انفجار مرفأ بيروت يعيد «هيروشيما» إلى الذاكرة

بعد 75 عاماً من إلقاء أول قنبلة ذرية على المدينة

انفجار مرفأ بيروت يعيد «هيروشيما» إلى الذاكرة
TT

انفجار مرفأ بيروت يعيد «هيروشيما» إلى الذاكرة

انفجار مرفأ بيروت يعيد «هيروشيما» إلى الذاكرة

لم يكن الصوت بعيداً ولا الصدى، ولم يكن مستغرباً أن يصرخ البعض أيضاً مساء الثلاثاء قبل الماضي، عقب انفجار مرفأ بيروت المروع، وهم يلهثون: «إنها هيروشيما». العبارة التي كانت بمثابة كلمة السر حين أعلنها بول تيبيتس، كابتن طائرة «إلـبي - 29» العسكرية الأميركية لطاقمه.
كانت الساعة في المدينة الوادعة التي قطنها حينها نحو 350 ألفاً من البشر تشير إلى الثامنة والربع من صباح السادس من أغسطس (آب) 1945، عندما شاهد بعضهم طائرة فضية تفتح أبوابها لتلقي شيئاً يشبه الباراشوت، قبل أن ينفجر على درجة مليون مئوية، فينتج كرة هائلة من اللهب الأبيض. «الولد الصغير» كما سماه تيبيتس لاحقاً، لم يكن سوى أول قنبلة نووية تستعملها الولايات المتحدة، وزنها أربعة أطنان، بقوة تفجير تعادل 15 ألف طن من الديناميت، وموتاً ساقطاً من السماء أودى على الفور بحياة نصف سكان المدينة، بينما تصاعدت أعداد الضحايا لاحقاً - وعبر الأجيال - بسبب تأثيرات الإشعاع القاتلة التي أصابت الحمض النووي لمن بقي على قيد الحياة.
وبينما آلاف الجثث تطفو على سطح مياه نهر المدينة، كان روبرت لويس، مساعد كابتن الطائرة الأميركية، يدون على دفتر ملاحظات الرحلة، وهو يتأمل من النافذة الغيوم تغلي فوق هيروشيما: «يا إلهي، ما الذي فعلناه!».
ذلك الانفجار الهائل صبيحة يوم هيروشيما المشؤوم، كان كما لحظة تتويج لمسيرة خمسين عاماً من التقدم العلمي المطَّرد الذي تتابعت مجموعة صغيرة نسبياً من العقول اللامعة على مراكمته، واضعة نفسها مع ذلك في مكانة الخادم الأمين لحكم النخب الرأسمالية الغربية، فسلَّمت مفاتيح الطبيعة وأسرارها لقادة لا يرتوون من الدماء وعذابات الناس، وسوَّلت لهم أنفسهم التضحية بأرواح الملايين، سعياً لهيمنة فئة دون أخرى على بشر الكوكب وموارده.
كان حكم موت هيروشيما قد أُبرم في وقت ما منتصف العقد الأخير من القرن التاسع عشر، لحظة الانتقال من قرن «الكيمياء» إلى القرن العشرين الذي سيهمن عليه الفيزيائيون. الخطوة الأولى كانت على يد الفرنسي هنري بيكريل الذي اكتشف أن اليورانيوم عنصر مشع، لتتوالى بعدها الاكتشافات من الفرنسيين ماري كوري وابنتها إيرين وزوج ابنتها فريدريك، إلى الإيطالي أنريكو فيرمي، والألماني ألبرت آينشتاين، والدنماركي نيلز بور، والنيوزلندي إرنيست رذرفورد، وغيرهم. كانت تلك الثلة من الفيزيائيين أشبه ما تكون بعصبة معولمة تجتهد بتفانٍ عجيب لكسر حدود الفكر العلمي يوماً بعد يوم، بتكامل وتوازٍ، وتلتقي دورياً في مؤتمرات علمية وزيارات أكاديمية متبادلة. لكن صعود هتلر وموسيلليني إلى السلطة في بلديهما، ألمانيا وإيطاليا، والأجواء المشحونة بالاستقطاب العرقي والنزعات القومية الشمولية التي سادت البر الأوروبي في عقد ثلاثينات القرن العشرين، دفعت كثيرين من هؤلاء - بينهم كثرة يهودية خشيت موجة العداء المستجد للسامية - إلى مغادرة أوطانهم، وقبول عروض استضافة من البريطانيين والأميركيين. وبالفعل، عبر آينشتاين القنال الإنجليزي بحماية ضابط كبير من البحرية الملكية البريطانية إلى لندن، قبل أن يقبل وظيفة في جامعة «برينستون» على الجانب الآخر من الأطلسي. وكذلك انتقل فيرمي من إيطاليا إلى السويد، خوفاً على زوجته اليهودية من عداء الفاشيست، وبور من الدنمارك إلى الولايات المتحدة، وهكذا.
أحد هؤلاء العلماء المهاجرين إلى الولايات المتحدة، الهنغاري ليو سيزيلار الذي كان على يقين أكثر من بقية علماء جيله بإمكان تطويع الطاقة النووية لبناء قنابل دمار شامل، حاول بكل ما أوتي من قوة التأثير على زملائه لإبقاء أبحاثهم في هذا الإطار سرية، خوفاً من وقوعها في أيدي السياسيين المغامرين. لكن فرديناند زوج ابنة ماري كوري لم يقتنع، ونشر نتائج أبحاث له عن الانشطار النووي في مجلة علمية مفتوحة للعموم، فما كان من سيزيلار إلا أن أقنع آينشتاين في أغسطس 1939 بالكتابة إلى الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، لتنبيهه من الأخطار المحتملة جراء تقدم الأبحاث على اليورانيوم المشع، وإمكان توظيفها لإنتاج أسلحة دمار شامل. وبناء على تلك المخاطبة تشكلت أول لجنة حكومية لإدارة اليورانيوم في الولايات المتحدة.
