يعد محمد سيفاوي واحداً من أشهر الصحافيين الجزائريين المقيمين في فرنسا إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق. وهو من مواليد الجزائر عام 1967: أي لم يتجاوز الخمسين إلا قليلاً. وقد نشر عدة كتب أمّنت له شهرة واسعة. لكنّ شهرته لا تعود إلى نشر الكتب فقط وإنما إلى كونه أحد الوجوه التلفزيونية المعروفة. إنه مثقف الأضواء الإعلامية من أمثال برنارد هنري ليفي أو ميشيل أونفري أو حتى إريك زمور، عدوّه اللدود. وعندما تراه على الشاشة في هذا البرنامج السياسي أو ذاك يدهشك برجاحة عقله وصواب منطقه وقدرته الكبيرة على الإقناع. والواقع أنه يتمتع بشخصية متوازنة جداً وواثقة من نفسها تماما. بل إنه يبدو بحجمه الضخم نسبياً وقوة عضلاته وعرض منكبيه كأنه مصارع تلفزيوني من الدرجة الأولى! فهو جريء جداً ولا يتوانى عن الاقتحام والمخاطرة بنفسه إذا ما استدعت الضرورة ذلك. إنه واحد من أكبر مصارعي عصرنا الراهن لـ«الإخوان» المسلمين ولليمين الشعبوي المتطرف الفرنسي الذي يكره العرب والمسلمين. وهذا يعني أنه مصارع على جبهتين اثنتين لا جبهة واحدة: جبهة التطرف الفرنسي، وجبهة التطرف العربي.
سوف نتوقف هنا عند آخر كتابين ضخمين أصدرهما مؤخراً في العاصمة الفرنسية ألا وهما: «حل واحد: التمرد والعصيان»، والثاني هو «تقية! كيف يحاول الإخوان المسلمون اختراق فرنسا أو التغلغل فيها». فهما من أهم ما كتب.
في الكتاب الأول يروي لنا محمد سيفاوي قصة حياته الفكرية والسياسية في آن معاً. إنه عبارة عن سيرة ذاتية تبتدئ بالجزائر وتنتهي بفرنسا التي وصل إليها وهو في الثلاثين من عمره أو أكثر قليلاً. وهو كتاب سلس ممتع كمعظم كتب السيرة الذاتية الحميمية. ونفهم من كلامه أن معركته الأساسية كانت منذ الأساس مع الأصولية الظلامية التي دمّرت بلاده والتي توشك أن تدمر فرنسا ذاتها بل والعالم كله. يقول ما معناه: «صحيح أني جزائري وأعتز بجزائريتي ولكن عندما يتصرف شخص جزائري بشكل خاطئ فإني أوبّخه. صحيح أني مسلم أباً عن جد وأفتخر بإسلامي ولكن عندما يتصرف مسلم ما بشكل متعصب وطائفي وعدواني على الآخرين فإني أُدينه وأتبرأ منه. قناعاتي الفلسفية تنويرية: أي مع التسامح وضد التعصب من أي جهة جاء. فأنا أُدين اليمين المتطرف الفرنسي مثلما أُدين اليمين المتطرف الأصولي الإسلاموي سواء بسواء. إني أدافع عن القيم التنويرية الكونية التي تنطبق على جميع البشر وجميع الشعوب دون استثناء. فالناس الطيبون الأخيار موجودون في كل الشعوب والأديان وكذلك الناس الأشرار. وبالتالي فلا مبرر للطائفية ولا للعنصرية. فقد يكون الإنسان الأبيض من أحقر الناس والإنسان الأسود من أشرف الناس، والعكس صحيح أيضاً. وهذا يعني أنه ينبغي احترام الكرامة الإنسانية لأي شخص طيب ومستقيم بغضّ النظر عن أصله وفصله أو طائفته وعرقه ومذهبه».
ثم يعترف المؤلف بأن هذا الكتاب الضخم الذي يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير كان قد كلفه جهداً وعرقاً بل واستغرقت عملية كتابته سنة ونصف السنة. وهو كتاب ذاتي، جواني، داخلي. لماذا نقول ذلك؟ لأنه يروي الكثير من التفاصيل عن حياته الشخصية ويكشف الكثير من أسراره الذاتية. من هنا سر جاذبيته وإمتاعه. ولكنه كتاب موضوعي أيضاً لأنه يعالج القضية الأساسية التي تشغل عصرنا: أي الأصولية الجهادية المتطرفة. والواقع أن الكتاب يحتوي على معلومات هائلة وتحليلات تنويرية مضيئة عن قضايا أساسية: كالحرب الأهلية الجزائرية أو ما تدعى بالعشرية السوداء الرهيبة. كما يتحدث الكتاب أيضاً عن جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وعن تنظيم «القاعدة» الإرهابي، وعن حرب أفغانستان وكيفية تشكل التيار الجهادي هناك، إلخ... ولا ينسى المؤلف قضايا الشرق الأوسط الحساسة، وكذلك قضايا العالم العربي. كما يعطي رأيه في أشخاص من نوعية طارق رمضان، وإريك زمور، والروائي ميشيل ويلبيك، والعديد من المثقفين الفرنسيين الآخرين. وبالتالي فشيء ممتع ومشوق أن نعرف رأيه في كل هؤلاء ولماذا ينتقدهم أو يهاجمهم أحياناً... ونفهم من كلامه أنه مسلم علماني لا مسلم إخواني أو أصولي. وهذه بدهية. لماذا؟ لأن العلمانية في رأيه هي الحرية والتسامح ومعاداة الطائفية والتعصب. فالدولة العلمانية المتسامحة لا تفرق بين المتدين وغير المتدين ولا تفرق بين المسلم وغير المسلم سواء أكان مسيحياً أم يهودياً أم بوذياً، إلخ... فكلهم مواطنون من الدرجة الأولى وعلى ذات المستوى ولا يوجد أحد أفضل من أحد إلا إذا كان يخدم المجتمع والمصلحة العامة بشكل أفضل. على أي حال فإن المؤلف من أتباع الفلسفة التنويرية الإنسانية الكونية: أي فلسفة فولتير وروسو وكانط وبقية العباقرة. وبما أن العدو الأول لهذه القيم هم الإخوان المسلمون والجهاديون الدمويون فإنه يحاربهم ويتبرأ منهم ويعدّهم خطراً ماحقاً على العالم الإسلامي قبل العالم الغربي.
