عبد الوهاب البياتي... هل نسيناه؟

عقدان على غياب أحد رواد الشعر العربي الحديث

عبد الوهاب البياتي
عبد الوهاب البياتي
TT

عبد الوهاب البياتي... هل نسيناه؟

عبد الوهاب البياتي
عبد الوهاب البياتي

في مثل هذا اليوم، الثالث من أغسطس (آب)، رحل الشاعر عبد الوهّاب البياتي، الذي يعد واحداً من ثلاثة أسهموا في تأسيس مدرسة الشعر العربي الجديد في العراق من رواد الشعر الحر، إلى جانب نازك الملائكة وبدر شاكر السياب. وقد ولد البياتي عام 1926 في بغداد. وعمل مدرساً من 1950 إلى 1953، ثم بدأ مسيرته في العمل الصحافي منذ عام 1954 في مجلة «الثقافة الجديدة»، لكنها أغلقت، وفصل من وظيفته، واعتقل بسبب مواقفه الوطنية، فسافر إلى سوريا، فبيروت، ثم القاهرة، وفي عام 1963 أسقطت عنه الجنسية العراقية.
عاد البياتي إلى القاهرة عام 1964، وأقام فيها إلى 1970، وفي الفترة من 1970 إلى 1980 أقام في إسبانيا. وبعد حرب الخليج الثانية في 1991 توجه إلى الأردن ومنها إلى أميركا قبيل حرب الخليج الثانية بسبب وفاة ابنته نادية التي تسكن في كاليفورنيا، حيث أقام هناك 3 أشهر أو أكثر، بعدها توجه للإقامة في عمان بالأردن، ثم غادرها إلى دمشق، وأقام فيها حتى وفاته.
الملاحظ، أن البياتي لم يحظ بالاهتمام والاحتفاء النقدي، خصوصاً في العقد الأخير، من قبل النقاد والقراء، على عكس زميليه السياب ونازك.
والمتابع للمشهد النقدي في العراق يلمس ندرة أو تجاهل النقاد لتجربته الشعرية وأثره، وتأثيره في المشهد الشعري العراقي الحالي بشكل خاص.
ما السبب وراء ذلك؟ هنا أراء بعض النقاد والشعراء العراقيين:

نادية العزاوي
بعد موت الشاعر، أي شاعر، تنهض أسئلة النقد النوعيّة الخطيرة: هل سيُكتَبُ لشعره البقاء؟ ما أسباب البقاء أو الزوال؟ وماذا سيبقى منه وكيف؟ إنه يمكن لنا أن نختلف في مكانة قصيدة البياتي بالمنظور النقدي الخالص، وبمعزل عن الموجّهات والاعتبارات الخارجة عن منطق القصيدة الفني، وبالقياس - مثلاً - إلى شعر زميليه: السيّاب بحمولة شعره الرمزيّة والأسطوريّة، ونازك الملائكة بثقل القضايا الوجوديّة الكبرى في قصائدها، اللذين ما زالت قصائدهما محوراً لكثير من الدراسات والمقالات، وبما يؤكّد حضورهما الحي في الساحة الأدبيّة، أما مكانة البياتي فقد صنعتها عوامل متنوعة، بعضها مرتبط بخصوصيّة قصيدته شكلاً ومضموناً، وبعضها الآخر ظروف شخصيّة مساعدة: سياسية واجتماعية وإعلامية.
إن قصيدة البياتي صنعتْ بريقها من ملمحين أساسيين، هما: «توظيف أقنعة المتصوفة والثوار في الصراع الثنائي، الذي تسيّد العالم في النصف الثاني من القرن العشرين: بين المعسكر الاشتراكي والرأسمالي... وعنايتها بقصيدة المشهد اليومي المفعم بهموم البسطاء والمقهورين والعمال والفلاحين، والمشهد السياسي المواكب للثورات والانقلابات، والتعبير عنها بلغة مباشرة بل وشعاراتية أحياناً، فكانت تتألّق حيناً، أو تسقط إلى هاوية الجفاف حيناً آخر.
هل فقدت قصيدته تأثيرها في الأجيال الجديدة؟ وهل غابت امتداداتها في التجارب الجديدة، فتضاءل الاهتمام بها؟ في ظني لا ليس تمام الغياب، ولكنّ كثيراً من عناصرها، التي قامت عليها، وربما نجحت في خضمّها، وفي مناخ سياسي وفكري معين حرص البياتي على الدوران في فلكه، وربْط شعره به، لم تعد تجد تمثلاتها عندهم، في عالم تسوده صراعات من نوع آخر، وتتسيّد فيه رؤى مغايرة، وتتشكّلُ فيه ذائقة مختلفة كلّ الاختلاف.

