألف لبناني يعيشون ويعملون في الخليج، بينهم نحو مائة ألف في الإمارات وحدها غالبيتهم في دبي.
وقال شديد: «لماذا دبي؟ نقود سياراتنا في مسارات محددة هنا، ولا نخشى أن يرفع عنصر في ميليشيا ما السلاح بوجهنا، ونتمتع بالخدمات، ونحصّل رواتب عالية». وتابع: «لطالما تحدثّ أهلي عن كيف أنّ بيروت كانت محطة استقطاب في الستينات والسبعينات، وهذه دبي اليوم».
وفي كتابه «قصتي»، روى حاكم دبي ورئيس حكومة الإمارات الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم زيارته الأولى إلى بيروت قبل أن تحيل الحرب الأهلية «باريس الشرق» خراباً. وكتب: «كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي، وحلماً تردّد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما».
منذ ذلك الوقت، أصبحت دبي مقصداً للعديد من العرب الذين مزّقت بلدانهم الحروب والنزاعات، وقضى ملايين الأردنيين والفلسطينيين والمغاربة وغيرهم سنوات طويلة وهم يبنون مستقبلهم فيها.
يحنّ اللبنانيون بالتأكيد إلى التاريخ الذي تتنفسه بيروت في كل شارع وحي، إلى النموذج الإنساني الفريد والمنوّع، إلى تراث ثقافي وانفتاح جعلها مقصداً للسياح من العالم أجمع خلال مراحل الازدهار. لكن اليوم، يجد غالبيتهم في دبي استقراراً مالياً وسلاماً ضرورياً للاستمرار.
وقال المهندس علي حمّود: «دبي ستكون بيروتي الجديدة».



تطلّع يمني لإنهاء الانقسام المصرفي ومخاوف من تعنت الحوثيين

مقر البنك المركزي اليمني في عدن (إعلام حكومي)
مقر البنك المركزي اليمني في عدن (إعلام حكومي)
TT

تطلّع يمني لإنهاء الانقسام المصرفي ومخاوف من تعنت الحوثيين

مقر البنك المركزي اليمني في عدن (إعلام حكومي)
مقر البنك المركزي اليمني في عدن (إعلام حكومي)

بعيداً عن تعثر مسار التسوية في اليمن بسبب هجمات الحوثيين البحرية، أشاع الإعلان الأممي اتفاقاً بين الحكومة والحوثيين حول المصارف والطيران أجواءً من الأمل لدى قطاع عريض من اليمنيين، مثلما زرع حالة من الإحباط لدى مناهضي الجماعة المدعومة من إيران.

ومع إعلان غروندبرغ اتفاق خفض التصعيد بين الحكومة والحوثيين بشأن التعامل مع البنوك التجارية وشركة «الخطوط الجوية اليمنية»، فإن المبعوث لم يحدد موعداً لبدء هذه المحادثات ولا مكان انعقادها، واكتفى بالقول إن الطرفين اتفقا على البدء في عقد اجتماعات لمناقشة كافة القضايا الاقتصادية والإنسانية بناء على خريطة الطريق.

غروندبرغ يسعى إلى تحقيق أي اختراق في مسار السلام اليمني بعد إعاقة الحوثيين خريطة الطريق (الأمم المتحدة)

بدت آراء يمنيين في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي متباينة في كل مضامين اتفاق التهدئة، باستثناء تمنياتهم بنجاح محادثات الملف الاقتصادي لأن من شأنها أن تعالج وفق تقديرهم جذور الأزمة الاقتصادية والانقسام المالي وانقطاع رواتب الموظفين في مناطق سيطرة الحوثيين منذ ثمانية أعوام.

في المقابل، ناقضت تقارير يمنية نفسها، مثل ما ورد في تقرير لمركز صنعاء للدراسات كتبه نيد والي، ففي حين حاول توجيه السبب الأساسي للاتفاق نحو ضغوطات من دول في التحالف على الحكومة لصالح الحوثيين، عاد واقتبس من المبعوث الأممي قوله في رسالة لمجلس القيادة: «الانقسام الاقتصادي والمالي الذي تشهده البلاد ستترتب عليه تبعات خطيرة وربما مدمرة، وعزل البنوك وشركات الصرافة عن النظام المالي العالمي سيؤثر سلباً على الأعمال التجارية وعلى تدفق التحويلات المالية».

وكتب الباحث في التقرير نفسه: «عانى الاقتصاد اليمني من الشلل نتيجة عقد من الصراع، وأي ضغوط إضافية لن تجلب سوى أوضاع إنسانية وخيمة، ليس أقلها تعطيل القدرة على تقديم المساعدات. يتم تداول عملتين في الأسواق المالية اليمنية بسعري صرف متباينين، ورغم أن الانقسام الدائم في النظام المصرفي ومؤسسات الدولة قد يصبح أمراً لا مفر منه في نهاية المطاف، لا ينبغي التشكيك بأن تداعيات ذلك على الاقتصاد ستكون وخيمة وأليمة بصورة استثنائية».

وقالت مصادر غربية لـ«الشرق الأوسط»: «إن السعودية دعمت خريطة الطريق ومشروع إنهاء الأزمة اليمنية، والخلافات والعراقيل ليست طريقة للوصول إلى السلام في كل الأحوال».