- استراتيجية الإخوان الظلامية
بعد أن وصلنا في الحديث إلى هذه النقطة دعونا نتحدث عن رأيه في الإخوان المسلمين الذين كرّس لهم كتابه الأخير الصادر قبل بضعة أشهر في العاصمة الفرنسية تحت عنوان: «تقية! كيف يحاول الإخوان المسلمون اختراق فرنسا أو التغلغل فيها». ونفهم منه أنه أكبر مصارع لهم ليس فقط في الجزائر وإنما في فرنسا أيضاً. إنه يلاحقهم ويلاحقونه على مدار حياته وتقلباته في الأوطان والبلدان. لا مفر منهم أو من مواجهتهم لأنهم يشكلون آخر آيديولوجيا توتاليتارية عدوانية في العالم. إنهم يريدون تنميط المجتمع فكراً وسلوكاً من أعلى رأسه إلى أسفل قدميه. وهم يفعلون ذلك من خلال فرض عقيدتهم الدوغمائية المتحجرة على الجميع، رجالاً ونساءً، شباناً وشيباً. ومن يحيد عنها قيد شعرة يعدّونه معادياً للإسلام. والأنكى من ذلك أنهم يعتقدون أن تفسيرهم الضيّق والمبتسر للإسلام هو الإسلام ذاته! ولا يخطر على بالهم أن الدين حمّال أوجه وأن تفسيرهم الخاص ليس إلا نقطة صغيرة في بحر الإسلام. فهناك لحسن الحظ تفسير آخر ممكن لتراث الإسلام العظيم غير تفسير الإخوان المسلمين. وهو تفسير أفضل وأعظم بما لا يقاس. وبالتالي فنحن أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما إسلام الأنوار وإما إسلام الإخوان. ولكم الخيار.
لماذا وضع محمد سيفاوي كلمة «تقية» العربية على عنوان كتابه؟ وهي كلمة لا يفهمها القارئ الفرنسي الذي لا يعرف العربية. لأنها تلخص تماماً الطريقة الماكرة لـ«الإخوان» المسلمين في التغلغل داخل مجتمع معين. فهم يقدمون أنفسهم في البداية على أساس أنهم وسطيون، معتدلون، محترمون، لا علاقة لهم بالحركات الجهادية المتطرفة. ولكن كل هذا تلبيس وتدليس ولبس لقبعات الإخفاء كما يقول المؤلف. إنهم يُظهرون وجهاً ناعماً أمام الشعب الفرنسي ويخفون وجههم الحقيقي الكالح لكي يستطيعوا التغلغل أكثر فأكثر داخل هذا المجتمع. هكذا نلاحظ أن شعارهم في الداخل والخارج كان ولا يزال هو هو: اتبعوا مذهب التقية. لا تُظهروا وجهكم الحقيقي فوراً لكيلا يرتعب الناس منكم. وإنما تمسكنوا قبل أن تتمكنوا! ولكن على عكس ما يظن بعض المثقفين الفرنسيين فإنهم لا يسعون إلى القفز على السلطة في فرنسا، فهذا شيء مستحيل ويتجاوز إمكانياتهم. ولكنهم يسعون إلى السيطرة على الجاليات العربية والإسلامية الضخمة العائشة داخل فرنسا. وهي تعد بالملايين. ولهذا السبب فإنهم يوزعون شخصياتهم على المناطق الفرنسية شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً. على هذا النحو شكّل الإخوان المسلمون شبكة أخطبوطية طويلة عريضة تشمل الأراضي الفرنسية كلها تقريباً.
أخيراً نقول ما يلي: لا ينبغي ترك جالياتنا العربية الإسلامية فريسة لجماعات قطر وتركيا وتيار الإخوان المسلمين. وإنما ينبغي أن تستلمها تيارات التنوير العربي المتسامح التي جسدتها مشاريع مثل «وثيقة مكة المكرمة» التي أقامت المصالحة التاريخية بين الإسلام وبقية الأديان من جهة، ثم بين الإسلام والحداثة من جهة أخرى، و«وثيقة الأخوة الإنسانية» التي لقيت أصداء واسعة وأصبحت منهجاً رائعاً للتعاون والتعايش بين المسلمين وغير المسلمين في شتى أنحاء العالم، والدعوات إلى إصلاح فهم الدين ومصالحته مع العصر، عصر العلم والفلسفة التنويرية. زعماء الاعتدال والانفتاح والتنوير العرب هم الذين سيقصمون ظهر المشروع «الإخواني» الظلامي برمته.
الجزائري سيفاوي المصارع على جبهتين... {الإخوان} واليمين الشعبوي
صار واحداً من مثقفي الأضواء الإعلامية في فرنسا
الجزائري سيفاوي المصارع على جبهتين... {الإخوان} واليمين الشعبوي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة