رفيف الظل: نُفسّرُ النهرَ مرتين ولا نعبر

رفيف الظل: نُفسّرُ النهرَ مرتين ولا نعبر
TT

رفيف الظل: نُفسّرُ النهرَ مرتين ولا نعبر

رفيف الظل: نُفسّرُ النهرَ مرتين ولا نعبر

إنه دَرَجُ البصمة الصباحيّة، يصعدهُ مرتادو النهارِ لكي تهبطَ بهوياتهم إلى القاع، ولكي يتقاتلوا في المساءِ بحثا عنها. الهوية ليستْ سوى نقشٍ رقمي على بطاقة أُعيدَ تصنيعُها. هل يا تُرى كلّ هذا القتل جديرٌ بها؟ أليستِ الهوياتُ مجردَ مرايا يمكنُ أن تُكسَرَ برمية حجر؟ أليسَ الانتماءُ إلى الحقيقة هو الخلاص المحض؟
فئتانِ في الدنيا هما ضدّكَ وأنت، وكلاكما نشيدُ قناع.
الجوهرُ الإنساني أو جذرهُ نقاءٌ بكر، لكنّ قشرتَهُ حين يُكسرُ، تتلوثُ باتباعِ هوى السلالة.
وماذا نسمّي الغريبَ وهو هنا كلانا؟ عندما، ونحنُ منفصمانِ، يكتمل؟ أليستِ الحقيقة هي جفافُ جرح سينزفُ لاحقا؟ أليسَ الجرحُ هو تزاوجُ السؤالِ بالخديعة، والصدمة بالجسارة، والشعاعِ بالخوف؟ وإلاّ كيفَ نفسرُ النهرَ مرتين ولا نعبر؟ وهذه الحشود، كيف تؤمنُ بالوهم وهو بعدُ لم يطرأ؟ ألفرط الأمل اليائس؟ ألانهيار اللغة نحوَ قاع المعجم، حيث الحروفُ تشيحُ بوجهها عن الكلمات؟
وترى التاء تخجل من أنوثتها في ساعة الشوك. والبياض يُتّهمُ بالعري، والصمّ لا يكترثون لو خَدَشَ الخطاطُ جبينَ المعنى بتجاعيدَ جديدة.
قلْ لهم: ماذا تنحرون؟
لا تموتُ الفكرة حتى لو قطعوها بسكينِ الصدأ. وعازفُ الربابة، حتى لو كانَ أعمى، تظلّ رميتُهُ تصيب.
بينَ قتلينِ صارمين، يُتاحُ للنصّ أنْ ينشأَ مثلَ الأشجار. المسافة اختزالٌ غيرُ مخلّ للزمن. لكنّ أي عازفٍ يمكنُهُ إنقاذنا من هذا الشخيرِ المتسارعِ لرئة الديناصورات وهي تتماثل مستعيدة لياقتها؛ مخلوقاتُ ما قبل اللغات.
أي أبجدية؟ ومن أين لنا معاجمُ تتهجّى؟ ثمّة نصلٌ يتحرّشُ بحناجرنا، ما قبل التكوين وقبل الدين. ثمّة من يكرز نحو القتل. هؤلاء القتلة، هل سيتمكنُ قناصوهم من رصدنا ونحن نتحرش بقميص اللغة، لنبتهجَ بمفاتنِها؟
أيها المهتوكُ قبلَ فطامِ النص، لا تحملِ القلمَ صليبا على ظهر شِركِك. لن يَقْبلكَ الأنبياءُ، وهم قلة، والناسُ بحرٌ في الهدير. وعلى رأسك سوف ينزفُ عقيقُ التاجِ
لأنكَ مياعة ما يسيلُ من جرح المعنى.
أيها الجسورُ في عواءِ الصمت، أيها المنادي بالهروبِ من حفلة الشرر، لا تغرفْ من الأمثالِ، فكلها عبطُ الرتابة، ولا تستلذ بالحكمة لأنها عمياء. اشربْ دمارك، تجرّعْ رشفة السمّ ببطء والحسْ لذة الفناء. امنحِ الدنيا مهرَها لتكونَ سيّدَ ما تصير، شاعرا أو ثرثارَ أقوامٍ أو رسولَ الحنكة في عيِن الدُهاة. ومن سبب إلى سبب ستقفزُ، ولن يكونَ في مصرعِ الوقتِ فوزُكَ بالحياة.
هذا نطقٌ مؤجّل،
هذا اجترارُ رغو في حديثٍ عن سُبل النجاة.



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.