«الخبز الحافي» لمحمد شكري لا تزال حاضرة بقوة

أشهر روايات الكاتب المغربي وأكثرها إثارة للجدل

«الخبز الحافي» لمحمد شكري لا تزال حاضرة بقوة
TT
20

«الخبز الحافي» لمحمد شكري لا تزال حاضرة بقوة

«الخبز الحافي» لمحمد شكري لا تزال حاضرة بقوة

أعادت «منشورات الفنك»، بالدار البيضاء، إصدار رائعة محمد شكري «الخبز الحافي»، أشهر روايات شكري وأكثرها إثارة للجدل، وذلك ضمن سلسة «كتاب الجيب»، في إطار سياسة «جعل الكتاب الجيد في متناول الجميع».
وبنشر «الفنك» لإصدار جديد، تؤكد «الخبز الحافي» قيمتها بصفتها إحدى أهم الروايات التي أكدت قيمة الإبداع المغربي، عربياً وعالمياً، بعد أن راكمت أرقاماً قياسية، سواء على مستوى المبيعات أو اللغات التي ترجمت إليها، دون الحديث عن المتابعات النقدية الكثيرة أو الهزة الكبيرة التي أحدثتها داخل الوسط الثقافي العربي، وشهرتها عالمياً أيضاً، حيث ترجمت إلى 39 لغة، من بينها الترجمة الإنجليزية لبول بولز سنة 1973، والترجمة الفرنسية للطاهر بن جلون سنة 1981.
نقرأ لشكري على غلاف الإصدار الجديد: «لقد علمتني الحياة أن أنتظر، أن أعي لعبة الزمن من دون أن أتنازل عن عمق ما استحصَدْته: قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتماً طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية... أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات. فيا أيها الليليون والنهاريون، أيها المتشائمون والمتفائلون، أيها المتمردون، أيها المراهقون، أيها (العقلاء)... لا تنسوا أن (لعبة الزمن) أقوى منا، لعبة مميتة هي، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا، لإماتتنا، أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة. أقول: يُخرج الحي من الميت. يُخرج الحي من النّتِن ومن المتحلل. يُخرج من المُتْخم والمنهار... يُخرجه من بطون الجائعين ومن صُلب المتعيشين على الخبز الحافي».
ومن المفارقات اللافتة أن هذه الرواية التي كتبت سنة 1972 لم تنشر بالعربية إلا سنة 1982، وهي تشكل الجزء الأول من السيرة الذاتية للكاتب الطنجاوي، إلى جانب «زمن الأخطاء» و«وجوه».
ولدت «الخبز الحافي» بدافع من الكاتب الأميركي بول بولز الذي كان يقيم وقتها في طنجة، فيما تكفل الطاهر بن جلون بترجمتها إلى الفرنسية. وقد أثارت عند صدورها ضجة كبيرة إلى درجة منعها في معظم الدول العربية بسبب جرأتها غير المألوفة.
وفي حين أخذت الرواية في النسخة العربية «الخبز الحافي» عنواناً، والمعنى نفسه في الفرنسية، فقد أخذت في النسخة الإنجليزية عنوان «من أجل الخبز وحده».
ويجمع النقاد على أن رواية شكري «تؤرخ لحالة البؤس والتهميش التي عاشتها شرائح عريضة من مغاربة ما قبل منتصف القرن الماضي»، فيما «تقدم مغرب القاع الاجتماعي، مغرب المنبوذين والفقراء والأشقياء، مغرب كل تلك الشخصيات البسيطة التي يحولها الكاتب إلى كائنات ترفل في المطلق الإنساني، وترفض الحشمة الزائفة».
ومن بين كتاب الغرب، قال الإسباني الراحل خوان غويتسولو إن شكري «نظر إلى حياة بلده من القاع، فرأى ما لا يراه الآخذون بزمام الحكم أو العاجزون عن رؤيته». أما الكتاب العرب، فقالوا عنه إنه «كان حكاية»، وإنه «وجه صفعة للثقافة العربية الحديثة»، مشددين على أنه «نجح حيث فشل كثير من الأدباء»، كما «نجح في أن يكون بطل نصوصه وكاتبها في آن واحد».
أما شكري، فقال إن هدفه كان ألا يجمل ما هو قبيح، في حياته وفي حياة الآخرين، وأن يكشف عن التشوهات الموجودة في المجتمع.
واعترف شكري الذي توفي سنة 2003 بأنه حاول، غير ما مرة، قتل الشهرة التي منحتها إياه رواية «الخبز الحافي»، قبل أن يتابع قائلاً: «كتبت (زمن الأخطاء) ولم تمت، وكتبت (وجوه) ولم تمت؛ إن (الخبز الحافي) لا تريد أن تموت، وهي تسحقني. أشعر بأنني مثل أولئك الكتاب الذين سحقتهم شهرة كتاب واحد، شأن سرفانتيس مع (دون كيخوت)، أو فلوبير مع (مدام بوفاري). (الخبز الحافي) لا تزال حية، رافضة أن تموت؛ الأطفال في الشوارع لا ينادونني (شكري)، بل ينادونني (الخبز الحافي)».



«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر
TT
20

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

«أغالب مجرى النهر» تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر

تصدر قريباً عن «دار نوفل - هاشيت أنطوان» رواية «أغالب مجرى النهر» للكاتب الجزائري سعيد خطيبي. وفيها يصوّر الكاتب أناساً انتهتْ بهم الحياة أسرى أقدارهم.

في «أغالب مجرى النهر» التي تقع في 288 صفحة، مشرحة، وعيادة، وغرفة تحقيق تُستجوَب فيها امرأةٌ متّهمةٌ بمقتل زوجها. وفي الطرف الآخر من المدينة، مناضلون قدامى يرجون رفع تهمة العمالة التي لُفّقَت لهم.

حدثان مختلفان تتكشّف العلاقة بينهما مع تقدّم الرواية التي تؤرّخ لنصف قرنٍ من تاريخ الجزائر؛ من الحرب العالميّة الثانية حتّى مطلع التسعينات، مروراً بحرب التحرير وما تلاها.

أما صاحب الرواية الجزائري سعيد خطيبي، فهو من مواليد عام 1984، صدرتْ له خمس روايات، آخرها «نهاية الصحراء» (نوفل، 2022) التي حازت «جائزة الشيخ زايد للكتاب» (دورة 2023).

وتنشر «الشرق الأوسط» هنا مقتطفاً من «أغالب مجرى النهر» قبل أيام من صدورها:

نويتُ قطع أنفاسِه، لكنْ لم أتخيّل نفسي محتجَزةً في هذا المكان، الذي لا تتعدّى مِساحته خمس خطواتٍ طولاً ومثلها عرضاً، وأنا أقاوم خفَقات قلبي بمناجاة ربّي، راجيةً ألّا يخيِّبني. أشعر بانقباضٍ في معِدتي، وأمتنع عن مدّ يدي إلى صحنٍ معدِنيٍّ، قدّمه إليّ شرطي من كوّة الباب، يمتلئ نِصفه أرزّاً وتمرح فيهِ نملتان. أضغط على أسناني كي لا أبكي، مع أنّ لساني يرغب في الصراخ. لكن لن يبالي أحد بحالي، مثلما لم يبالِ أحد بصُراخات امرأةٍ تقبع في المَحبس المجاور، قضتْ ليلَها تطلب رؤية شخصٍ يُدعى هلالي، وهي تطرق بابَها وتستغيث بأن يُفرجوا عنها، فسددتُ أذنيَّ بكفَّيَّ إلى أن خمد صوتها. ظنّي أنّه قد أُغمي عليها. فآثرتُ الصبرَ مع أنّ أعصابي لا تحتمل طولَ انتظار.

