كيسنجر... عرّاف العالم الغربي

لا يزال كبار السياسيين على تنوع اتجاهاتهم يطلبون مشورته ورأيه

«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه»  -  المؤلف: باري غوين  -  الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني»  -  2020
«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه» - المؤلف: باري غوين - الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني» - 2020
TT

كيسنجر... عرّاف العالم الغربي

«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه»  -  المؤلف: باري غوين  -  الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني»  -  2020
«حتمية التراجيديا: هنري كيسنجر وعالمه» - المؤلف: باري غوين - الناشر «دبليو. دبليو. نورتن وكومبني» - 2020

طال العمر بهنري كيسنجر. فهو الآن في السابعة والتسعين، وما زال يعدّ عند مثقفي العالم الغربي أكثر رجال الدولة والدبلوماسيّة الباقين على قيد الحياة تأثيراً في صياغة واقع عالمنا المعاصر، وقد صوّت أساتذة علوم السياسة وباحثوها عبر الجامعات الأميركيّة عام 2014 على حسبانه أكبر وزراء الخارجيّة فعاليّة خلال الخمسين سنة الأخيرة، ولا يزال كبار متعاطي السياسة في الولايات المتحدة على تنوع اتجاهاتهم يطلبون مشورته ورأيه فيما يستعصي عليهم من الأمور رغم أنّه لا يحتفظ بأي منصب رسمي، فهذا ديك تشيني الذي تولى منصب نائب الرئيس قال حينها: «ربّما أنا أتشاور مع هنري كيسنجر أكثر من أي أحد آخر»، وهذه هيلاري كلينتون تكتب: «كيسنجر صديق مقرّب، وكنت لا أستغني عن نصائحه عندما كنت أتولى منصب وزيرة الخارجيّة»، وكثيراً ما شوهد في زيارات متكررة لسكان البيت الأبيض: من كارتر إلى ريغان، ومن جورج دبليو بوش إلى ترمب اليوم.
تمتع كيسنجر دائماً في المخيال الغربي بمكانة وشهرة لم يسبقه إليهما ربما سوى نجوم الفكر السياسي في العصور الأوروبيّة ما قبل الحديثة: ميكافيللي وريشيليو وماتزييني، ومن دون أدنى شك فهو أهم من تولى منصبي وزير الخارجيّة ومستشار الأمن القومي في تاريخ الدّولة الأميركيّة، وكان يسمى داخل أوساط ثعالب السياسة في وزارة الخارجيّة البريطانيّة بـ«عرّاف العالم الغربي»، وقد حصل على جائزة نوبل للسلام (1973)، كما أعلى جائزة للكتّاب في بلاده (الجائزة الوطنيّة للكتّاب - 1980) عن مؤلفاته - المرجعيّة لمثقفي الغرب وواسعة الانتشار -، وتلك مكانة لا بأس بها لأكاديمي تخصصه الدّقيق تاريخ مؤتمر فيينا، ومهاجر من ألمانيا المدمّرة بالحروب إلى العالم الجديد.
ومع مطلق النجوميّة تلك، فإن كيسنجر وسياساته لم يكونا موضع اتفاق قط داخل الولايات المتحدة ولا خارجها، ولا أيّام توليه المناصب الرسميّة ولا بعد تركها، ولطالما تعرضت مواقفه لانتقادات من اليمين الأميركي قبل اليسار بوصفها غير أخلاقيّة وذرائعيّة ومرحليّة؛ كل بحسب مرجعيته الآيديولوجيّة... البعض رآه مجرم حرب موغلاً في دماء الملايين وظّف إمكانات دولة العالم العظمى لفرض الهيمنة على الشعوب الفقيرة وتدمير مجتمعات كاملة من لاوس وكمبوديا إلى فيتنام، ومن تشيلي إلى بنغلاديش، دون أن يرفّ له جفن... ناهيك، بالطبع، بآلاف القتلى والمعوقين من الشباب الأميركيين؛ ومنهم بيرني ساندرز المرشّح الرئاسي السابق عن الحزب الديمقراطي الذي صرّح خلال جدال انتخابي هذا العام بأنّه «فخور بأنه ليس صديقاً لهنري كيسنجر».
وعده البعض الآخر مسؤولاً عن تراجع هيبة الولايات المتحدة في العالم نتيجة دفعه باتجاه الحلول الدبلوماسيّة عبر القنوات الخلفيّة بدل فرض نفوذ الإمبراطوريّة من خلال فائض القوة الهائل؛ ومنهم الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان في خطابه أمام مؤتمر الحزب الجمهوري عام 1976، الذي اتهمه والرئيس جيرالد فورد بتعريض الولايات المتحدة للخطر وربما الاندثار بعدما تسببا بتوجهاتهما المهادنة في تراجع بلادهم إلى المركز الثاني في مواجهة القوة العسكريّة السوفياتيّة آنذاك.
هذا التفاوت الحاد في النظرة إلى الرجل وتقييم أعماله، انعكس بالضرورة على الكتب التي رصدت تجربته فانحازت إلى طرفي النقيض، لكن أغلب نتاجات المؤسسة الثقافيّة الرسميّة كانت متعاطفة معه، بل وهناك مؤخراً موجة مستجدة من رؤية أكثر تفهماً لواقعيّة «السياسة الكيسنجريّة» وتقبلاً لهفواتها الأخلاقيّة لمصلحة أهميتها الفائقة في تحقيق انتهاء الحرب الباردة لمصلحة المنظومة الرأسماليّة - الأميركيّة، ومنها مؤخراً السيرة التي وضعها له الأكاديمي اليميني البريطاني نيل فيرجسون وطوّبه فيها نبياً للمثاليّات.
ولذلك؛ فإن كتاب باري غيوين، المحرر في «نيويورك تايمز»، الصادر حديثاً «التراجيديا المحتّمة: هنري كيسنجر وعالمه*» يبدو الأكثر توازناً إلى الآن ويقدّم قراءة أعمق لـ«المنهجيّة الكيسنجريّة» - إذا جاز التعبير - ويضعها في سياقات قابلة لاستخلاص العبر - أقلّه من قبل الساسة الغربيين المعاصرين -: نظرته إلى التاريخ، وفهمه لديناميكيّات القوّة، وموقفه من الديمقراطيّة، ومنهجيته في تحقيق الغايات الاستراتيجيّة بغض النظر عن طبيعة الوسائل المستخدمة في ذلك، وتصوره للنظام السياسي العالمي.
ليس نص غيوين «حتمية التراجيديا – هنري كيسنجر وعالمه» (نحو 450 صفحة) بسيرة ذاتيّة لكيسنجر الشخص من المهد إلى اللحد؛ بقدر ما هو متابعة للرّحلة الفكريّة للرجل خلال المراحل المختلفة لحياته من بداياته الأكاديميّة بجامعة هارفارد - معاصرا لرفاق مثل زيبيغنيو بريجنسكي وصمويل هانتغتون وستانلي هوفمان وآرثر شليزنجر جونيور - مروراً بتجربة السلطة في خدمة الرئيسين نيكسون وفورد، وانتهاء بدوره لاحقاً عرّافاً و«شاماناً» يستعان برأيه في إدارة واشنطن أوجاع العالم. ولذلك يتضاءل الجانب الشخصي المحض عن «العزيز هنري» - كما كان يدعوه تحبباً الرئيس المصري الراحل أنور السادات - لمصلحة استنطاق للفلسفة السياسيّة الواقعيّة التي تستهدف الحفاظ على المصالح القوميّة العليا للولايات المتحدة ببناء توازنات للقوى الدوليّة تضمن عقلنة الصراعات، وترشيدها في إطارات خطوط حمراء وخوضها دائماً ضمن منظور طويل المدى بدلاً من الوقوع في مطبات اللحظي والمرحلي والعابر.
غيوين يرى أن تجربة كيسنجر لا يمكن فهمها دون إدراك تأثره العميق بمعضلة صراعات القوّة والنفوذ في أوروبا ما قبل الحرب العالميّة الثانية، وتلك الهشاشة المفرطة للنظام الديمقراطي الذي أمكن للقوى الفاشية في غير ما بلد تسلقه لإنهاء الديمقراطيّة الليبراليّة وانتخاب الديكتاتوريين، ومن ثم الدخول في صراعات طاحنة ضد برجوازيات الدول الأخرى كانت أثمانها البشريّة والمادية فادحة ومؤلمة.
وهو من خبرته الشخصيّة تلك طعّم السياسة الخارجيّة الأميركيّة بواقعيّة عملانيّة جريئة وازاها فكريّاً في ميادين العلوم النظريّة والمعارف الأخرى جيل المثقفين اليهود الذين هاجروا من أوروبا الرايخ الثالث واتخذوا الولايات المتحدة وطناً جديداً: حنة أريندت وليو ستراوس وهانز مورغينثاو وغيرهم الذين خلصوا بطرق مختلفة إلى النتيجة ذاتها: البشر، يمكن خداعهم وسوقهم لخدمة الديماغوجيّات وليسوا بقادرين على مواجهة الشرّ أو حتى رؤيته أحياناً.
ولا شكّ في أن كيسنجر كان أكثر بصيرة من صقور النخبة الأميركيّة بإحساسه المتشائم بالتراجيديا المحتمّة؛ إذ أدرك أن جبروت الإمبراطوريّات ليس دائماً؛ إذ هي تتجه حتماً إلى السقوط (روما القديمة) أو الضعف (بريطانيا المعاصرة)، مما يستدعي البحث عن طرائق غير القوّة العسكريّة المحض لتمديد الهيمنة، وهي عنده في بناء توازنات لقوى متقاطعة ومتنافسة في نوع من نظام عالمي يضمن أن أياً منها لن يكون قادراً على مواجهة الولايات المتحدة في أي وقت قريب.
فبدلاً من معاداة الكتلة الشيوعيّة كقطعة صماء واحدة مثلاً، كان كيسنجر وراء نظريّة منع التحالف بين الصين والاتحاد السوفياتي عبر التقارب مع بكين، وكذلك دعوته المتكررة سابقاً واليوم إلى تحجيم المنافسة الحادة مع العملاق الصيني الصاعد؛ لأن ذلك سيكون بشكل أو بآخر ترجيحاً لكفة العناصر المتصلبّة والصقور الذين قد يصبحون أعظم نفوذاً وأكثر عداءً للولايات المتحدّة، والاشتباك الإيجابي مع روسيا لمنع تصاعد خطر مواجهة نووية ديستوبيّة، وخوض حروب تقليم الأظافر الإقليميّة كوجه آخر للدبلوماسيّة وضمن حدود وقواعد اشتباك لمنع تدحرجها مواجهة كارثيّة بين الدول الكبرى.
إذا وضعنا أكوام الجثث التي تسببت بها سياسات كيسنجر وقتها جانباً، فإن هذه الواقعيّة لسياسته الباردة تبدو شديدة العقلانيّة مقارنة بالتوجهات الحاليّة لإدارة الرئيس ترمب.
غيوين مع دفاعه عن سياسات كيسنجر الدمويّة في جنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبيّة بوصفها ضرورات استراتيجيّة وتكاليف لا بدّ من دفعها لضمان استمرار توازن القوى العالمي على حاله لمصلحة تأبيد هيمنة الولايات المتحدة ومنع انكسارها، فإنّه مع ذلك يُبقى مسافة نقديّة من موضوع كتابه، تسمح له بحسبان العقل الاستراتيجي في الثنائي نيكسون - كيسنجر كان الأوّل، فيما كانت عبقريّة الثاني وراء تنفيذ الاستراتيجيّات وتحويلها إلى مكاسب للمشروع الأميركي. العارفون بدواخل إدارة نيكسون يعلمون بأن الرئيس - بصفته الشخصيّة صديقاً - دعاه لطلب معالجة سيكولوجية تخفف من غلواء هستيريا صراعات القوة التي استحوذت عليه.
ينقل جون فاريل من «نيويورك تايمز» عن كيسنجر إعجابه الشديد بشخصيّة الكاردينال ريشيليو. والأخير كان داهية سياسة قال عنه البابا أوربان الثامن يوماً: «إذا كان ثمّة إله يحكم هذه الدنيا؛ فإن الكاردينال سيواجه حساباً عسيراً على ما ارتكبت يداه، وبعكس ذلك؛ فإنّه سيكون قد عاش حياة صاخبة أصاب فيها من النجاح». البابا لن يجد بالطبع كلمات أفضل لوصف كيسنجر لو كان التقاه.


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

إميلي هنري
إميلي هنري
TT

إيميلي هنري... كتب تحقق أعلى مبيعات من دون ترويج ولا «تيك توك»

إميلي هنري
إميلي هنري

لم يسبق لإيميلي هنري قط أن أجرت جولة للترويج لأحد كتبها أو قرأت مقاطع من كتبها داخل إحدى المكتبات بهدف الترويج. أضف إلى ذلك أنها لا تملك حساباً على «تيك توك». أما حسابها على «إنستغرام»، فيتميز بصور أغلفة كتبها، بينما يخلو من جولات في خزانة ملابسها أو محاولاتها إنقاذ بعض القطط، أو صور لتناولها وجبة شهية مرتبة في الأطباق على نحو أنيق.

ووفق تعبير هنري، فإنها لا ترغب في أن تتحول إلى «كاتبة وشخصية شهيرة بعض الشيء في الوقت ذاته». إنها «روائية رومانسية»؛ وهنا انتهى الأمر. وبالتأكيد يعدّ هذا نهجاً غير مألوف، بل حتى ربما يعدّ جريئاً، في عصر يتوقع فيه قراء أعمال الخيال الشعبي مستوى من العلاقات شديدة الحميمية مع كتّابهم المفضلين.

ورغم ذلك، فإن هنري، التي تشتهر في أوساط محبيها باسم «إم هن»، نجحت في إطلاق خامس كتاب لها يحقق أعلى مبيعات في غضون 4 سنوات. واستمرت أحدث أعمالها؛ التي حققت نجاحاً مدوياً، «قصة طريفة (Funny Story)» في قائمة أفضل الكتب مبيعاً طوال 9 أسابيع. وفي أول شهرين من صدوره، حصد الكتاب نحو 60 ألف مراجعة من القراء عبر موقع «غود ريدز»، ناهيك بإطلاقه صناعة كاملة من القمصان والشموع والملصقات على صلة به.

ووفق الأرقام، باعت هنري، في المجمل، 7 ملايين نسخة داخل الولايات المتحدة منذ عام 2020. ويجري العمل على تحويل 3 من رواياتها إلى أفلام. وأعلنت هنري، الثلاثاء الماضي، أن رواية أخرى؛ هي «مكان سعيد (Happy Place)»، سيجري تحويلها إلى مسلسل على «نتفليكس».

عن ذلك، تقول هنري: «كان الأمر سريعاً للغاية. أشعر كأن السنوات الأربع الأخيرة لم تكن في حقيقتها سوى 35 ثانية فقط».

في أثناء تبادل أطراف الحديث مع هنري داخل مقهى «كوفي إمبوريم» في سينسيناتي المليئة بالأشجار، بدا من الصعب تخيل انسحابها نحو حالة من الهدوء. من جهتها، قالت هنري، وسط هدير جزازات العشب الدائرة في الحي: «أنا أحب الناس حقاً. عندما أكون وسط مجموعة كبيرة أميل إلى رفع صوتي لمستوى أعلى، لكن بعد ذلك سأعود للمنزل في صمت تام. وقد لا أتحدث مع أي شخص على امتداد أيام عدة».

بدأت هنري مسيرتها في مجال الكتابة عبر تأليف روايات موجهة للشباب، وكانت تعكف على كتابة أول رواية لها بعنوان «الحب الذي قسم العالم (Love That Split the World)»، في الصباح قبل أن تذهب للعمل بصفتها كاتبة فنية لدى شركة للهاتف والإنترنت والتلفزيون، وكانت مسؤولة عن اللغة الغامضة فوق صناديق الكابلات، ولم يكن هذا العمل ممتعاً لها.

وعليه؛ استقالت هنري بمجرد حصولها على سلفة كتابها الافتتاحي؛ وهو كتاب متواضع، وفق ما ذكرت، ثم كتبت أو شاركت في تأليف 3 كتب أخرى للجمهور الأصغر سناً.

تقول: «وصلت إلى لحظة في أثناء كتابتي لجمهور البالغين الأصغر سناً شعرت عندها بالإرهاق. لم يكن لديّ أي شيء جديد لأقوله».

أما كتابها الأول للبالغين، «بيتش ريد (Beach Read)»، فكان فرصة لها كي تكتب من دون ضغوط الجمهور صغير السن. ورغم أن كثيرين رأوا هذا أبسطَ مشكلة يمكن أن يواجهها أي كاتب، فإن هنري تنصح اليوم الكتاب الطموحين بالاستمتاع بخصوصية العمل على مشروع ما دون إقحام القراء في الأمر. وقالت: «من المتعذر أن نعود يوماً إلى هذا الشعور نفسه من المتعة».