طالب عبد العزيز
اشتغل عبد الوهاب البياتي في كتبه الشعرية المتأخرة على ما لم يشتغل عليه أحد من جيل الرواد، لكأنه اكتشف أرضاً شعرية جديدة، خارج اشتغال الآخرين. إنها تجربة لغوية متأصلة بما قرأه وتشبّع به من كتب التصوف والعشق الإلهي، في الشعر الفارسي على وجه التحديد، فهو في التجربة هذه مختلف بالتمام عما قرأناه في شعر أدونيس مثلاً. هناك من يرى في كتبه الأولى شاعراً مصنوعاً، مدعياً الشعر، دعائياً، ينسب لنفسه ما ليس فيه. لقد سمعت من مجايله الشاعر محمود البريكان رأياً مفارقاً فيه، يقول: «إنَّ البياتي ينسب لنفسه ما لم يقم به، فهو شاعر محدود الموهبة، لكن، هناك عشرة شعراء، كل واحد منهم اسمه عبد الوهاب البياتي، يمشون في الطرقات ويصيحون: عبد الوهاب البياتي عبد الوهاب البياتي... يتقدمهم شاعر آخر اسمه عبد الوهاب البياتي»، في تقليل واضح من شانه. وقد تكون الريادة في الشعر وراء أهميته عند بعض النقاد والقراء، لكنني، أجده في الكتب التي ذكرتها آنفاً شاعراً يمتلك روحاً خالصة للشعر، وتجربة إبداعية بالغة الأثر والجمال».
إن أثر البياتي في الأجيال الشعرية اللاحقة لم يكن مختلفاً عن السياب والبريكان ونازك. كلهم لم يتركوا أثراً في الأجيال الشعرية العربية بشكل واضح مثلما فعل أدونيس وسعدي مثلاً. لكنني، أجد أيضاً، أنه لم يوفق في لعبة السياسة التي لعبها، ومن يتصفح كتبه الشعرية في المرحلة تلك لا يقع على شاعر ذي أهمية، وفي العراق - حيث تهيمن السياسة الشيوعية على الثقافة - أثرت تنقلاتُه من الحزب الشيوعي، الذي اختلف معه باكراً، إلى قبوله والعناية به في حزب البعث، ووجوده كمستشار ثقافي بمدريد على أهميته، وربما وقفت بالضد من حضوره لاحقاً.

علي فواز
ما مدى ثنائية الثورة والمدينة، على شكل القصيدة التي كتبها، أو على مضمونها؟ وما علاقة ذلك بمفهوم الريادة الشعرية التي حولها النقد العربي إلى «سجن» تاريخي لعدد من الشعراء العراقيين..
إن انحياز البياتي للثورة جعله أكثر اقتراباً من القصيدة النشيد، وأكثر تمثيلاً «لأدائها الغنائي، ولطبيعة جملتها القصيرة، ذي التعبير الوامض، وذي الرسالة المباشرة عن الفكرة الواضحة والصورة اللماحة، وهذا ما يعني تخفيف العبء البلاغي عن القصيدة، والابتعاد عن الغلو في التقانة التعبيرية العالقة عميقاً بذاكرة القصيدة العربية».
وعلاقة البياتي بالمدينة جعلته أكثر واقعية وخفّة في التقاط يومياتها، وتفاصيلها، وهويتها، والنظر إلى تحولاتها الشعرية، فضلاً عن نزوعه للاستغراق في تمثيل بعض شخصياتها التاريخية والمثيولوجية والصوفية، التي اقترن وجودها بمدينة بغداد، إذ يُعدّ البياتي في هذا السياق واحداً من أكثر الشعراء العرب تمثيلاً للقيمة التعبيرية والخطابية للمدينة، وهو ما جعل قصيدته أكثر اختلافاً عن قصيدة السياب التي ظلت الأقرب إلى الفخامة التاريخية، وإلى هواجس الشاعر «الريفي» في استغراقه التمثيلي، وفي قاموسه الصوري، وحتى في احتشاده البلاغي.
إن مفهوم الريادة الملتبس لم يكن بعيداً - أيضاً - عن تجربة البياتي، «فرغم هيمنة السياب ونازك الملائكة على هذا الحدث الافتراضي، إلا أنّ تجربة البياتي ظلت لها خصوصيتها الشعرية، على مستوى تقديم البراديغم الشعري، أو على مستوى (سهولة) الفكرة الشعرية وبساطتها، والتي أثارت حوله لغطاً كثيراً، وكذلك على مستوى نظرته لمفهوم التجديد الشعري، ولفرادته في التعاطي مع هذا التجديد، عبر تقانة القناع، وتقانة شعرنة التاريخ، وشعرنة المدينة، وشعرنة النشيد بوصفه خطاباً للثورة، والرفض والتغيير والحرية...».

ماجد الحيدر
من الصعوبة «قياس» أثر شاعر ما (إن صح التعبير) على من بعده، خصوصاً في ظل قلة الدراسات المقارنة واستطلاع الآراء الفردية للأجيال الشعرية اللاحقة. ورغم أن البياتي قامة كبيرة أحدثت أثراً عميقاً في الشعرية العربية الحديثة، سواء من ناحية مساهمته في الثورة على القالب الشعري التقليدي أو في تبنيه المبكر لخطاب ثوري ينسجم مع طبيعة المرحلة والشعارات والمطالب السياسية والاجتماعية الملّحة فيها، لكنه لم ينل ما ناله زميله ومنافسه السياب (في مقارنة تفرض نفسها) من شهرة و«شعبية» وإقبال جماهيري واهتمام نقدي وأكاديمي.
إن ذلك يعود برأيي إلى سببين، «الأول هو انسحاب البياتي من ساحة الشعر الذي يدغدغ أحاسيس الجمهور وقضايا الساعة (وهو عامل أساسي في تسويق الشاعر عندنا) نحو مناطق أكثر اقتراباً إلى العزلة والتأمل الفلسفي والاستخدام المكثف للرمز، وصولاً إلى الصوفية التي ظهرت ملامحها الأولى في وقت مبكر من تجربته، والثاني أن البياتي لم يثر الكثير من الجدل بتقلباته السياسية العنيفة، أو يستدر التعاطف مع مآسيه الشخصية (المترجمة شعراً) وصولاً إلى نهايته المحزنة المبكرة (كما حدث مع السياب). لقد ظل البياتي حتى النهاية شاعراً مهذباً، عقلانياً، أنيقاً، مسالماً (بالمعنى المجازي والحرفي لهذه الكلمات) في مفارقة للصورة النمطية للشاعر الذي يثير فضول الجمهور العربي، وتهتم به الدراسات النقدية والأكاديمية.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!