الحكومة البريطانية التي تورطت في حرب عالمية ضد هتلر بعد غزوه بولندا، كانت قد حوَّلت طاقاتها العلمية بالكامل لأغراض التطوير العسكري. وقدَّم اثنان من العلماء المهاجرين إليها (أوتو فريتش، ورودولف بيرلز) ورقة في مارس (آذار) 1940 تصف الأبعاد العلمية لإنتاج قنابل نووية، مع التنبيه من العدد الفلكي للضحايا المدنيين الذي قد تتسبب فيه، واقترحا على حكومة لندن إنتاج قنابل للردع الدفاعي؛ نظراً إلى تسرب معلومات عن تقدم مطَّرد في صنع القنبلة من قبل العلماء النازيين. وقد تلقف ونستون تشرشل – رئيس وزراء بريطانيا وقتها – الفكرة، رغم أنه كان مكتفياً حينها بالقوة النارية للحلفاء، معتبراً أنه «من الضروري ألا نقف حاجزاً في وجه التقدم». أرسل البريطانيون نسخاً من التقرير إلى القيادة الأميركية، لحثها على التعاون في تصنيع أسلحة دمار شامل؛ لكن الأمور تسارعت في الولايات المتحدة لاحقاً، بعد الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربور، وقرار واشنطن الانخراط في الحرب إلى جانب الحلفاء؛ إذ تحولت لجنة اليورانيوم المتواضعة عندها لأكبر مشروع هندسي علمي عسكري في تاريخ الغرب – أطلق عليه اسم مانهاتن – رصدت له ميزانية بلغت ملياري دولار، وتضخم بسرعة إلى أكبر قطاع صناعي في الولايات المتحدة، متجاوزاً قطاع صناعة السيارات ومشغلاً أكثر من 130 ألف موظف. وبالفعل نُفذ في 16 يوليو (تموز) 1945 أول تفجير نووي تجريبي بصحراء نيو مكسيكو. «لقد أُنجزت المهمة» كان تعليق بيرلز، وهو يرى الضوء الساطع الناشئ عن الانفجار العظيم.
في 1945 استسلمت ألمانيا؛ لكن اليابان بقيت تقاتل. كانت قوات الاتحاد السوفياتي تتقدم بسرعة هائلة في هجومها على اليابان من الشمال، وذلك خطر استراتيجي أراد الأميركيون تجنبه بأي ثمن، لا سيما بعد تجربة تقسيم برلين، ولذا اعتزموا السيطرة على الجزر الرئيسة في اليابان لأنفسهم. الخبراء العسكريون توقعوا ثمناً باهظاً في الأرواح لمثل هكذا عملية. فاليابانيون كانوا يمتلكون إرادة صلبة للقتال، وربما سيسفر إنهاء مقاومتهم للغزو عن جثث مليون شخص على الأقل من جنود العم سام. لجنة التخطيط العسكرية البريطانية – الأميركية قررت أن كسر إرادة القتال تلك ستحتاج إلى فاجعة سيكولوجية بحجم ثلاث قنابل نووية، تتسبب في كارثة ماحقة ترعب اليابانيين وتدفعهم للخضوع، فحُددت مدن هيروشيما وكيوتو ونيغاتا كأهداف مختارة، قبل أن يقرر وزير الدفاع الأميركي استبعاد كيوتو لأهميتها الثقافية، فاستبدلت بها سيئة الحظ ناكازاكي التي بعد تلقيها قنبلة أشد فاعلية - تعتمد على البولوتونيوم المشع - أعلنت اليابان استسلامها التام للقوات الأميركية.
وبينما شعر بعض الفريق الذي عمل على تنفيذ مذبحتي هيروشيما وناكازاكي بالألم، مما تسببوا فيه للمدنيين – رغم عدم ندمهم على تنفيذ الأوامر العسكرية التي وجهت إليهم كما في حال الكابتن تيبيتس - وادعاء آينشتاين أنه «لم يكن ليساهم في المشروع من حيث المبدأ لو عرف أن الألمان سيستسلمون قبل نجاحهم في تطوير قنبلتهم» فإن مشاهد الموت الجماعي المرعبة لم تثر أي مشاعر في قلوب الساسة الأميركيين المتعاقبين - ولاحقاً في قلوب سياسيين آخرين حلفاء - فانطلقوا في إنتاج مزيد من القنابل النووية، كأداة حاسمة لمد هيمنة الإمبراطورية الأميركية إلى أطراف الكوكب، ومواجهة نفوذ الاتحاد السوفياتي المتصاعد، بينما ينخرط العلماء بلا هوادة، وإلى اليوم، في مؤسسات التصنيع العسكري لتطوير مزيد من الأسلحة الأكثر فتكاً، حتى تبدو معها قنبلة «الولد الصغير» مجرد لعب هواة، وحتى صارت كل مدن العالم هيروشيمات ممكنة.
أي لعنة تلك التي أطلقها على البشر الفرنسي الشرير بيكريل، فكأنها – بحسب أوبنهايمر أحد قادة مشروع مانهاتن – الإله الهندي باهاغافاد جيتا الذي قال: «لقد صرت لكم الموت، ومحطم العوالم»... وهو المشهد نفسه الذي تشكل مع انفجار مرفأ بيروت المأساوي، فبرغم اختلاف الدوافع والأسباب، والتي لا تزال قيد التحقيق، فإن المقارنة فرضت نفسها بقوة الواقع والتاريخ معاً.