أمسكتُ شعري بيديَّ، أرغب في نتفه. ورغبتُ في التمدّدِ، لكنّني لم أُطق صلابة الأسمنت، في هذا المَحبس الواقع في مخفرٍ، لا وسادة فيه ولا فراش.

لطمتُ خدَّيّ، اللذَيْن رشَحا بدمعٍ ممزوجٍ بعرقٍ، من شدّةِ الحرِّ: يا ربّي، فرّج عنّي!

أُحدّق في الحيطان التي تطوّقني، ولا تفارق مِنخريّ رائحة زنخة فاحت مِنْ مغسلةٍ، مصنوعةٍ من خزفٍ، تشقّق حوضها، وقد نضب الماء من صنبورِها. مثلما نضب من بيوت الناس، فصاروا يشربون ماء الوادي، بعد تصفيته من دود العَلَق.

أحسستُ بصعوبةٍ في التنفس، وخشيتُ أن يطول مكوثي في هذا المكان، فلا أرى أبي مرةً أخرى. أمّا أمّي، فرجّحتُ ألّا يهمّها أمري. قد يحوّلونني إلى سجنٍ بعيدٍ، فلا يتاح لأحدٍ من أهلي زيارتي. وأقبح ما جال في خاطري أن أفقد ابنتي. سوف يسخر منها الأطفال: «أمّكِ في الحبسِ»، وتلوذ بالبكاء كعادتها كلّما سمعتْ ما لا يسرّها. وعندما يُفرج عنّي، بعد أن تتساقط أسناني ويبيضّ شعري، لن تتعرّف إليّ. لن أرافقها إلى المدرسة عندما تكبر، ولن أحضر عرسها. لقد أنجبتُها كي أخسرها.

تلاطمتْ تلك الأفكار في بالي، ورغبتُ في التخلّص من خوفي مثلما رغبتُ في العودة إلى عملي. حياتي بين بيتٍ وعيادةٍ لا في محبس. علّمَني الطبّ كبت قلقي وتحمّل المشقّات. لكنّني نسيتُ كلَّ ما تعلّمتُه، مُصرّةً على أنّ خطأً قد وقع، فأنا لم أفعل شيئاً يستحقّ سَجني. لكن مَن يصدّق كلامي!

شعرتُ كأنّني جروٌ يحاصره أطفال بالركل، وأنا أجول ببصري بحثاً عن حبلٍ أُعلّق عليه رقَبتي، أو آلةٍ حادّةٍ أفتح بها شراييني، فلم أعثر على مُرادي. غطّتْ عينَيّ غِشاوة من كثرة الدمع، وقمتُ زامّةً شفتيَّ كي تكفّا عن ارتجاجهما. تكوي يديَّ حرارةٌ. أرغب في التعاركِ مع أحدهم، أن أهشّم رأس تلك الشرطيّة، التي تفوقني وزناً وتقلّ عنّي طولاً، والتي أودعتني، في اليوم السابق، هذا المكان.

«اقلعي حوايجك!». حال وصولي أمرتْني بعينَيْنِ صارمتَيْنِ أن أتجرّد من ثيابي، فلسعتْ وجنتَيَّ حرارةٌ من شدّة الخجل، وأنا التي لا أتعرّى أمام أقرب الناس إليّ. لكنّني امتثلتُ، وساورني شعور بأنّني أتعرّى من روحي لا ثيابي. أغمضتُ عينَيّ، وهي تجسّ بدني بيدَيها الخشنتَيْن.