صدرت رواية «بيتش ريد» في 19 مايو (أيار) 2020، تقريباً قبل أسبوع من تجاوز أعداد ضحايا جائحة «كوفيد19» داخل الولايات المتحدة عتبة المائة ألف. وبطبيعة الحال، كان أقرب إلى المستحيل تنظيم فعاليات تتضمن التفاعل مع الجمهور. وبدا الموقف منطوياً على مفارقة بالغة، بالنظر إلى أن الرواية كان المقصود منها أن يستمتع القراء بمطالعتها على رمال الشاطئ.

ومع ذلك، ورغم استمرار إغلاق كثير من الشواطئ العامة، فإن الرواية حققت نجاحاً ساحقاً عبر «تيك توك». ويوماً بعد آخر، زحفت الرواية نحو قائمة أفضل الكتب مبيعاً حيث ظلت لأكثر من عام.

في هذا الصدد، قالت أمادنا بيرجيرون، مسؤولة التحرير لأعمال هنري لدى «بيركلي»: «في ذلك الوقت، كان كثيرون يتطلعون إلى شيء يضفي على حياتهم شعوراً بالإشراق والراحة والدفء، وفي الوقت نفسه لا يخجلون من التعبير عن الحزن. وبالفعل، وفرت رواية (بيتش ريد) للقارئ كل هذه الأشياء».

وشكل ذلك سابقة جرى الحفاظ عليها عبر الروايات الثلاث التالية لهنري: «أشخاص نلتقيهم في الإجازة (People We Meet on Vacation)»، و«عشاق الكتب (Book Lovers)» و«مكان سعيد (Happy place)». وبمرور الوقت، زادت المبيعات؛ كتاباً وراء كتاب، بينما ظلت هنري داخل كنف منزلها في سينسيناتي.

تقول: «أعتقد أنني لو كنت قد قمت بجولة ترويجية للرواية، أو لو أن (بيتش ريد) لم تصدر في فترة الجائحة، لكان فريق العمل قد اعتقد أن المبيعات تزداد بفضل الجولات التي أقوم بها. وبالتالي، كانوا سيطلبون مني إنجاز مزيد منها. إلا إنه بالنظر إلى أن كل شيء كان ناجحاً من دون اضطراري إلى تنظيم جولات، فقد تعاملوا بمرونة مع رغبتي في البقاء داخل المنزل».

يذكر أنه في وقت مبكر من عملها الأدبي، واجهت هنري ضغوطاً للخروج إلى العالم عبر نافذة «تيك توك». وعن هذا، تقول: «أعلنت رفضي الفكرة. عندما يموت (إنستغرام)، سأموت معه. هذا آخر حساب لي عبر شبكات التواصل الاجتماعي».

وتضيف: «بدأت تداعب خيالي أحلام؛ لو أنني بدأت مشوار الكتابة قبل عصر شبكات التواصل الاجتماعي. في تلك العصور، لم أكن لأعلم كيف يبدو كاتبي المفضل، ولم أكن لأعبأ أو حتى أفكر في الذهاب إلى فعالية يشارك فيها. من الغريب أن تحلم بالكتابة وهي في صورة ما، ثم تكبر وتبدأ مسيرة الكتابة بالفعل لتجد أنها تحولت إلى صورة أخرى مختلفة تماماً».

وتنسب هنري وبيرجيرون ودانييل كير، مساعدة مدير شؤون الدعاية لدى «بيركلي»، جزءاً من الفضل في النجاحات التي حققتها روايات هنري إلى تصميمات الأغلفة العصرية والبراقة التي صممتها ساندرا تشو، خصوصاً الاهتمام الذي توليه للألوان ولغة جسد الشخصيات.

في رواية «قصة طريفة»، بذلت تشو مجهوداً كبيراً للوصول إلى الوضعية المثالية لجسد الشخصية الرئيسة بالرواية. وشرحت تشو أن «دافني»، أمينة مكتبة أطفال، بدت «متعجرفة بعض الشيء في البداية». في النهاية، نجحت تشو في تصويرها على نحو يعكس التوازن الصحيح بين الذكاء والحذر. وبناءً على طلب هنري، اختارت تشو أن ترسم «دافني» بملابس بسيطة، مع ارتدائها حذاء «كروكس» أصفر.