مصر تستعيد قطعاً أثرية ومومياء من آيرلندا

إحدى القطع الأثرية المصرية المُستردّة من آيرلندا (وزارة السياحة والآثار)
إحدى القطع الأثرية المصرية المُستردّة من آيرلندا (وزارة السياحة والآثار)
TT

مصر تستعيد قطعاً أثرية ومومياء من آيرلندا

إحدى القطع الأثرية المصرية المُستردّة من آيرلندا (وزارة السياحة والآثار)
إحدى القطع الأثرية المصرية المُستردّة من آيرلندا (وزارة السياحة والآثار)

أعلنت مصر استعادة قطع أثرية من آيرلندا، تضمَّنت أواني فخارية ومومياء وقطعاً أخرى، عقب زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للدولة المذكورة.

وقالت وزارة الخارجية المصرية إنّ جهود استعادة القطع الأثرية من آيرلندا استمرّت طوال عام ونصف العام، وأوضحت في بيان، الجمعة، أنّ «القطع الأثرية التي استُردَّت من جامعة (كورك) الآيرلندية، هي مومياء مصرية وعدد من الأواني الفخارية والقطع الأثرية الأخرى، والجامعة أبدت تعاوناً كبيراً في تسهيل إجراءات إعادتها».

وتمثّل القطع المُستعادة حقبة مهمّة من التاريخ المصري القديم، وجزءاً من التراث الثقافي المصري الذي يحظى باهتمام الجميع، ومن المقرَّر عرضها في المتاحف المصرية، وفق بيان «الخارجية».