«افتحي فمكِ». تفقّدتْ أسناني، ثمّ أمرتني أن أُخرج لساني ففعلتُ. قولي: «عاآآآ». كأنّني شاة يتفحّصها زَبون، عاريةً رحتُ أتساءل في نفسي: علامَ توقّعَتْ أن تعثر؟ مخدّرات أم سلاح؟

أمسكتُ لساني عن نعتها ﺑ«خامجة»، فالغضب حجّة الضعفاء، كما سمعتُ من أبي. لم تعثر على شيءٍ، فأمرتني بنظرةٍ هازئةٍ أن أُعيد ارتداء ملابسي، بعدما حجزتْ خاتَمي وساعة معصمي، ثمّ أغلقتِ الباب بعارضةٍ حديديّةٍ وانصرفتْ. ليتها تعود فأطرق جبهتها الناتئة، لكنّني طرقتُ الباب براحة يدي، مرّة، مرّتَيْن، وثلاثاً: «افتحوا... افتحوا!».

لم أسمع سوى صدى طَرْقي، ثمّ دهمني ارتخاء في يدي وبلعْتُ ريقي. أعدتُ صُراخي وتخيّلتُ ابنتي تدسّ رأسَها في حجري. أظنّني سمعتُ همسَها في أذنيَّ: «ما تخافيش ماما». بل أنا خائفة وأخمّن ما تفعله في غيابي. هل تشتاق إليّ؟ طفَتْ في ذهني صورتها وهي تضحك عندما أشتري لها لعبةً، ثمّ تحدّق إليّ شاكرةً بعينَيْها السوداوَيْن، أو ابتهاجها وهي تلبس ثوباً جديداً. هل بكت في غيابي؟ هل نامت بينما أنا مسجونة؟ خالجني شعور بأنّني أخطأتُ في إنجابها وأذنبتُ في حقّها.

عدتُ إلى الأدعية وتكرار قِصار السور، ثمّ سمعتُ أذانَ الظهر، ما يعني أنّني قضيتُ يوماً كاملاً في هذا المكان. واصلتُ قرع الباب، متجاهلةً الارتخاء الذي اكتسح يدي، عندما أطلّ عليّ شرطيّ من الكوّة، بحاجبَيْن كثيفَيْنِ:

– اصبري... حتى يوصل لَمْعلّمْ.

سألتُ من يكون هذا «لَمْعلّمْ»، من غير أن أُبلَّغ إجابة:

– متى يصل؟

– الله أعلم.

ردّ عليّ ذو الحاجبَيْن الكثيفَيْن، كاشفاً عن أسنانه العلويّة المعوجّة. ثمّ انصرف كمَنْ أسعده ما حلّ بي، غيرَ راغبٍ في سماع أسئلةٍ أخرى، فشتمتُ والديه في سرّي. إنّه من نوع الرجال الذين نستثقل روحهم، دائماً ما أفرض على أمثاله تسعيرة أعلى من غيرهم حين يأتون إلى عيادتي. وقد حفِظتُ ملامحَه، فإن أُفرج عنّي وجاء يشتكي ضرراً في عينَيْه، فسأمتنع عن مداواته.

حضنتُ ساقيّ بين ذراعيّ، كي أُخمد رغبتي في ركل الحائط. قبل أن أسمع وقع خطواتٍ، فاستقمتُ وعدّلتُ تنّورتي. عادتِ المرأة التي تقبع في المحبس المجاور إلى صراخها، وعاد ذو الحاجبَيْنِ الكثيفَيْنِ وفتح بابي: «اتبعيني عند لمْعلّمْ».

عرَفتُ أنّ تلك الكلمة يقصدون بها المحقّقَ، الذي أمرني بالجلوس قُبالته، على كرسيٍّ خشبيٍّ برِجْلٍ أقصر من نظيراتها، في غرفةٍ تتوسّطها طاولة يعلوها هاتف، آلة كاتبة، رزمة أوراقٍ، وكوب قهوةٍ فارغ، يستعمله كمنفضة سجائر، فيما السّاعة المثبّتة على الحائط تجاور عقاربها الواحدة زوالاً.

ظلّ بدني يترنّح وأنا أردّ على أسئلته، التي جعلتْني أندم على ما عشتُه.