والآن، هل ثمة احتمال أن تخوض هنري جولات للترويج لأعمالها الجديدة، خصوصاً مع عودة الجولات الترويجية من جانب كتاب آخرين؟

عن هذا الأمر، تجيب كير: «ندرس دوماً هذه الفكرة، لكننا نركز اهتمامنا، في نهاية المطاف، على سبل مثيرة ومبتكرة للترويج لإيميلي ورواياتها، والتفاعل مع الجمهور والوصول إلى قراء جدد».

بمعنى آخر؛ نوقش الأمر بالفعل، لكن لم يُقَر جدول زمني محدد لأية جولات ترويجية بعد.

من ناحية أخرى، ظهرت هنري في 3 برامج تلفزيونية ـ «غود مورنينغ أميركا» و«توداي» و«تامرون هول». واستلهاماً من تجربة روائيين آخرين غالباً ما ينظمون حفلات في ساعات متأخرة من الليل، احتفالاً بإطلاق كتاب جديد، ساعدت «بيركلي» في تنظيم أكثر عن 200 فعالية احتفالية بإصدار رواية «قصة طريفة» عبر مكتبات بمختلف أرجاء البلاد. ونُظّم أكثر من 50 منها عند منتصف الليل.

في هذا السياق، عبرت ليا كوك، مالكة دار «ذي ريبيد بوديس»، المختصة في الأعمال الرومانسية، عن اعتقادها بأن «قراء الأعمال الروائية الخيالية يشكلون فئة مميزة بحد ذاتها، من حيث الولاء. وقد نفدت نسخ الرواية لدينا في 3 أيام فقط».

في 22 أبريل (نيسان) الماضي، تدفق أكثر من 100 من القراء المتحمسين على متجر الدار في حي بروكلين بنيويورك. وكانت هناك أطباق من الشوكولاته، ومطبوعات فنية مستوحاة من رواية «قصة طريفة» ومحيط بحيرة ميتشغان الذي تدور أحداث الرواية في أجوائه... وفجأة، ظهرت هنري نفسها تتجول وسط الحشد مثل ضيف آخر مبتهج. وكانت ترتدي ملابس بسيطة براقة تعكس أجواء الشاطئ والبحر.

وفي مقطع فيديو، ظهر القراء وهم يستقبلونها بسعادة غامرة وحماس وتصميم على التقاط هذه اللحظة بهواتفهم الخاصة. وتعالت صيحات إحدى المعجبات: «يا إلهي! يا إلهي!». أما هنري، فرحبت بالقراء، بينما حمل وجهها شعوراً بالانتصار والارتياح.

تقول لنا: «كان هناك أشخاص تعرفت عليهم بعدما تابعتهم سنوات وهم يروجون لكتبي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كانت تلك لحظة مميزة ورائعة للغاية، لكن الشيء الجميل حقاً في قرائي أنهم شيء خارج عني؛ إنهم مجتمع قائم بذاته».

يُنسب جزء من الفضل في النجاحات التي حققتها روايات إيميلي هنري إلى تصميمات الأغلفة العصرية والبراقة

يذكر أن النسخة ذات الغلاف المقوى لرواية «قصة طريفة» باعت نسخاً أكثر بنسبة 850 في المائة خلال الأسابيع الأربعة الأولى من إصدارها، مقارنة بالنسخة ذات الغلاف الورقي في الفترة ذاتها، رغم أن تكلفتها تبلغ نحو الضعف. وبحلول أواخر مايو (أيار)، كانت لا تزال في مقدمة الكتب داخل كثير من مكتبات سينسيناتي.

ومع ذلك، فإنها عندما همت بمغادرة مقهى «كوفي إمبوريم» برفقة زوجها للعودة إلى المنزل، لم تكن هنري تتبختر في مشيتها مثل شخصية مهمة أو بارزة أو حتى شخص تجذب كتبه القراء إلى المكتبات في منتصف الليل؛ وإنما كانت تسير بجدية تليق بكاتبة عاقدة العزم على العودة إلى العمل.

خدمة «نيويورك تايمز»