«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» تجني ثروة طائلة عن طريق اتجارها في المخدرات

مختار بلمختار ملقب بـ«السيد مارلبورو» لشهرته في تهريب السجائر

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» تجني ثروة طائلة عن طريق اتجارها في المخدرات
TT

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» تجني ثروة طائلة عن طريق اتجارها في المخدرات

«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» تجني ثروة طائلة عن طريق اتجارها في المخدرات

ليس تنظيم داعش الإرهابي، الوحيد في العالم الذي يحصد ثروات طائلة جراء نشاطات إجرامية، فتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» نجح بتكديس أموال ضخمة نتيجة انخراطه في أنشطة، كتهريب وتجارة المخدرات وعمليات الخطف.
تُعد عمليات التهريب العمود الفقري المالي للجماعات المتطرفة التي تسيطر إقليميا واقتصاديا على منطقة شاسعة من الصحراء الأفريقية، مما يوفر لها حرية تامة لتنفيذ عدد من الأنشطة غير المشروعة. وفي طليعة هذه الجماعات يأتي تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، وهي جماعة مسلحة متشددة تمتد تحركاتها في الصحراء وبلدان الساحل الأفريقي. نشأ هذا التنظيم عن «الجماعة الإسلامية المسلحة» سابقا التي عارضت بعنف العلمانية في الجزائر في التسعينات. وبحلول عام 1998 رفض الكثير من قادة «الجماعة الإسلامية المسلحة» الممارسات الوحشية التي كانت تُمارس، مثل قطع الرؤوس، وانفصلوا لتأسيس «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» وفقا لدراسة نشرها «مجلس العلاقات الخارجية» (CFR) ليعودوا لاحقا وينضموا إلى تنظيم القاعدة في عام 2000. ويطلقوا على أنفسهم تسمية «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي».
وتتمثل أهداف «القاعدة في المغرب الإسلامي» في القضاء على النفوذ الغربي في شمال أفريقيا، والإطاحة بحكومات تعد «مرتدة» بما فيها حكومات الجزائر وليبيا ومالي وموريتانيا والمغرب وتونس، وإقامة عوضا عنها أنظمة أصولية «وفقا لمجلس العلاقات الخارجية». وتنقسم هذه المجموعة إلى «كتائب» عدة تقودها شخصيات بارزة، مثل الجزائري عبد المالك دروكدال المعروف أيضا باسم أبو مصعب عبد الودود، ومختار بلمختار الذي يعد من الأعضاء المؤسسين للجماعة قبل أن ينشق عنها في أواخر عام 2012 وينشئ منظمته الخاصة المعروفة باسم كتيبة «الملثمون». ووفقا لمجلس العلاقات الخارجية «يُعتقد أن بلمختار هو العقل المدبر وراء أزمة الرهائن في يناير (كانون الثاني) 2013 في منشأة الغاز الطبيعي عين أميناس في شرق الجزائر، التي أودت بحياة ما لا يقل عن 38 من المدنيين. وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، أعلنت جماعة مسلحة جديدة تطلق على نفسها اسم (جنود الخلافة في الجزائر) انشقاقها عن (القاعدة في المغرب الإسلامي) وأقسمت الولاء لـ(داعش) الذي يقاتل في سوريا والعراق».
ومع الوقت، تحولت هذه المجموعات إلى عصابات تعتمد على التهريب لتمويل نشاطها الجهادي؛ تسلط داليا غانم الباحثة في مركز كارنيغي في حديث لـ«الشرق الأوسط» الضوء على مصادر متعددة تستعملها هذه الجماعات للحصول على تمويل: «منها ضرائب المرور التي تؤمّن للمهربين حق المرور، والاتجار بالمخدرات وتهريب السجائر وتهريب النفط والغاز والسيارات والكحول، فضلا عن تسهيل اللجوء غير الشرعي عبر القوارب للوصول إلى أوروبا، وأخيرا عمليات الخطف».
وقد يكون تهريب المخدرات النشاط الأهم لدى هذه الجماعات؛ فبعد أن أُخضِعت الطرق القديمة عبر منطقة البحر الكاريبي لمراقبة مشددة، تزايد تهريب الكوكايين على متن القوارب والطائرات إلى غرب أفريقيا ليجري لاحقا تهريبه عبر الصحراء إلى أوروبا مرورا بمالي ومناطق أخرى تسيطر عليها «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» وجماعات إرهابية إسلامية أخرى. ويشير مجلس العلاقات الخارجية إلى أن «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» تضمن تهريب المخدرات وتؤمن مسلكا ساحليا حيويا بين الموردين في أميركا اللاتينية والأسواق الأوروبية.
وفي هذا السياق، أشارت مقالة نشرت في صحيفة «غارديان» البريطانية في شهر سبتمبر (أيلول) إلى شجاعة وجرأة الجماعات الجهادية في المنطقة الواقعة تحت سيطرة «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي». ودائما نقلا عن صحيفة «غارديان»، تقدم الجماعات المسلحة رواتب مرتفعة جدا لتهريب الكوكايين الآتي من أميركا الجنوبية مرورا بمالي والنيجر وتشاد وليبيا. وتتميز مالي بخصائص مهمة لمهربي المخدرات، بما أنها تشكل محطة ملائمة في منتصف الطريق فضلا عن غياب حكومة قوية في البلاد، وعدم اللجوء إلى أي تكنولوجيا متطورة لوضع حد لمحاولات التهريب. «تأتي المخدرات من كولومبيا وفنزويلا وتمر عبر غانا وغينيا بيساو لتصل إلى موريتانيا ونيجيريا والسنغال ومالي. والكل يتذكر طائرة (بوينغ الكوكايين)، كما سمتها وسائل الإعلام التي سقطت في عام 2009 بينما كانت مقبلة من فنزويلا إلى مالي وعلى متنها 10 آلاف طن من الكوكايين، وتم العثور على حطامها قرب غاو شمال شرقي مالي. في النهاية، تدخل المخدرات إلى القارة الأوروبية عبر الجزائر والمغرب»، وفق «غارديان».
إلى ذلك، أشار مقال آخر نشر العام الماضي في الصحيفة البريطانية «صنداي تلغراف»، إلى أن تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي فرض «رسما» بقيمة 2000 دولار على كل كيلوغرام من المخدرات يجري تهريبه. وبذلك، يحصد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي والجماعات الإرهابية المتحالفة معه، الملايين من الدولارات كل عام من خلال توفير «مرافقة» مسلحة لتجار تهريب المخدرات عبر الصحراء. ووفقا لتقديرات مكتب الأمم المتحدة لمراقبة المخدرات(UNODC) يمر نحو 35 طنا من الكوكايين عبر غرب أفريقيا كل عام.
فضلا عن ذلك، تتضمن النشاطات المربحة الأخرى غير المشروعة التي تعتمدها هذه الجماعات الاتجار بالأسلحة وبالعربات والسجائر لدرجة جعلت بلمختار يحصل على لقب «السيد مارلبورو». كما أنه في أعقاب الحملة الجوية على ليبيا لحلف الناتو عام 2011. شهدت المنطقة الخاضعة لسيطرة «القاعدة في المغرب الإسلامي» تدفقا كبيرا للأسلحة سمح لها بالاستفادة من هذه التجارة بشكل كبير.
جنى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي والكثير من حلفائه، مثل مجموعة بلمختار، المال أيضا من عمليات الخطف والمطالبة بالفديات. «إلا أنه من الصعب جدا تقدير المبالغ التي وصلت إلى أيديهم، لأن الحكومات عموما لا تعترف بها وعادة تنفي دفع الفديات»، وفق غانم. ففي عام 2013. دفعت فرنسا مبلغا يصل إلى 25 مليون يورو (أي 34 مليون دولار) فدية لتنظيم القاعدة لإطلاق سراح 4 فرنسيين احتجزوا رهائن لمدة سنة في منطقة الساحل الأفريقي، وفقا لمصادر كانت مقربة من العملية. وفي ذلك الوقت، نفى وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لو دريان دفع أي مبلغ من المال لتأمين الإفراج عن بيير ليجراند ودانيال لرب وتييري دول ومارك فيريه. أما مبالغ الفدية «فتتراوح عادة بين 5 إلى 10 ملايين دولار لكل رهينة اعتمادا على جنسيتها»، تقول غانم.
وعمليات الخطف هذه ليس مصدرا مهما للأموال فحسب، إنما تسهل أيضا تبادل السجناء، وتزرع الخوف في نفوس المؤسسات الأجنبية الموجودة في المنطقة. وفي هذا السياق، صرح ديفيد كوهين نائب وزير الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 أن الخطف مقابل فدية يمثل اليوم «التهديد الأخطر في تمويل الإرهاب». وتأتي الأرقام التي قدمتها غانم لتؤكد على هذه المقولة؛ ففي عام 2004، سُجّلت نحو 11 حادثة خطف في المنطقة، في حين ارتفع عددها في عام 2008 إلى 59 حالة.
تمكنت «القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» من غسل وتبييض أموالها المكتسبة من الخطف والاتجار غير المشروع عبر استثمارات في العقارات والأراضي، خاصة في الجزائر وشمال مالي. وتؤكد غانم أن قوة استثمار تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي تتفوق على الحكومة نفسها.
أما لمحاربة تمدد هذا التنظيم الإجرامي ونشاطات التهريب، يمكن اتخاذ مبادرات عدة بدءا من جمع المعلومات الاستخباراتية، وصولا إلى وضع آليات تنظيمية ورقابية فاعلة وإدارة عمليات تسجيل الشركات والأعمال بشكل دقيق ومنظم.
كما ينبغي على بلدان الساحل الأفريقي أن تحسّن التنسيق فيما بينها في مكافحة الإرهاب وغسل الأموال، بما أن تعاونها يبقى ناقصا في الوقت الراهن، كما عليها أن تعزز تعاونها مع نظرائها الأوروبيين. فخلال أحداث عين أميناس في يناير 2013 في الجزائر لم تسمح السلطات الجزائرية بتدخل الأطراف المعنية كفرنسا واليابان من بين غيرها من البلدان، بما أنها اعتبرت أن مبدأ السيادة متقدم على أي مبدأ آخر. يصب هذا التباعد في نهاية المطاف في مصلحة الجماعات الإرهابية لأنها تعلم جيدا كيف يعمل وكيف يفكر «عدوها»، من دون أن يكون العكس صحيحا.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.