لا مكان آمناً في بغداد إلا مقابرها

في ضيافة الشيخ معروف الكرخي

قبر زمرد خاتون من الداخل
قبر زمرد خاتون من الداخل
TT

لا مكان آمناً في بغداد إلا مقابرها

قبر زمرد خاتون من الداخل
قبر زمرد خاتون من الداخل

وصلني قبل أيام قليلة خبر وفاة خالي سعدون، ومن دون أن يوصي بأي شيء قبل رحيله، عرف أفراد أسرته وأقاربه ما هي أمنيته: أن يُدفن في تلك البقعة الصغيرة التي بنى دكة صغيرة عليها تقع بين قبر ابنه البكر الذي قُتل غدراً قبل عقد تقريباً، وأخته الكبرى التي غادرت الحياة في أشهر الحرب الأخيرة مع إيران.
أشك أن خالي يعرف أي شيء عن معروف الكرخي أكثر من كونه وجهاً بارزاً ارتبطت المقبرة، التي تضم عظام أقاربه، باسمه، أو قد يكون صاحب الأرض نفسها، فهو لم يقرأ في حياته كتاباً، ولم يُشغل ذهنه بفكرة خارج حاجاته الأولية، وتجاوزَها قليلاً إلى إشباع متع حسية كان يتنافس فيها مع أبنائه الذكور ويُشركهم فيها، وتظل مادة أولية لأحاديثه في سنواته الأخيرة، مع تكالب الأمراض على جسده.
كل ما يعرفه أن أقاربه من جهة الأم امتلكوا حقاً بالأقدمية للإقامة الدائمة في هذا المربع الصغير الذي لا يزيد عن 100 متر مربع من مقبرة الشيخ معروف؛ النساء جلبن أزواجهن معهن والرجال جلبوا نساءهم معهم.
ومع اختناق المقبرة تماماً بساكنيها بعد كل الحروب التي استهلكت ماكينتها دماء أعداد كبيرة من سكان بغداد (حالهم حال الجميع في شتى أنحاء العراق)، أصبح ممكناً فقط للمقيمين القدامى استقبال أبنائهم وأحفادهم ليخففوا عنهم وحشة الوحدة.
حين كان خالي سعدون يحضر خلال السنتين الأخيرتين إلى المقبرة قبل حلول فجر أول أيام العيد، كان يرافقه جيل جديد من الشباب الذين هم أبناء أخوته وأخواته وأحفاد خالاته. ومن الدكة التي أصبحت ملكيته الوحيدة (دون طابو) في هذا المكان الموحش المترب، الخالي من أي أثر للأشجار، يستطيع أن يحدد هوية كل قبر حال إشعال الزوار الشموع حول ذويهم الراحلين. فعلى بعد أمتار قليلة عنه ترقد أمه التي دُفن جثمانها فوق رفات أبيها، السيد حسن، المعروف باتباعه إحدى الطرق الصوفية المولعة بإقامة الذكر، غير أن الشاهدة التي بجانب ذلك القبر لا تحمل سوى اسم جدتي التي ترملت وهي في سن الأربعين، ولم تعرف من سنوات حياتها الباقية سوى مسؤولية أبنائها الستة. ولعل هذه الحالة هي القاعدة، فالسيد حسن نفسه يقيم فوق رفات أبيه أو أمه، وهلم جرا.
لا أظن أن خالي سعدون سمع بأبيات المعري التي كأنها تصف ما كان يجري خلال عقود وقرون من حياة هذه البقعة الواقعة في صوب الكرخ:
ربَّ لحدٍ قد صار قبراً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد
ينتابني شعور قوي بأن خالي كان يؤمن (وقد يكون لا شعورياً)، بشكل ما من أشكال الأنيمية، فالموتى يبقون أحياء بشكل آخر، في قبورهم، ولذلك هو لا يجد حرجاً أن يشعر بالألفة حين يسلّم على أخوته وأبناء خالاته ويتبادل الطرائف عما فعلوه خلال حياتهم. لعل الخيط الفاصل بين الحياة والموت بالنسبة له ليس سوى في الشكل فقط، أما مضمونهما فواحد، وقد يكون ذلك وراء مخاطراته الكثيرة وجرأته ونزقه التي كانت تضعه من وقت إلى آخر أمام احتمال موته.
في اليوم الذي أعقب مقتل ابنه، اتصل بي هاتفياً، ليخبرني بالفجيعة، ولعلي كنت تحت الصدمة أكثر منه، إذ سمعت تسجيلاً لقراءة سورة «ياسين» يتسلل عبر الهاتف، لكنه انتقل في مكالمته إلى مواضيع عادية أخرى لا صلة لها بما كان يجري في بيته آنذاك.
هذه اللامبالاة أمام الموت جعلته يخوض سلسلة عمليات جراحية خطيرة، لكنه ظل يمر من واحدة إلى أخرى بسلام، فيعود إلى أرجيلته وحكاياته الممتعة عما جرى له خلال سنوات حياته، بعد إعادة ترتيبها وجعلها مسلية لضيوفه، لكنه هذه المرة وبامتلاء مستشفيات بغداد بالمصابين بفيروس كورونا، ما كان بالإمكان أن يحصل مثل المرات السابقة على أي من العناية الصحية.
لا أظن أن خالي يعرف أن معروف الكرخي توفي عام 815 ميلادية، وأن ضريحه أصبح جزءاً من مسجد بناه الخليفة العباسي الناصر لدين الله سنة 1225 ميلادية، وأعيد تجديده مراراً، فهو من أوائل رواد التصوف البغدادي، وأصبح قطباً بعد وفاة شيخه، داود الطائي.
