برتراند رسل... أحد الضمائر الكبرى للقرن العشرين

50 عاماً على رحيل العالم الرياضي والفيلسوف الأخلاقي

برتراند رسل
برتراند رسل
TT

برتراند رسل... أحد الضمائر الكبرى للقرن العشرين

برتراند رسل
برتراند رسل

نحاول هنا تقديم لمحة عامة عن حياة برتراند رسل، وأعماله وانخراطه في معمعة الحياة السياسية لعصره. فرغم تخصصه بالرياضيات وفلسفة العلوم البعيدة جداً عن القضايا الاجتماعية والسياسية، فإن برتراند رسل لم يجلس منعزلاً في برجه العاجي -كما يفعل بعض الفلاسفة- وإنما نزل إلى الشارع، وتدخل في الأحداث الجارية. فالرجل كان ذا نزعة إنسانية عميقة، ويهمه مصير الشعوب والإنسانية ككل؛ كان أحد الضمائر الكبرى للقرن العشرين. كان يحس بآلام المعذبين والمضطهدين وكأنها آلامه. من هنا عظمة برتراند رسل وأهميته في تاريخ الفكر. نقول ذلك دون أن نهمل بالطبع ضخامة الإنجازات التي حققها في مجال فلسفة العلوم والرياضيات والفيزياء والمنطق... إلخ. فمن هو برتراند رسل يا ترى؟
لقد ولد عام 1872 في عائلة أرستقراطية إنجليزية كبيرة، ومات عام 1970 عن عمر يقارب المائة عام! وكان عالماً رياضياً وفيلسوفاً أخلاقياً من الطراز الأول. وهناك إجماع على كونه أحد كبار فلاسفة القرن العشرين. وقد ساهم في تبسيط مبادئ الفلسفة وأفكارها لكي يفهمها الجمهور الواسع العريض. ورغم أصوله الأرستقراطية وغناه، فإنه كان مناضلاً إنسانياً من أجل العدالة الاجتماعية. كما كان منخرطاً في الهموم السياسية والقضايا الكبرى ضد مصلحة الرأسمالية الغربية والقوى المهيمنة. وكان قريباً من الخط الاشتراكي ذي الاتجاه الديمقراطي، لا الشيوعي الماركسي التوتاليتاري. ومعلوم أنه شكل المحكمة الدولية «رسل - سارتر» لمحاكمة جرائم الحرب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام. وكان ذلك بالتعاون مع الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر.
وقد تلقى جائزة نوبل عام 1950 تقديراً لمنجزاته في مجال العلوم والفلسفة، ثم بشكل أخص تقديراً لانخراطه في المجال السياسي الإنساني التحرري. وبالتالي، فقد جمع المجد من كل أطرافه: مجد العلم الرياضي الفيزيائي، ومجد الفلسفة، ومجد السياسة وخدمة البشرية. لكن لنعد إلى طفولته الأولى؛ من المعلوم أن برتراند رسل فقد أمه وأخته عام 1875، أي وهو في الثالثة من عمره، ثم فقد أباه بعد عام واحد فقط، أي وهو في الرابعة من عمره. وبالتالي، فقد كان يتيم الأب والأم، ولم يتح له أن يتعرف على والديه اللذين أنجباه، فربته جدته وعائلته الكبيرة. وكان متوحداً جداً في شبابه الأول وذا ميول انتحارية. من يصدق ذلك؟ نقول ذلك، وبخاصة عندما نعرف تطوراته اللاحقة، وكيف انقلب من النقيض إلى النقيض، وأصبح رجلاً اجتماعياً جداً منخرطاً كل الانخراط في شؤون العالم وهمومه وقضاياه. ولكن ربما كانت انطوائيته الأولى عائدة إلى أنه تربى في جو ديني قمعي يقتل الشخصية، ثم عشق الرياضيات ووقع في غرامها، كما تقع أنت في غرام امرأة حسناء فاتنة. وقال عندئذ عبارته الشهيرة: «عندما اكتشفت أقليديس، شعرت بالانخطاف والذهول، تماماً كما حصل لي عندما اكتشفت أول قصة حب في حياتي»! وفي عام 1890، دخل إلى جامعة كامبردج لدراسة الرياضيات والعلوم الأخلاقية أو الإنسانية. وفي عام 1910، نشر كتاباً مهماً تحت عنوان «مبادئ علم الرياضيات». ثم أصبح أحد كبار ممثلي الفلسفة التحليلية الإنجليزية.
وهذا يعني أنه كان يستخدم المنطق الرياضي الدقيق لتوضيح المشكلات الفلسفية وتحليلها أو تشريحها من أجل حلها. وبالتالي، فهو أحد مؤسسي علم المنطق الحديث. كما أنه الأب الشرعي للفلسفة العلمية أو التحليلية، وهي المضادة لفلسفة هيغل، ومجمل الفلسفة المثالية الألمانية القائمة على المفاهيم التجريدية العويصة الغامضة غير الدقيقة، بحسب رأيه. إنها قائمة على الشطحات الفلسفية العمومية، لا على العلم الفيزيائي أو الرياضي، بحسب زعمه. وهذه وجهة نظر يمكن الدفاع عنها ونقدها في الوقت ذاته. فلا أحد يشك في أن هيغل كان أحد عمالقة الفلسفة على مدار التاريخ، ولا يستطيع برتراند رسل أن يطيح به.
على أي حال، فلهذا السبب نجد أن الفلسفة الإنجليزية تختلف كثيراً عن الفلسفة الألمانية والفلسفة الفرنسية في آن معاً.
فهي فلسفة علمية إذا جاز التعبير، أي تابعة للعلم الفيزيائي الرياضي، وليست مستقلة بذاتها. ويبدو أن المشكلة الأساسية التي كانت تهمه هي التالية: هل يمكن للإنسان أن يتوصل إلى المعرفة اليقينية المطلقة في هذا العالم؟ أقصد المعرفة التي لا يمكن لأي إنسان عاقل أن يشك فيها أو ينقضها. بمعنى آخر: هل يمكن للفلسفة أن تتوصل إلى يقينيات قطعية كيقينيات علم الفيزياء والرياضيات والعلوم التجريبية؟ ثم هناك نقطة مهمة جداً: وهي أن برتراند رسل كان يكتب مؤلفاته بلغة بسيطة واضحة قابلة للفهم. وكان يفعل ذلك عن قصد بغية نشر الفلسفة العقلانية الهادفة إلى تحقيق السلام والمحبة في شتى أرجاء المجتمع، والعالم ككل إذا أمكن. وبالتالي، فالرجل كان ذا نوايا طيبة من دون أدنى شك.
أما من حيث الانخراط السياسي، فيبدو أن برتراند رسل كان من أتباع التيار السلمي المضاد للحروب والنزعة العسكرية. ولهذا السبب فإنه وقف ضد انخراط بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وكلفه ذلك غالياً لأنهم أقالوه من منصب الأستاذية في جامعة كامبردج، كما سجنوه لمدة ستة أشهر بتهمة العصيان المدني.
وفي السجن، كتب برتراند رسل كتاباً تحت عنوان «مدخل إلى فلسفة الرياضيات». وبالتالي، فإن فترة السجن كانت خصبة منتجة، ولم تذهب سدى. وقبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، دافع برتراند رسل عن سياسة السلام في أوروبا، ولكنه اعترف بأنه من المشروع محاربة شخص مجرم مثل هتلر. وبالتالي، فموقفه كان يشبه موقف غاندي الذي اشتهر بميله إلى السلام، واتباع سياسة اللاعنف. ولكنه أجاز محاربة هتلر لأنه لا تنفع معه أي سياسة سلمية؛ من يستطيع أن يفاوض هتلر أو «داعش»؟
وبالتالي، فبرتراند رسل لم يكن مسالماً بأي ثمن. فقد كان يعتقد أن الحرب يمكن أن تمثل ضرورة إيجابية في بعض الظروف، ولكن إذا كان بالإمكان تحاشيها فينبغي تحاشيها بأي شكل.
وفي أوائل العشرينيات من القرن الماضي، زار برتراند رسل، مع بعض أعضاء حزب العمال البريطاني، الاتحاد السوفياتي لكي يرى الشيوعية كما هي مطبقة على الأرض. وهناك التقى بلينين وتروتسكي. وبعد أن حيا الثورة البلشفية التي حررت الشعب الروسي من نير القياصرة والإقطاعيين الذين استعبدوا الفلاحين كأقنان، راح يهاجمها بعنف لأنها ديكتاتورية تضحي بالحريات الفردية. وهذا ما أزعج زملاءه الاشتراكيين الذين اتهموه بخيانة المبادئ الاشتراكية.