وأوضح الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في مصر، الدكتور محمد إسماعيل خالد، أنّ «استرداد هذه القطع جاء وفقاً للاتفاق الثنائي الموقَّع مؤخراً بين المجلس الأعلى للآثار وجامعة (كورك) الآيرلندية»، مشيراً في بيان لوزارة السياحة والآثار، إلى أنّ الجامعة كانت قد حصلت عليها بين الأعوام 1920 و1930؛ ومن بينها تابوت خشبي ملوَّن بداخله بقايا مومياء ومجموعة من الأواني الكانوبية المصنوعة من الحجر الجيري بداخلها أحشاء المتوفّى.

القطع الأثرية المُستردّة تعود إلى حقب تاريخية مهمّة (وزارة السياحة والآثار)

بدوره، كشف مدير الإدارة العامة لاسترداد الآثار، المُشرف على الإدارة المركزية للمنافذ الأثرية، شعبان عبد الجواد، عن أنّ «الأواني الكانوبية التي استُردَّت لكاهن يُدعى (با ور)، من الأسرة 22 من العصر المتأخر؛ كان يحمل ألقاباً من بينها (حارس حقول الإله). أما التابوت الخشبي فهو من العصر الصاوي لشخص يُدعى (حور)، وكان يحمل لقب (حامل اللوتس)؛ وتوجد بداخله بقايا مومياء وعدد من أسنانها»، وفق بيان الوزارة.

وأعلنت مصر، في وقت سابق، استرداد أكثر من 30 ألف قطعة أثرية من 2014 حتى أغسطس (آب) 2024، كما استُردَّت أخيراً 67 قطعة أثرية من ألمانيا. وكانت وزارة الخارجية قد أعلنت في يناير (كانون الثاني) 2023 استرداد 17 قطعة أثرية من الولايات المتحدة الأميركية، أبرزها «التابوت الأخضر».

في هذا السياق، يرى عالم الآثار المصري الدكتور حسين عبد البصير، أنّ «استعادة القطع الأثرية والمومياوات فرصة لإثراء بحثنا الأثري والتاريخي، إذ تساعدنا في الكشف عن جوانب جديدة من التاريخ المصري»، ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «هذه المقتنيات توفّر رؤى قيّمة حول أساليب الدفن والعادات الثقافية القديمة التي كانت جزءاً من الحياة اليومية للمصريين القدماء».

ويعدُّ عبد البصير هذه الاستردادات إسهاماً في تعزيز الهوية الوطنية، إذ تُساعد في الحفاظ على التراث الثقافي من أجل الأجيال القادمة، مؤكداً أنّ «وزارة الخارجية المصرية تلعب دوراً حيوياً في استرداد الآثار من خلال التفاوض مع الدول الأجنبية والتنسيق الدبلوماسي للوصول إلى حلول تفاوضية تُرضي الأطراف المعنيّة»، لافتاً إلى أنّ استرداد القطع يأتي بالتزامن مع زيارة الرئيس المصري إلى آيرلندا؛ مما يؤكد اهتمام الدولة على أعلى مستوياتها باسترداد آثار مصر المُهرَّبة من الخارج.

قطع متنوّعة من الآثار استردّتها مصر من آيرلندا (وزارة السياحة والآثار)

«وتسهم الاتفاقات الثنائية التي تعقدها مصر مع الدول في استعادة الآثار؛ منها 5 اتفاقات لمكافحة تهريبها والاتجار في الآثار المسروقة مع سويسرا وكوبا وإيطاليا وبيرو وكينيا»، وفق عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية، الخبير الآثاري الدكتور عبد الرحيم ريحان، الذي يؤكد لـ«الشرق الأوسط» أنّ «العلاقات القوية بين مصر وآيرلندا منذ تولّي الرئيس السيسي الحُكم أسهمت في استعادة هذه الآثار»، مشيراً إلى أنّ «مصر استعادت نحو 30 ألف قطعة أثرية منذ تولّيه الرئاسة، من الولايات المتحدة الأميركية، وإنجلترا، وفرنسا، وإسبانيا، وهولندا، وكندا، وألمانيا، وبلجيكا، وإيطاليا، وسويسرا، ونيوزيلندا، وقبرص، والإمارات، والكويت، والأردن».

ويتابع: «جاء ذلك بعد جهود حثيثة من إدارة الآثار المُستردة بالمجلس الأعلى للآثار، وبمتابعة مستمرّة لكل المزادات العلنية، وكل ما يُنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر وكالات الأنباء الدولية عن الآثار المصرية المنهوبة، وعن طريق مفاوضات مثمرة، بالتعاون بين وزارات السياحة والآثار والخارجية والداخلية في مصر».