يذكر المؤرخون أنه ذات مرة كان جالساً على نهر دجلة، فمر زورق يحمل عدداً من الشباب الذين كانوا يغنون ويمرحون، فطلب أصحابه أن يدعو عليهم فرفع يديه إلى السماء، وقال: «إلهي وسيدي، كما فرّحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة!»، فقال له أصحابه «إنما قلنا لك: ادع عليهم»، فقال «إذا فرَّحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يُضركم شيء». ولو أنني أخبرته بهذه الحكاية لقال ضاحكا: أنا كنت في ذلك الزورق.
عندما توفي معروف الكرخي دُفن في هذه المقبرة التي كانت تحمل اسما آخر: الشوينزية أو باب الدير العتيقة، لكن مع مرور الوقت ولتبجيل الناس لهذا الولي أخذت المقبرة اسمه، وهذه حال أكثر المقابر في بغداد، لكل منها شيخ جليل يحمي سكانها.
لكن مقبرة الشيخ معروف، ضمت إليها رفات فقيه ومتصوف كبير آخر ما زال أتباعه منتشرين في العالم الإسلامي، وما زالت كتبه العديدة متداولة؛ إنه الشيخ الجنيد البغدادي المتوفى عام 910 ميلادية، والذي يعتبر من أكثر المتصوفة المسلمين الذين أقاموا صرحهم الفكري على القرآن والسنة النبوية، وهذا ما جعله موضع تقدير كل الملل المحافظة منها والمتحررة.
هنا في هذه الزاوية المنسية من بغداد أقيم مسجد فوق ضريحه، تبلغ مساحته 2500 متر مربع، ويتسع لمائة مصل، وتقام فيه صلاة الجمعة وصلاة العيدين والصلوات الخمس. إذن فأنت الآن لست في صحبة أخوتك وأخواتك وابنك القتيل وأبناء خالاتك فحسب، بل في صحبة شيخين جليلين يخففان بمسجديهما اللذين يقفان فوق أعلى نقطة في المقبرة وحشة المكان وسكونه.
كم تبدو هذه المقبرة من الأماكن القليلة التي لم يلحقها الخراب، لا على يد الغزاة، ولا على يد الحكام المحليين الذي دمروا كل ما يمت بصلة لهذه المدينة التي أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ببنائها عاصمة له عام 762 ميلادية. في أول الأمر، اختيرت ضفة الكرخ الواقعة إلى غرب نهر دجلة عاصمة لهذه الدولة الناشئة، فبني سور حولها ثم تدريجياً امتد البناء إلى الجانب الشرقي للنهر: صوب الرصافة.
وكأنه من تلك النقطة الزمنية البعيدة، رمى أبو جعفر المنصور عبر اختيار موقع عاصمته حزمة من الأقدار المخبأة لأجيال، ترجّعت أصداؤها عام 1991، حين تعرضت بغداد لقصف جوي، مدة أربعين يوماً، وخلالها تجاوزت القنابل التي أُسقِطَت عليها ما أُسقِط خلال الحرب العالمية الثانية.
لا بد أن خالي سعدون أحبّ تلك المنارة المقرنصة الغريبة في معمارها التي تضم في قبوها ضريح زمرد خاتون أم الخليفة العباسي الرابع والثلاثين الناصر لدين الله، فهي جمعت المال من أوقاف المدارس القائمة آنذاك وبنت قبل وفاتها عام 1202 ميلادية، هذا الصرح الرائع بالقرب من مسجد معروف الكرخي.
هل حققت زمرد خاتون الخلود لنفسها عبر هذا المعلم أم خلود هذه المقبرة؟ لا بد أن من يراه اليوم دون معرفة لتاريخه سيشك بأن هناك فعلاً فاصلة زمنية لا تقاس بالسنين أو العقود، بل تتجاوز الألف سنة بين تاريخ اكتماله ويومنا الحالي.
كم يُشبه سكان ذلك المربع الصغير في مقبرة الشيخ معروف، بنزواتهم وغضبهم وحبهم وأحلامهم، مدينتهم التي عاشوا هم وأسلافهم فيها عبر القرون.
فهذه المدينة جمعت كل التناقضات في حناياها: في طقسها وقسوتها وحنانها وأفراحها وأحزانها.
هل هم مراياها أم هي مرآتهم؟ أقلّب أمامي صور بعضهم في مراحل مختلفة من حياتهم: وهم أطفال يحملون لعبهم الصغيرة، وهم صبية، وهم شباب، ووراء كل صورة هناك حكايات تتردد أصداؤها في رؤوس أبنائهم اليوم، وكأن الحياة تعود في دوراتها عبرهم، وبفضل هذه الجذور يبقى معروف الكرخي والجنيد البغدادي حاملَين في تلك البقعة المنسية مفتاح الباب الموصل للفردوس. كم هم محظوظون سكان مقبرة الشيخ معروف. كأنها المكان الوحيد الذي ظل آمناً من الدمار في بغداد، جنباً إلى جنب، مع مقابرها الأخرى على طرفي نهر دجلة المتلوي والمتباطئ في اندفاعه صوب البحر.
- روائي ومترجم مقيم في لندن



العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي.

ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية.

ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار.

ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية.

وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف.

وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع.

وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق.

وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي.

ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا.

وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