ولكن كيف يمكن لهذا الليبرالي الإنجليزي الأرستقراطي الحريص على حريته الشخصية أن يؤيد نظاماً شيوعياً شمولياً توتاليتارياً لا يعترف بأي حرية شخصية؟ مستحيل. ولهذا السبب انتقد التجربة الشيوعية، رغم أنه كان يتمنى أن تكون أفضل لكي تقدم بديلاً عن الأنظمة الرأسمالية التي يكرهها. مهما يكن من أمر، فإن الشيوعيين اتهموه عندئذ بأنه من عبيد البورجوازية وكلابها النابحين ضد الاشتراكية الحقيقية المطبقة في الاتحاد السوفياتي العظيم! وهذه هي طريقة الشيوعيين في الرد على خصومهم أو كل من يختلف معهم. وهكذا وجد برتراند رسل نفسه بين نارين: نار الرأسماليين، ونار الشيوعيين. ثم زار الفيلسوف الإنجليزي بعدئذ الصين عام 1921، ولم تكن قد أصبحت شيوعية بعد؛ كانت لا تزال فلاحية إقطاعية متخلفة. وعندئذ، اقتنع بميزات الغرب رغم رأسماليته ونواقصه، وعرف أنه يمثل مركز الحضارة العالمية، وقال إنه سيقدم النموذج الذي يحتذى للبشرية إذا ما اهتم بالعدالة الاجتماعية، وقلل من أنانيته ورأسماليته وحبه للربح والفائدة بشكل جشع لا يشبع. فالغرب هو وحده الذي يسيطر على العلم والتكنولوجيا والصناعة وكل وسائل التقدم. كما أنه يوفر الحريات الفردية للناس، رغم كل نواقص هذه الحرية. يضاف إلى ذلك أن حرية الفكر والتعددية السياسية، وكذلك حرية الصحافة، كلها أشياء غير متوافرة إلا في الغرب المستنير. ولكن الشيء الذي كان يكرهه برتراند رسل في الغرب هو النزعة القوموية الشوفينية والأنانية الضيقة التي أدت إلى انفجار حربين عالميتين في ظرف عشرين سنة (1914-1918) و(1939-1945). وقد أدى ذلك إلى قتل عشرات الملايين من البشر بشكل وحشي (بين قوسين، لحسن الحظ، فإن الاتحاد الأوروبي تشكل لاحقاً، وأثلج قلب برتراند رسل. لماذا؟ لأنه قضى على كل هذه النعرات القوموية الشوفينية المتعصبة التي أشعلت الحروب بين الأمم الأوروبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية).
على أي حال، فقد كان من أتباع التيار السلمي، تيار اللاعنف في السياسة. ولهذا السبب لم يفهمه الآخرون، فأدانوه بتهمة الانهزامية والسلبية والجبن. يضاف إلى ذلك أن برتراند رسل كان ضد الأسلحة الذرية لأنها فتاكة مدمرة. وقد وقع مع ألبرت آينشتاين بياناً بهذا الخصوص، سجنوه عليه عام 1961.
وبالتالي، ففي كل مرة كان يدفع ثمن مواقفه السياسية الجريئة. وربما لهذا السبب أطلقوا عليه لقب: فولتير الإنجليزي. لماذا؟ لأن فولتير ضُرب به المثل على «المثقف المنخرط» في قضايا العصر؛ لم أقل «المثقف الملتزم» لأن هذا المصطلح فقد بريقه ومشروعيته وسقط بسقوط الشيوعية. هذا وقد نظم محكمة عالمية ضد جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الأميركي في فيتنام، كما قلنا سابقاً. وقد عابوا عليه ذلك، وقالوا له: لا يحق لك أن تنظم أي محكمة بهذا الخصوص؛ ألا تنظر إلى الخطر الشيوعي الزاحف على أوروبا؟ لماذا لا ترى إلا الخطر الأميركي الرأسمالي؟



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».