ومن خلال تعليقات حصلت عليها «الشرق الأوسط» عبر استمزاج يمنيين في قطاعات تجارية وتربوية، تتجنب المعلمة نجاة التي اكتفت بذكر اسمها الأول الخوض في الجدال المتواصل بين المؤيدين والمعارضين لاتفاق التهدئة وتعتقد أن الذهاب للمحادثات الاقتصادية بنيات صادقة ونجاحها هو البشرى الحقيقية لمئات الآلاف من الموظفين في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون الذين حرموا من رواتبهم منذ نهاية العام 2016، ولكل سكان البلاد الذين يدفعون ثمن الانقسام المالي والمواجهة الاقتصادية.

وتتمنى المعلمة على ممثلي الجانبين الحكومي والحوثيين استشعار المعاناة الكبيرة للملايين من اليمنيين الذين يقاسون نتيجة الظروف الاقتصادية وتوقف المرتبات ووجود عملتين محليتين، والحرص على التوافق والخروج باتفاق على استئناف تصدير النفط والغاز ووضع آلية مرضية لصرف المرتبات، وإنهاء الانقسام المالي لأن ذلك في تقديرها سيكون المنفذ الحقيقي للسلام.

الرواتب وتوحيد العملة

يقول الموظف الحكومي رضوان عبد الله إن الأهم لديه، ومعه كثيرون، هو صرف الرواتب وإنهاء انقسام العملة، لأنهم فقدوا مصدر دخلهم الوحيد ويعيشون على المساعدات والتي توقفت منذ ستة أشهر وأصبحوا يواجهون المجاعة وغير قادرين على إلحاق بناتهم وأبنائهم في المدارس لأنهم لا يمتلكون الرسوم التي فرضها الحوثيون ولا قيمة الكتب الدراسية ومستلزمات المدارس ولا المصروف اليومي.

تعنّت الحوثيين أفشل جولات متعددة من أجل السلام في اليمن (إعلام محلي)

ويؤيده في ذلك الموظف المتقاعد عبد الحميد أحمد، إذ يقول إن الناس تريد السلام ولم يعد أحد يريد الحرب وإن السكان في مناطق سيطرة الحوثيين يواجهون مجاعة فعلية. ويزيد بالقول إن صرف المرتبات وتوحيد العملة أهم من أي اتفاق سياسي ويطلب من الحكومة والحوثيين ترحيل خلافاتهم السياسية إلى ما بعد الاتفاق الاقتصادي.

ولا يختلف الأمر لدى السكان في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية والذين يعبر أغلبيتهم عن سخطهم من الموافقة على إلغاء الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي في حق البنوك التجارية في مناطق سيطرة الحوثيين، إذ يرى عادل محمد أن إنهاء انقسام العملة واستئناف تصدير النفط سيؤدي إلى وقف تراجع سعر الريال مقابل الدولار الأميركي وسيوقف الارتفاع الكبير في أسعار السلع لأن ذلك أضر بالكثير من السكان لأن المرتبات بسبب التضخم لم تعد تكفي لشيء.

ويتفق مع هذه الرؤية الموظف في القطاع التجاري سامي محمود ويقول إن توحيد العملة واستئناف تصدير النفط سيكون له مردود إيجابي على الناس وموازنة الدولة، لأنه سيحد من انهيار الريال اليمني (حالياً الدولار بنحو 1990 ريالاً في مناطق سيطرة الحكومة) كما أن الموظفين والعمال الذين تعيش أسرهم في مناطق سيطرة الحوثيين سيكونون قادرين على إرسال مساعدات شهرية، لكن في ظل الانقسام وفرض الحوثيين سعراً مختلفاً فإن ما يرسلونه يساوي نصف رواتبهم.

مصلحة مشتركة

يرى الصحافي رشيد الحداد المقيم في مناطق سيطرة الحوثيين أن التوصل إلى اتفاق في هذا الملف فيه مصلحة مشتركة وإعادة تصدير النفط والغاز سيسهم في عودة أحد مصادر الدخل الوطني من العملات الصعبة، كما أن استئناف صرف مرتبات الموظفين سوف يسهم في الحد من معاناة مئات الآلاف من الموظفين.

ملايين اليمنيين في مناطق سيطرة الحوثيين تتهددهم المجاعة (الأمم المتحدة)

ويشدد الحداد على ضرورة أن يتوجه ممثلو الجانبين إلى هذه المحادثات بصدق ومسؤولية لمفاوضات تحسم هذا الملف، ورأى أن أي اختراق يحدث في هذا الجانب سيعزز بناء الثقة وسيقود نحو تفاهمات أخرى، و سيكون له انعكاسات إيجابية على حياة كل اليمنيين.

لكن الجانب الحكومي لا يظهر الكثير من التفاؤل ويعتقد اثنان من المسؤولين سألتهم «الشرق الأوسط» أن الحوثيين غير جادين ويريدون تحقيق مكاسب اقتصادية فقط من خلال هذه الجولة، لأنهم يريدون الحصول على رواتب الموظفين في مناطق سيطرتهم لامتصاص النقمة الشعبية الواسعة، ويرغبون في الحصول على حصة من عائدات تصدير النفط، دون أن يكون هناك مقابل أو تقديم تنازلات فعليه تخدم مسار السلام، فيما يتعلق بتوحيد العملة والبنك المركزي.

ووفق ما أكده المسؤولان فإن الجانب الحكومي الذي قدم الكثير من التنازلات من أجل السكان في مناطق سيطرة الحوثيين بحكم مسؤوليته عن الجميع، سيشارك بإيجابية في المحادثات الاقتصادية وسيكون حريصاً على إنجاحها والتوصل إلى اتفاقات بشأنها استناداً إلى مضامين خريطة طريق السلام التي كانت حصيلة جهود وساطة قادتها السعودية وعُمان طوال العام الماضي وحتى الآن.